نزار قباني ومظفر النواب.
كان الشّعراء يظنون أنَّ ثورةً انفجرت، ستغيّر مجرى التّاريخ في المنطقة؛ وبالفعل غيّرت الثّورة الإيرانيَّة، التي تحوّلت إلى إسلاميَّة، المنطقة، بإنعاش الإسلام السّياسيّ، والمنظمات الدِّينية المتطرّفة، وكانت للصّحوة الدّينية القاتمة أحد أبرز المنابع، وليس لنا القول إنّها خلقت الصّحوة، فالأخيرة بدأت بعد (1967) حتَّى وصلت الى ذروتها في الثَّمانينات، بالثّلاثي: الثورة الإيرانيّة (شباط / فبراير 1979)، وإحدى المتحفزات بها حادثة جهيمان العتيبي (تشرين الثّاني/ نوفمبر 1979) في الحرم المكيّ، واجتياح أفغانستان (كانون الأول/ ديسمبر 1979)، وكلُّ تلك الحوادث حفلت بها السّنة (1979)، وبهذا تكون لهذه السّنّة حكاية لن ينساها التّاريخ، تُذكّر بسنين الطَّواعين الكبرى.
كان اليسار والشّعراء (اليساريون أو القوميون أو المعتقدون بالاثنين)، يرونها ثورةً مِن نوعٍ آخر، أيّ لم تكن انقلاباً عسكريّاً، ولم تحمل سمة عقائدية، كانت مطلبية، حالها حال انتفاضة تشرين (2019) في بغداد، مطلبية كادت تقود إلى تغيير شامل للوضع المزري، لكن قُضي عليها بنتائج الثّورة الإيرانيّة نفسها، فمدير تشتيتها وقتل شبابها كان أحد أولاد تلك الثورة قاسم سليمانيّ (قُتل: 2020)، والقوى الدِّينية التي انقضّت عليها هي مِن صناعة تلك الثّورة. فكان الاعتقاد أنّها ثورة في طهران نبعت من بين النّاس، وكانت في بدايتها هكذا، قبل التفاف الإسلاميين عليها، وتحويلها إلى عقيدة دينية طائفيّة، وهذا يحتاج إلى حديث طويل، ليس مِن صلب مقالنا.
لم يكن نزار قباني (تـ: 1998)، ومظفر النَواب (تـ: 2022) وحدهما من مجدا آية الله الخميني(تـ: 1989)، أو ما اُصطلح عليه مِن قَبل بـ”لاهوت التَّحرير”، فيساريون كبار صفقوا للخميني وتراجعوا، ومنهم مَن دس رأسه في الرّمال، بعد النَّتائج التي أسفرت عنها الثّورة في شهورها الأولى، ومنهم مَن ظلّ معتزاً بخطيئته، كالشّاعر الذي قضى جلّ حياته يمدح رئيساً، وهو يعرف كغيره كان رئيسه يشرب الدّماء، وبعد سقوط الرَّئيس، ظلّ معتزاً بالمديح، لأنه وجد له مصفقين.
قد يكون نزار قبانيّ سبق الشّعراء بقصيدته إلى الخمينيّ، وما كنا نظن أنَّ نزاراً كان بهذه السّذاجة، معتبراً الخميني سيدحر “الفرس”، وأنّ ثورته لإخراج الفرس مِن إيران، ولم يكن يعلم أنَّ عروبة (بحسب ما تقول عمامته السَّوداء إنّه مِن آل النَّبي الهاشمي) الخميني وهنديته (أسرة هندية نزحت من كشمير إلى النَّجف ثم إلى خمين بإيران)، سيكون ضدّ الحلم الكسروي، بالإطاحة بتاجه، ولا يعلم نزار أنّ العمامة استُبدلت بالتّاج، فقال فيه بعد وصفه بـ”قمر شيراز” عنوان قصيدته:
“زهرُ اللّوز في حدائق شيراز/ وأنهى المعذبون الصِّيامَ/ ها هم الفُرس قد أطاحوا بكسرى/ بعد قهرٍ وزلزلوا الأصنامَ/ شيعٌ سُنةٌ جياعٌ عطاشٌ/ كسروا قيدهم وفكوا اللّجامَ/ شاه مصرَ يبكي شاه إيران/ فأسوا ملجأ لليتامىَ/ والخُمينيّ يرفع الله سيفاً/ ويُغني النّبيّ والإسلامَ/ هكذا تصبح الدِّيانةُ خلقاً مستمراً/ وثورةً واقتحامَ” (تسجيل فيديو بصوت الشّاعر).
