…
إنّ إعلان إسرائيل “دولة دينية يهودية”، ومنع قيام دولة فلسطينية و”تدمير غزّة والضفّة الغربية”، تخلق واقعاً جديداً يمهّد الأرضيّة الصالحة لمجيء “المسيح المخلّص”، كما تتوقّع اليهوديّة، أو لعودة “المسيح”، كما تؤمن المسيحيّة الصهيونيّة.
في سيناريو الجماعتين الدينيّتين أنّ جميع “الآخرين” (خاصّة من المسلمين ومن المسيحيّين الأرثوذكس والكاثوليك) سوف يُبادون وسوف يتحوّلون إلى رماد في معركة هرمجيدون (نسبة إلى سهل مجيدو الذي يقع بين القدس ويافا)، وهي المعركة الحاسمة التي تسبق عودة المسيح. فما هي العلاقة بين السرديّات الدينية والواقع الحالي؟
يذكر المؤرّخون الأوروبيون أنّ “المحرقة” الأولى التي تعرّض لها اليهود وقعت في أوروبا خلال الاحتفال بيوم الجمعة العظيمة. كان ذلك في عام 1096، حين قُتل من اليهود عشرة آلاف شخص. وهو رقم كبير جدّاً بالنسبة لعدد السكّان في ذلك الوقت.
ثمّ إنّ تلك الجريمة الجماعية لم تكن نتيجة للفكر النازي. فقد سبقت أدولف هتلر بحوالي 850 سنة. تعود كراهية اليهود في المجتمعات المسيحية الأوروبية (من روسيا حتّى بريطانيا) إلى الاتّهام الديني لليهود بالتحريض على ارتكاب جريمة صلب السيّد المسيح على أيدي الحاكم الروماني.
يذكر المؤرّخون الأوروبيون أنّ “المحرقة” الأولى التي تعرّض لها اليهود وقعت في أوروبا خلال الاحتفال بيوم الجمعة العظيمة وكان ذلك في عام 1096
تحريض اليهود وإدانتهم
في “إنجيل متّى” (القديس Mathew) تنصّ فقرة 25-27 على أنّه عندما اعتقل الرومان السيّد المسيح، قام اليهود بالتحريض على قتله وصلبه. وهذا ما حدث. وتنصّ أيضاً على أنّ اليهود ردّدوا، كما ورد في “إنجيل متّى”: “ليكن دمه علينا وعلى أبنائنا”.
هكذا التزمت المسيحية (الكاثوليكية بصورة خاصّة) بالإدانة الجماعية لليهود بالتحريض على ارتكاب الجريمة، منذ وقوعها حتّى قيام الساعة. استمرّ هذا الموقف حتّى عام 1965، أي عام صدور وثيقة “نوسترا إيتاتي” عن المجمع الفاتيكاني الثاني. فقد تضمّنت الوثيقة نصّاً يحصر مسؤوليّة صلب السيّد المسيح بالذين ارتكبوا الجريمة وحرّضوا عليها، ولا يُحمّل بقيّة اليهود، المعاصرين، وِزر ما حدث.
لم يكن هناك إجماع في المجمْع على هذا القرار. كانت هناك معارضة ذهبت إلى حدّ الانشقاق، وهي مستمرّة حتّى اليوم وتقوم فلسفتها على أساس أنّ العقيدة المسيحية تقوم في جوهرها على قضيّة الصلب، وأنّ اليهوديّة ما كانت لتستمرّ بعد المسيح حتّى اليوم لولا أنّها تنكر المسيح ورسالته، وأنّ تبرئة المؤمنين بها اليوم يتناقض مع جوهر المسيحية التي تقوم أساساً على تضحية المسيح بنفسه أو التضحية بالمسيح.
يعتقد العلماء أنّ “حادثة الصلب” وقعت في عام 30 ميلاديّة (أي أنّ المسيح كان في الثلاثين من عمره). ومن بعده عمل محبّوه والمقرّبون منه والذين اتّبعوه على إحياء ذكراه، فكانوا يلتقون حول جلسات الخبز والنبيذ لاستذكار تعاليمه وأفكاره ورواية القصص حول سيرته ومعجزاته. وكانوا يستذكرون في تلك الجلسات أقواله ونصائحه وسيرته… كانوا، مثل المسيح، يهوداً أيضاً، وبالتالي كانت حواراتهم الدينية تدور من داخل هذه الدائرة الدينية. في ذلك الوقت كانت “المسيحية” مجرد حركة عقائديّة داخل اليهوديّة.
