لم تشهد الدولة السورية، منذ تَشكُّلها الحديث، لحظة تأسيس فعلية تُقارب مفهوم الدولة-الأمة كما تطوّرَ في أدبيات بنديكت أندرسن حول «الجماعات المُتخيَّلة». فالدولة-الأمة، كما تبلورت في مسار الحداثة الأوروبية، تقوم على التطابق بين الحدود السياسية للدولة والحدود الثقافية الرمزية للجماعة الوطنية.
أي أن الدولة-الأمة هي الدولة التي يشعر سكانها بأنهم ينتمون إلى جماعة وطنية مُوحَّدة، تُنتج خيالاً مُشترَكاً عن الذات والمصير. ووفقاً لأندرسن، ليست الأمة كياناً طبيعياً أو مكتشَفاً، بل بناء رمزياً متخيَّلاً يُنتَج تاريخياً عبر أدوات مثل التعليم الموحّد، والتأريخ الرسمي، واللغة المعيارية، وهي الأدوات التي لعبت أدواراً متفاوتة في الحالة السورية، دون أن تُفضي إلى وعي قومي جامع، أو إلى تَخيُّل جماعي مُشترَك للدولة بوصفها أفقَ انتماء.
لقد وُلد الكيان السوري داخل ترتيبات ما بعد الاستعمار بوصفه ترسيمة جغرافية-إدارية لا تستند إلى مخيال سياسي نابع من هوية وطنية مُنتَجة ذاتياً، وهكذا أُديرت الدولة كمنظومة أزمة متواصلة من قبل أنظمة متعاقبة مارست السيطرة دون أن تُقيم ركائز سيادة تمثيلية.
هذا التكوين الأولي أعاق نشوء الدولة-الأمة كمفهوم تمثيلي فعّال، فاقتصر الحضور المؤسسي للدولة على وظيفة أمنية-بيرُقراطية تُنظّم السكان إدارياً دون أن تمنحهم أدوات المشاركة السياسية. نتيجة ذلك، بقي الانتماء الوطني هشّاً، محكوماً بولاءات فئوية أو دينية أو محلية، في ظل غياب رابطة مدنية تقوم على التعاقد السياسي. فبالرغم من كل محاولات بناء مركز سيادي، كانت تتكشّف في المقابل بُنى موازية تتكئ على الانقسام العمودي، وتُعيد إنتاج تفتت الهوية السورية بين طوائف ومناطق وسرديات متنازعة.
إن افتقار الدولة السورية منذ نشأتها إلى رموز سيادية ذات مشروعية اجتماعية-ثقافية، جعلها تُعاني عجزاً مُركَّباً في إنتاج سردية وطنية توحِّد الخيال الجمعي للسكان. فبينما أنتجت دول ما بعد الاستعمار في أفريقيا وآسيا رموزها الرمزية الخاصة (من مانديلا إلى نيهرو)، ظلّت سوريا تتأرجح بين صور مُستعارة من زمن سلطني غابر، وأخرى فُرِضَت بقوة الانقلاب، وقد جعل هذا الخلل الرمزي من مشروع الدولة-الأمة مجرد غلاف خارجي لسلطة لا تملك قاعدة تخييلية تربط الناس بها، مما دفع فئات واسعة إلى الانكفاء نحو هويات فرعية أكثر تماسّاً مع تجربتها اليومية وتاريخها المحلّي.
سوريا في زمن البرهة السياسية.. سلطة تدير الزمن
يُحيل مفهوم «البرهة السياسية» في الأدبيات السياسية المعاصرة، وخصوصاً لدى جورجيو أغامبِن، إلى حالة استثنائية مُعلَّقة يُمارَس فيها الحُكْم دون أسس دستورية واضحة، حيث تُدار السلطة كزمن مؤقت لا يتجه نحو تَحوُّل مؤسسي ولا ينهار بالكامل، ما يجعل التأجيل نفسه أداة للحكم.