لكنَّ نزاراً، غير المتثبت، كغيره مِمن عجلوا بوضع الخميني في موضع النّدى، رجع العام (1988)، وقرأ قصيدة بمناسبة ما أعلنه العراق مِن انتصار في الحرب، بين إيران والعراق، وأنشد هاجياً الفُرس كافة، بعد أن مدحهم بالإطاحة بتاج الشّاه: “اليوم عرسٌ خرج الفرسُ”! وهكذا العواطف غلبت نزار شاعر “الأنثى” في وطنياته وثورياته.
أّما محمَّد مظفر النَواب، فربّما كان متأخّراً في سكب ثياب مديحه على الخمينيّ، ومِن تفسير قصيدته فيه، أنّها جاءت عتباً، لكنَّه عتب الأحباب. فالإعدامات والدّماء، التي عَمّدت بها الثّورة رؤوس الإيرانيين، وكتب في حينها الإخواني الكويتيّ عبد الله النّفيسيّ “أثخن بهم يا خميني بوركت يداك”، لم يسمع بها لا نزار ولا محمَّد مظفر، ولا مَن دسّ رأسه في الرّمال بعد تكشير الثّورة عن أنيابِها.
أنشد النَواب للخميني يعاتبه بالحملة الشّعواء التي وجّهها ضدّ مَن يعتبرهم رفاقه في النّضال العالميّ، قيادة الحزب الشّيوعي الإيرانيّ (تودة) وقاعدته، وكان هذا الحزب أحد عناصر الثّورة الإيرانيّة، فقد شوهد نور الدّين كيانوريّ (تـ: 1999)، على شاشة التّلفزيون الإيراني، معترفاً بالإكراه بأنّه كان عميلاً، كي تشطب عنه الثوريّة التي شارك بها الخميني وبقية العمائم، بانتصار الثّورة. غير أنَّ النَواب الذي استصرخ الشُّعوب بفضح الأنظمة التي مارست قمع اليسار، جعل عتابه للخميني اعترافاً بإمامته، ليس على المعتقدين بولاية الفقيه فحسب، بل وعلى العالم أجمع. عندما خاطبه، خطاب المنتمي: “مبايعٌ طيني وحبٌ كُله/ روح بلا منزلها بلا سَلام/ مبايعٌ أنَّك بين الدُّول الكُبرى الإمام”.
ثم يذمّ اليسار، في قصيدته، الذي لم يتحالف مع الإسلاميين، وكأنّ حزب تودة لم يُشارك في الثّورة، قبل الإسلاميين أنفسهم، ولم يتحالف تحت قيادة الخمينيّ، لكنه الخطأ نفسه، عندما صار الزّمام بيد الإسلاميين، اكتشفوا أنَّ هذا اليسار كافر، يجب أن يُمسح مِن على وجه الأرض، على يد الذي أعلن مظفر مبايعته، وألقى زهرة البيعة في يده! فقال: “أما ترى الذِّئاب قد عوت أجوافها مِن الوحام/ كيفَ اليسارُ كاليمنِ/ هكذا الضّياء كالظَّلام/ مِن طائفيّ ثعلبيّ أو مرتدٍ قومية/ الذّئاب أو منافق زُئام/ كيف اليسارُ كالظَّلام/ بعض اليسارِ سيدي به فصام/ عاش على موائد الحرام/ بعضٌ وليس البعضُ في الكُّلِ احتكام/ لا لم يكن يوماً عليٌّ/ وسطاً بين الوراء والأمام”(تسجيل بصوت الشَّاعر).