في “إنجيل متّى” (القديس Mathew) تنصّ فقرة 25-27 على أنّه عندما اعتقل الرومان السيّد المسيح، قام اليهود بالتحريض على قتله وصلبه. وهذا ما حدث
اليهود من دون معبد
لكن حدث في عام 70 ميلاديّة ما لم يكن في الحسبان. فقد دمّر الرومان المعبد اليهوديّ في القدس. وبتدمير المعبد وجد اليهود أنفسهم أمام أزمة عقديّة تتعلّق بالهويّة. فالمعبد هو مهد العقيدة ومسرحها، وبتدميره حلّ الفراغ. يومها طُرح السؤال: ماذا يعني أن تكون يهوديّاً من دون المعبد؟
برزت حركتان دينيّتان في معرض الإجابة على هذا السؤال: الحركة اليهودية التي دعت إلى العودة إلى التوراة دراسةً وتدريساً، والالتزام بتعاليمه وقوانينه، وبالتالي اعتبار التوراة هو القاعدة والأساس. أمّا الحركة الثانية فقد قامت على قاعدة الإيمان بأنّ المسيح هو المعبد الجديد. وكان اعتماد هذه القاعدة بداية لقيام الكنيسة.
وقع الصراع بين الحركتين حول معنى اليهوديّة، وحول معنى أن يكون المؤمن يهوديّاً. ومن ساحة هذا الصراع انطلقت حركة “كتابة الأناجيل”. فإنجيل مارك Mark كُتب في عام 70، وكان الأوّل. أمّا الإنجيل الأخير، إنجيل يوحنّا John، فقد كُتب في عام 100. وجميع كتبة الأناجيل كانوا لا يزالون على اليهوديّة، لأنّ الكنيسة لم تكن قد قامت بعد.
خلال هذه الفترة لم يتوقّف الصراع الجدليّ بين الذين آمنوا بالمسيح من اليهود “وممّن لحق بهم من الناس الآخرين”، وأولئك الذين رفضوه وكفروا به. وتعكس الأناجيل الموقف السلبي من هؤلاء اليهود إلى حدّ شيطنتهم، وهو الموقف الذي يعتبر اليهود أنّه كان الحافز وراء سلسلة المآسي التي واجهوها في المجتمعات المسيحية فيما بعد، والذي حاول المجمع الفاتيكاني الثاني (1965) الالتفاف عليه وتغييره.
عام 70 ميلاديّة ما لم يكن في الحسبان. فقد دمّر الرومان المعبد اليهوديّ في القدس. وبتدمير المعبد وجد اليهود أنفسهم أمام أزمة عقديّة تتعلّق بالهويّة
كتَبة الأناجيل يهود
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كتبة الأناجيل (الخمسة التي اعتمدتها الكنيسة رسميّاً بعدما رفضت العشرات، ومن بينها إنجيل برنابا) كانوا يهوداً عندما قاموا بالكتابة. فالمسيحية التي قامت على أساس هذه الأناجيل وُلدت بعد ذلك بفترة طويلة.
ربّما أهم موقف يعبّر عن موقف الكنيسة الكاثوليكية من اليهود، هو الموقف الذي أبلغه البابا بيوس العاشر إلى مؤسّس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل (كانون الثاني 1904)، عندما طلب هرتزل موعداً لزيارة البابا من أجل حثّه على دعوة الدول الأوروبية إلى تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
في ذلك الوقت قال البابا: “نحن لا نستطيع أبداً أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية. إنّنا لا نقدر على منع اليهود من التوجّه إلى القدس. ولكن لا يمكننا أبداً أن نقرّه، وبصفتي قيّماً على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك بشكل آخر. لم يعترف اليهود بسيّدنا (المسيح)، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي. وبالتالي، إذا جئتم إلى فلسطين، وإذا أقمتم هناك، فسنكون مستعدّين، كنائس ورهباناً، أن نعمّدكم (أي نحوّلكم إلى المسيحية) جميعاً”.
في ضوء ذلك يبدو واضحاً أهميّة التحوّل في الموقف الفاتيكاني من البابا بيوس العاشر (1904) إلى البابا بولس السادس (1965) الذي وقّع على وثيقة “نوسترا إيتاتي”.
