كتب العديد من المفكرين والفلاسفة عن الثورات في العصر الحديث، ومع ذلك ما تزال الثورة من أكثر القضايا إثارة للنقاش، والجدل، والاختلاف، بالنظر إلى الدلالات والحمولات المتعددة التي يحملها مفهومها، سواء على مستوى الفكر أم على مستوى الواقع والتغير الذي يُحدثه، خاصة وأن تاريخ الثورات يحفل بالحمولات الرمزية، فضلًا عن الآمال والتطلعات والمفارقات والفواجع والآلام، حيث صاحب العنف معظم الثورات، وخلّف مآسي وجراحًا وندبات، وذلك على الرغم من أنها تحمل أفكارًا وقيمًا جديدة، تلك التي تصدح بها حناجر الجماهير، ثم تحاول النخب السياسية ترجمتها إلى مشاريع على أرض الواقع لتحقيق تطلعات الشعوب في الوصول إلى غد أفضل. ولكن الثورات باتت محكومة في غالب الأحيان بمعادلة الداخل والخارج، ولم تعد شأنًا داخليًا أو بالأحرى وطنيًا خالصًا، بل تثير تدخلات قوى الخارج التي تحاول أن تجيّرها وفق مصالحها. وقد شغل موضوع مآل الثورات العديد من الباحثين والمؤرخين، ومن بينهم الكاتب الأميركي دانيال شيرو، الذي يتناوله في كتابه “هل قلت تريد ثورة؟ المثالية الراديكالية وعواقبها الوخيمة”، (ترجمة: مجد أبو عامر، يارا نصّار، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2025)، حيث يطرح أسئلة حول مآل عدد من ثورات العصر الحديث التي انتهت مآسي دموية، بدءًا من الثورة الفرنسية، ومرورًا بالثورات التي حدثت في المكسيك وروسيا وألمانيا والصين والجزائر وإيران، وصولًا إلى الثورات في أوروبا الشرقية وثورات الربيع العربي، مع التركيز على عدم تمكن الأيديولوجيات الثورية التي وعدت بإصلاحات جذرية من تحقيق وعودها وقيمها العليا، وانزلقت إلى ممارسات قمعية عنيفة، وانتهى بعضها إلى حالات من الفساد السلطوي الذي استدعى في غالب الأحيان ثورات جديدة. لكن كل تلك الثورات كان لها مبرراتها بصرف النظر عن مآلاتها وخواتيمها، لذلك لا بد من النظر في دينامياتها، والبحث عن تفسيرات للأسباب التي دفعتها إلى مصير مأساوي، والنظر في كيفية تجنّبه.
ينطلق شيرو من المصير المأساوي الذي انتهى إليه الماركيز دو كوندورسيه، أحد مفكري الثورة الفرنسية، الذي مات مسمومًا في سجنه عام 1789. ومثّل موته في ذلك الوقت الانهيار الكامل للّيبرالية في الثورة الفرنسية، حيث كان كوندروسيه فيلسوفًا تنويريًا، ومدافعًا عن حقوق المرأة، ومؤيدًا قويًا للديمقراطية. وكانت نهايته على أيدي المتطرفين عملًا عنفيًا، من شأنها أن تتكرر في الثورات الكبرى في القرن العشرين، بدءًا من الثورة المكسيكية عام 1910، وصولًا إلى الثورة الإيرانية عام 1979، حيث اشتركت معظم الثورات في تهميش الثوريين الأكثر اعتدالًا. وقبل عامين من وفاة كوندورسيه، هرب الماركيز دي لافاييت، وكان أحد القادة القلائل للثورة الفرنسية، وذلك تفاديًا للاعتقال، وربما الإعدام، حيث أصدر وزير العدل في حكومة اليعاقبة مذكرة اعتقال بحقه، ولإنقاذ نفسه هرب إلى النمسا. لكن ألقي القبض عليه هناك وسجن خمس سنوات.
يرى المؤلف أن المعتدلين يواجهون مأزقًا في الثورات، خاصة حين تفشل المؤسسات ويستشري الاستقطاب في المجتمعات، عندها سيبدو مصير لافاييت وكوندورسيه وكأنه حتمي لكل الوسطيين والمعتدلين، لكن هذا المصير لا يحدث في جميع الثورات. ويظهر ذلك جليًا في دراسة تاريخ الثورات، سواء اليمينية أو اليسارية، التي حدثت في العالم منذ أواخر القرن الثامن عشر وصولًا إلى القرن الحالي، حيث تبرز أسباب عديدة لانزلاق كثيرين إلى التطرّف الهدّام، لذا من الضروري دراسة أسباب الفشل، وأسباب عدم طغيان الأيديولوجيات الراديكالية التي تعد بإصلاحات جذرية على الحلول المعتدلة للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الجسيمة، وذلك على الرغم من أن الثورات تُستوحى من القيم والمثل الداعية إلى بناء مجتمع أفضل من خلال التغيير المتعمّد والسريع، للقواعد والمؤسسات السياسية الرئيسية. وفي معظم الحالات تنطوي الثورة على رغبة في إجراء تحول في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الإصلاح التدريجي ربما يفضي مع مرور الوقت إلى تغييرات جذرية، مثل تلك التي ترمي إليها الثورات، لكنها لا تعد ثورة، وعليه، لذلك لا يثق قادة الثورات بالإصلاحات التدريجية والمجتزأة.