منذ الثورة السورية عام 2011 وما تلاها من تفكُّك البنية المركزية للنظام الأسدي، دخلت سوريا في ما يمكن وصفه بـ«الزمن الانتقالي المفتوح»؛ لحظة مُعلَّقة خارج المعايير الدستورية والتأسيسية. في هذه اللحظة، لم تعد الدولة تُقدَّم كإطار سيادي متكامل، وإنما كإدارة مؤقتة لإيقاع اللاحسم، تُفعَّل عبر مؤسسات تحمل الشكل المؤسسي لكنها تفتقر إلى الفعل السيادي الفعلي، إذ تعمل كأطر إجرائية لإدارة الوقت، لا كأدوات لصناعة القرار.
في هذا السياق، تكتسبُ مقاربة «دولة العتبة»، كما طَوّرها جورجيو أغامبِن، فاعليتها التحليلية في قراءة الوضع السوري.
يُقصد بـ«دولة العتبة» شكلاً كيانياً انتقالياً يبقى عالقاً في منطقة وسطى، لا يخطو باتجاه التأسيس السياسي، ولا يتفكك إلى فراغ سيادي، ويُفعَّل كإطار إداري مؤقت يفتقر إلى القدرة على ترسيخ عقد اجتماعي أو إنتاج مركز تمثيلي مستقر.
لا يُمارَس الحكم هنا من خلال عقد سياسي واضح، فأدوات هذه الإدارة تتجلى في ثلاث آليات مترابطة؛ أولها التجميد السياسي، حيث يتم تفريغ الفعل السياسي من مضمونه التداولي والتعددي؛ ثانيها المَأسسة الشكلية، عبر إنتاج مجالس وهيئات تبدو مؤسساتية، لكنها تفتقر إلى سلطة القرار أو مُساءلة الجمهور؛ وثالثها الانفصال عن الأفق التاريخي، حيث تنفصل السلطة عن أي تصور للمستقبل، وتُدير الحاضر كحالة طارئة مستمرة، تفتقر إلى بداية واضحة أو غاية معلنة.
ضمن هذه الشروط، تتحوّل السلطة الانتقالية إلى كيان تقني لا يملك إرادة التأسيس، فهي لا تنهض بمسؤوليات الدولة، ولا تنسحب من مَشهدها، وتعمل من دون امتلاك أفق تأسيسي جامع. هكذا يُترَك المجال السياسي في فراغ لا يسمح بتكوين بدائل، ولا بعبور جماعي نحو الدولة. سوريا إذاً لا تقف على عتبة دولة جديدة، وإنما تُدار داخل هوامش الطارئ، حيث تُصبح العتبة نمطاً دائماً من الحكم.
لا يمكن فهم استمرار منطق «الدولة–البرهة» في سوريا اليوم دون مساءلة الدور البنيوي الذي تمارسه السلطة الانتقالية ذات المرجعية السلفية الجهادية في تكريس هذا النمط، فهذه السلطة تتعامل مع الواقع المتشظي بوصفه شرطاً ضرورياً لبقائها، وتُبقي على لحظة ما بعد السقوط في حالة جمود دون تحويلها إلى أفق تأسيسي شامل. لا وجود لمسار دستوري واضح، ولا لتمثيل سياسي تعددي، ولا لأي اعتراف صريح بالبنية المجتمعية المُركَّبة التي تشكّل العمق الرمزي للبلاد، وبدل أن تعمل هذه السلطة كأداة انتقال نحو صيغة مدنية للحكم، فإنها تتصرّف كعائق أمام أي تحول سياسي فعلي، من خلال تركيز نفوذها داخل مؤسسات مغلقة، وتَجنُّب كل استحقاق يُهدّد بتوسيع المجال الوطني نحو صيغة تعاقدية جامعة.
لقد أدى انهيار سردية الدولة المركزية بعد سقوط نظام الأسد إلى فراغ رمزي لم يبقَ مُعلَّقاً لفترة طويلة، فسرعان ما امتلأ هذا الفراغ بسرديات جزئية، نشأت من مرجعيات فصائلية ومناطقية، أعادت رسم الخيال السياسي للسكان ضمن أطر ما دون وطنية. لم يُستثمَر الانهيار في إعادة هندسة الهوية الوطنية، وإنما ساد تساهُلٌ مع تصاعد هويات دينية-سياسية أو إثنية محلية، إلى جانب محاولات ترسيخ هويات تاريخية مستحضرة خارج سياقها السياسي، كما في الخطاب الأموي المعاصر الذي يُقدَّم كهوية بديلة عن الفضاء الوطني الجامع.