كان النِّظامان، العراقي بزعامة صدام والإيراني بزعامة الخمينيّ، ضربا الحزبين اليساريين، في بلديهما، ولا يُزايد أحدهما على الآخر في خطاباتهما مع القضية الفلسطينية، وما فعله الخميني باليسار عين ما فعله صدام حسين (إعدام: 2006)، لكن ترى مظفر يتحدث مع الخميني معاتباً، وبينما ناشد مظفر الخميني مادحاً ضمن مديحه ذماً لصدام: “مِن طائفيّ ثعلبيّ أو مرتدٍ/ قومية الذّئاب أو منافق زُئام”. لكنّ ذوي قتلى الشّعب الإيرانيّ، ومَن شملته (عدالة) قاضي الخمينيّ صادق خلخاليّ(تـ: 2004)، وحدهم يعرفون الدَّرس الذي تعلّمه الخميني مِن صدام، في ضرب اليسار واليمين غير المنصهر فيهما. كذلك وحدها تفضح الميليشيات التي أنتجها الخميني الطّائفية الثّعلبيّة في إيران الثّورة.
انتقاد مظفر لليسار “بعض اليسار سيدي به فصام”، يقصد الذين لم يلتحقوا بجهيمان والخميني، لكن أليس حزب تودة وقف في صف الخميني، ومهّد له ما صار به مِن سُلطة، فماذا فعل به؟! ما تقدّم، مِن إعلاء شأن جهيمان والخميني الثّوري، ونقد اليسار لعدم الالتحاق بالأول وتمجيد الخميني ثورياً، كان مظفر السَّبعينات والثمانينات، لكنه بعدها وجد نفسه في حلٍّ مِن ذلك، فلم يذهب إلى إيران الخميني، وقاسم سليماني يؤسس الميليشيات المدمّرة، ويسطو على بغداد بها، ويقتل بها شباب العراق، ولم يرَ في مخلّفات جهيمان، “داعش” و”القاعدة”، غير الدمار والترويع، فاستقرّ في الخليج الذي دعا إلى حرقه وإسقاط أنظمته، ولم يعاند ما شاهده مِن عُمران، وهو القائل في ما مضى “مرحباً مرحباً أيها العاصفة”.
لم نكتب هذا تخطئةً ولا تصويباً، وإنما تعجباً مما حصل، لو انتصرت بالفعل دعوة مظفر: “اِشعل مياه الخليج تسلّح/ وعلّم صغارك نقل العتاد/ كما ينطقون/ إذا جاشت العاطفة”، وقد جاشت العاطفة فأفرزت ما أفرزت، حتّى عجبتُ مما قاله الخميني وهو يزور مقبرة جنة الزّهراء، حال عودته إلى إيران(1979): “ينبغي القول بأنّ محمد رضا بهلوي، هذا الخائن الخبيث، قد رحل وفرَّ، وترك كلَّ ما لدينا هباءً منثوراً، لقد دمّر بلادنا، وعمّر مقابرنا”(3 ربيع الأولى 1399)! لكنّ كم مِن المقابر عمّرها الخميني، حتّى أنّ مراجع دين، مِن درجة آيات الله العظمى، لم تُعرف لهم شواهد قبور، كآية الله محمد كاظم شريعتمداريّ! وضحايا الميليشيات وسليماني تملأ مقابرهم البلدان، فكيف ببقية الخصوم، والإصرار على استمرار الحرب!
أقول: ما زلنا ننشد مدائح أبي الطَّيب المتنبيّ(اغتيل: 354هـ)، ملاحمَ أدبيّةً، مناسبة لعصرها، مِن ممدوحين ومادحين، وجرت في عصرنا أمثالاً وكنايات، لكن لم يكن ذلك العصر عصر ثورات وطبقات ويسار، لذا ما جاء على لسان الشاعرين كان مديحاً مُرَّاً.