يظهر تاريخ الثورات أنها تختلف من حيث النتائج، فبعضها ينتهي بنجاح نسبي، فيما يفضي بعضها الآخر إلى حروب أهلية أو تدخل أجنبي. وعليه، يعتبر المؤلف أن الثورات تمر بأربع مراحل، تتميز مرحلتها الأولى بفشل النخب القديمة في حل المشكلات الكبرى، ما يفتح الباب أمام انهيار النظام، كي يتقدم الفاعلون السياسيون، أصحاب الخبرة المحدودة في الحكم والإدارة، ليصبحوا هم النخبة الجديدة. وهي عادة نخبة معتدلة نسبيًا، لذلك تفشل في تلبية مطالب وغضب كثيرين ممن ينشدون التغيير الجذري، أو حتى فهم تلك المطالب. ويمهد هذا الفشل الطريق أمام موجة جديدة من الثوريين الأكثر قسوة، الذين لا يترددون في استخدام وسائل أكثر عنفًا للاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها. وتظهر في المرحلة الثانية ردة الفعل المعادية للثورة التي تؤدي إلى حرب أهلية أو تدخل أجنبي. ويتبنى في المرحلة الثالثة القادة الثوريون الراديكاليون قيمًا غير واقعية أو طوباوية غير قابلة للتطبيق، إذ يجد أصحاب السلطة الجدد أنه من أجل البقاء فيها لا بد من تعزيز الأجهزة والمؤسسات القمعية، فتصبح الأجهزة العسكرية والأمنية التي أنشأتها الأنظمة الراديكالية متاحة للاستخدام من قبل الثوار الذين يمسكون بالسلطة. ويستخدم القادة العنف من أجل إجبار الشعوب على الانصياع، فيما يلقون اللوم على الدول والمنظمات الخارجية، أو حتى يتهمون الآخرين بالخيانة الداخلية، كي يتهربوا من حقيقة عدم واقعية برامجهم، وقيامهم بحملات تزيد من القمع وحملات التطهير داخل صفوف النخبة. أما المرحلة الرابعة فتمتاز بتحول الأنظمة القمعية التي لا تتمتع بالشفافية إلى أنظمة فاسدة، حينها يبدأ الثوار بالتخلي عن أهدافهم المثالية من أجل الاحتفاظ بالسلطة، التي تتحول من سلطة قمعية إلى سلطة فاسدة، تفتقر إلى المؤسسات التقويمية التي يفترض أن تكشف تجاوزاتها.
تجنبت الثورة الأميركية، بوصفها أول ثورة في العصر الحديث، المراحل المذكورة كلها، بينما وقعت الثورة الفرنسية فيها كلها، وهو ما جعل تاريخ الثورة الفرنسية نموذجًا يستخدمه دارسو الثورات. ولا يعني ذلك مرور جميع الثورات بهذه المراحل الأربع، وربما تمر كلها بمرحلتين أو ثلاث منها، وذلك عندما تنتهي الثورات إلى عواقب غير مرغوبة، نتيجة التطرف الثوري الذي يفضي إلى نتائج وخيمة، الأمر الذي يظهر أهمية الحلول المعتدلة والشفافية في تحقيق التغيير الاجتماعي الشامل.
لا يغيب عن المؤلف الإشارة إلى أن بعض الدول شهدت تغييرات كبرى خلال فترات زمنية مديدة، وقادها زعماء محافظون اجتماعيًا، وتبين فيما بعد أنها كانت تغييرات ثورية، وحدثت دون إراقة دماء أو إجراءات قمعية عنيفة، حيث أدرك هؤلاء الزعماء ضرورة القيام بإصلاحات تقدمية لتجنب نتائج أكثر خطورة. ومثال ذلك حدث ألمانيا عام 1848، عندما اندلعت ثورة ليبرالية فاشلة فيها، وبقي الرجعيون المناهضون لليبرالية في السلطة بقيادة أوتو فون بسمارك، الذي استطاع التكيف مع المتغيرات، فسمح بمزيد من الديمقراطية، وأدمج الطبقة العاملة، وسمح أيضًا بأن يكون للطبقات الوسطى صوت سياسي، لكن النخب السياسية والعسكرية التي جاءت فيما بعد جعلها تتجه لإحياء النزعة القومية والطموحات الإمبريالية. وقد قادت النزعة العسكرية والتعصب القومي إلى زعزعة استقرار أوروبا، وإفساح المجال كي تندلع بعد ذلك الحرب العالمية الأولى التي مهدت لصعود النازية بشكل أكثر جذرية. وحدث الأمر نفسه في اليابان التي عرفت ابتداء من عام 1868 إصلاحات وعمليات تحديث كبيرة قادها بيروقراطيون ومحافظون، لكن اليابان تحولت أيضًا إلى دولة إمبريالية عنيفة، أشعلت حروبًا مأساوية.
يلاحظ في عالم اليوم أنه على الرغم من الشلل السياسي المتنامي في البلدان الديمقراطية، إلا أن عدم القدرة على إجراء التغييرات اللازمة، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، قد يرجح احتمال حدوث اضطرابات غير متوقعة. والوضع قابل للانفجار في معظم أنحاء العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، ووسط وجنوب آسيا، فيما تتحول كل من روسيا والصين إلى دول فاشية معادية لليبرالية، وتسير بعض دول أوروبا الشرقية نحو الأوتوقراطية. لذلك فإن المطلوب هو القيام بالتغيير المتدرج والحلول التوفيقية والمرونة، بوصفها أنجع السبل لتحقيق الإصلاح. لكن إذا اندلعت الثورات فإن الأمر يتطلب جهودًا كبيرة من النخب لمنع وصولها إلى نتائج وخيمة.
عنوان الكتاب: هل قلت تريد ثورة؟ المثالية الراديكالية وعواقبها الوخيمة المؤلف: دانيال شيرو