في هذا السياق، يمكن فهم ما جرى من خلال مفاهيم مثل «الهوية القلقة» و«المواطنة المتقطعة»، كما طوّرها طلال أسد وجيمس سكوت، ولا يكتمل التحليل إلا باستحضار ما يمكن تسميته بتفكك الذاكرة السياسية، وهو الانفصال بين سردية الدولة الحديثة وبين تمثّلات الناس لتاريخهم الوطني. فالدولة السورية، منذ ما بعد 2011، تخلّت تدريجياً عن دورها في إنتاج سردية جامعة تعيد توحيد المخيال العام، ومع انحسار المركز السياسي، برزت ظاهرة انفصال الخيال الوطني عن أي مشروع جامع، وتحول الفضاء الرمزي إلى ساحة تنافس بين روايات هوياتية لا تتقاطع، ولا تتوافق، ولا تنتمي إلى عقد اجتماعي مشترك.
ضمن هذه البنية باتت الهوية وسيلة فرز وإقصاء، دون أن تكون وسيلة تواصل وانتماء. وتزداد خطورة هذا التمزق مع امتناع السلطة الانتقالية عن بناء سردية جامعة، فهي لم تحاول بناء رواية جديدة تلمُّ شتاتَ الهويات المتنازعة، وإنما أدارت هذا التصدّع بصمت وظيفي، مُعطية الأولوية للتماسك الأمني على حساب إعادة إنتاج المعنى الوطني.
السيادة الرمزية في مواجهة التفتت الواقعي
تتأسس السيادة الحديثة، كما يشرح بيير بورديو، على احتكار أدوات العنف المشروع، وعلى احتكار المعنى، فالدولة التي لا تملك تأويلاً جامعاً للواقع لا يمكنها ممارسة سيادتها الرمزية. ما نشهده اليوم في سوريا هو انفصال شبه كامل بين ممارسة العنف الشرعي وبين إنتاج المعنى، فالسلطة تمارس السيطرة، لكنها عاجزة عن تبريرها ضمن سردية وطنية مقبولة.
إن الدولة القائمة اليوم، رغم سقوط الأسد، لم تقطع فعلياً مع منطق الحكم الذي مارسه، حيث لا تزال تُعيد إنتاج التمثيل الأحادي، وتدير التنوع بوصفه تهديداً، وتُقصي أي تشكيل لا يندرج ضمن نمطها السلطوي. هذه ليست سيادة بقدر ما هي إدارة مؤقتة لتوازنات هشة، تفتقر لأي أفق تعاقدي مستقبلي.
في الدول الحديثة، لا تُبنى السيادة الرمزية من خلال الخطاب السياسي وحده، إنما عبر منظومات ثقافية متكاملة تُعيد إنتاج المعنى داخل المجتمع؛ من الإعلام، إلى التعليم، فالطقوس المدنية، والمُخيلة التاريخية للدولة. هذه الأدوات، التي تُعرف في أدبيات الدولة بأجهزة «الشرعية البطيئة»، غائبة تماماً عن المشهد السوري الانتقالي. السلطة الحالية لا تريد إشاعة الإعلام العام الذي يُشكل الوعي الوطني، مكتفية بقناة وحيدة أُطلِقَت مؤخراً أو أُعيد إطلاقها تحت مسمى «الإخبارية السورية»، كما لا توجد أيضاً منظومة تعليمية مدنية توحّد المفاهيم السياسية، ولا رموزٌ جمعية تُمثّل مختلف مكوّنات المجتمع. تمارس السلطة الانتقالية الحكم دون أن تمتلك البنية الرمزية التي تمنح هذا الحكم شرعية سيادية، فهي غائبة عن إنتاج الخيال الوطني، وعن توليد أدوات تمثيلية تُجسّد المجتمع في الدولة.