تؤكّد الوثائق الدينية المسيحية أنّ كتبة الأناجيل كانوا يهوداً آمنوا بالمسيح ورسالته الجديدة، وأنّ الذين رفضوا المسيح ورسالته كانوا يهوداً أيضاً، لكنّهم استمرّوا على عقيدتهم. وهذه الإشكالية الدينية مستمرّة بين الجماعتين حتّى اليوم.
يؤمن اليهود بأنّ مجيء المسيح “الحقيقي” سوف ينصّبهم أسياداً على الكرة الأرضيّة. ويؤمن الصهيونيّون المسيحيون بأنّ عودة المسيح سوف تتحقّق بعد معركة هرمجيدون المدمّرة
الصّهيونيّة المسيحيّة
جرت عبر التاريخ الطويل للعلاقات المسيحية – اليهودية محاولات دينية للالتفاف على الخلافات العقديّة التي أدّت إلى التوتّر الدائم في هذه العلاقات. وربّما من أهمّ هذه المحاولات صناعة الحركة الصهيونية المسيحية. وهي حركة دينية وُلدت في أوروبا وانتعشت وانتشرت في الولايات المتّحدة.
تقوم أدبيّات هذه الحركة على قاعدة الإيمان بنظريّة العودة الثانية للمسيح، وأنّ من شروط ومستلزمات هذه العودة إعادة بناء الهيكل اليهودي (الذي هدّمه الرومان)، لأنّ المسيح المنتظر لن يعود إلّا إلى مجتمع يهودي، ولن يعلن عودته إلّا في معبد يهوديّ، كما حدث في المرّة الأولى.
عندما أعلن السيّد المسيح دعوته في المرّة الأولى، امتنع معظم اليهود عن الإيمان به وبرسالته. ولا يزالون حتّى اليوم يعتبرون المسيح “دجّالاً”. وبموجب إيمانهم ينتظرون ظهور المسيح “الحقيقيّ” (؟) في القدس وفي الهيكل اليهوديّ بعد إعادة بنائه (فوق أنقاض المسجد الأقصى).
مسرح المجيء والعودة واحد
هكذا تتلاقى الحركة اليهودية مع الحركة المسيحانيّة الصهيونية على الرغم من التباين بين الحركتين. الأولى تقول بمجيء المسيح، وتقول الثانية بعودة المسيح. أمّا مسرح المجيء والعودة فهو واحد. امتصّ هذا الإيمان المشترك، مع ما فيه من تباين، مشاعر الكراهية والعداء، ووضع الطرفَين اليهود والمسيحيّين (؟) في جبهة عقديّة واحدة هدفها تحقيق شروط الظهور أو العودة.
جرت عبر التاريخ الطويل للعلاقات المسيحية – اليهودية محاولات دينية للالتفاف على الخلافات العقديّة التي أدّت إلى التوتّر الدائم في هذه العلاقات
يعكس الاسم الذي اختارته هذه الحركة لنفسها، وهو الصهيونية المسيحية، هذه الوحدة. إلّا أنّ الكنائس الرئيسية الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية تنأى بنفسها عن هذه العقيدة وتصفها بالهرطقة الدينية.
يؤمن اليهود بأنّ مجيء المسيح “الحقيقي” سوف ينصّبهم أسياداً على الكرة الأرضيّة. ويؤمن الصهيونيّون المسيحيون بأنّ عودة المسيح سوف تتحقّق بعد معركة هرمجيدون المدمّرة، والتي لا بدّ منها، وهي المعركة التي سوف تبيد كلّ الأقوام، باستثناء المؤمنين بالمسيحية، وأنّ المسيح سوف يحكم العالم بعد ذلك لمدّة ألف سنة (الألفيّة) ينتهي الزمن بعدها وتقوم الساعة!
قد تبدو هذه الاعتقادات سخيفة في عالم القرن الواحد والعشرين، وقد يبدو الاهتمام بها مضيعة للوقت، لكنّ الحقيقة هي أنّها تلعب دوراً أساسيّاً في صناعة القرار الأميركي في قضايا الشرق الأوسط، وفي بلورة التحالفات المرتبطة بهذه القضايا.
يبدو أنّ مستقبل الشرق الأوسط يتوقّف على عودة واحد من اثنين: إمّا المسيح أو المهدي المنتظر!