هذا يُطابق ما يشير إليه تشارلز تايلي في حديثه عن أن جوهر الشرعية الحديثة يقوم على «القدرة على إثارة الولاء العام» من خلال أدوات تمثيلية تتجاوز السيطرة، لتُنتج شعوراً فعلياً بالانتماء والمشاركة. في الحالة السورية، تغيب هذه القدرة تماماً؛ إذ لا رموزَ جامعةً تُوحّد الخيال السياسي، ولا آليات تعاقدية تُقنع الناس بأنهم شركاء في الحكم، لا مجرد خاضعين له.
مع غياب أي مشروع تأسيسي يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، يغدو حضور الدولة محصوراً في أجهزة البيرُقراطية أو الأمن العام، دون أن يترك أثراً في الخيال الجمعي، أو يُسهم في بلورة شعور وطني مشترك. في هذا السياق، تتآكل السيادة الرمزية تدريجياً، ويتحوّل العنف إلى ممارسة منفصلة عن أي معنى سياسي.
وهذا ما يجعل السلطة، بالمعنى الذي قدّمه ميشيل فوكو، سلطة بلا ذات؛ تمارس العنف وتدير الشأن العام من دون أن تتجسّد كفاعل سياسي يحمل تصوراً جامعاً عن الخير العام أو مصلحة المواطنين، بل تتحوّل إلى بنية قهرية تُنتج الانضباط دون معنى، وتُديم الخضوع دون وعد سياسي واضح.
في فكر جان جاك روسو، لا يُعدّ العقد الاجتماعي مجرد تسوية سياسية بين الحاكم والمحكوم، وإنما تأسيساً أخلاقياً لجماعة سياسية تتنازل عن غرائزها الفردية من أجل الإرادة العامة، فالعقد إنما هو لحظة خلق سياسي تتولد عنها السيادة، والهوية المشتركة، والمشروعية الأخلاقية للسلطة. في هذا المعنى، يُعاد تأسيس المجتمع من خلال اتفاق رمزي يُخرج الأفراد إلى وضع مدني، ويُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والجماعة بوصفها علاقة إرادية واعية، لا خضوعاً قسرياً أو ولاءً قبلياً.
أمّا في المقاربات السياسية المعاصرة، فيُشدد بوغدان دينيتش على أن المجتمعات الخارجة من الاستبداد أو الصراع الأهلي لا يمكنها أن تعيد إنتاج الدولة بوصفها استمراراً للماضي، بقدر ما يجب أن تنشئ لحظة قطيعة تؤسس لشرعية جديدة. العقد التأسيسي وفقاً لهذا التصور، إنما هو إعلان واضح لانفصال رمزي وقانوني عن منطق الإقصاء السابق، فهو لحظة تعاقد جديد يعيد تعريف السيادة كحق للمجتمع في أن يختار كيف يُحكَم، وبأي أدوات، ولأية غاية.
انطلاقاً من هذين التصورين، تبدو السلطة الانتقالية السورية عاجزة عن تمثيل لحظة تعاقد فعلي، إذ تتصرف من دون أي وعي تأسيسي حقيقي. تغيب الإرادة العامة بوصفها ذاتاً سياسية، ويُستعَاض عنها بهيئات تُدار من أعلى، لا تمثل المجتمع، ولا تَصدر عن إرادته، وهكذا يتحوّل «الانتقال» إلى مرحلة معلّقة، لا تُفضي إلى دولة جديدة، ولا تُنهي البنية القديمة، إنها مرحلة تُبقي الجميع في منطقة رمادية بلا عقد ولا تأسيس.
ما هو مطلوب اليوم يتجاوز استعادة نموذج الدولة-الأمة بصيغته المركزية، ويتّجه نحو تَخيُّل الدولة كساحة تفاوض حية، كما تُصوّرها حنّة أرندت، أي إطاراً يُنتج المعنى من التعدد، لا سلطةً تحتكره باسم الانسجام الوطني.
لقد فشلت السلطة الانتقالية حتى الآن في تحويل لحظة ما بعد السقوط إلى لحظة تأسيس سياسي وأخلاقي جديد، فاستُبدِل الأفق التأسيسي بخطاب إصلاحي شكلي، جرى تسويقه عبر وعود التغيير التدريجي، من دون أي استعداد فعلي للخضوع لمنطق المُساءلة التأسيسية، وما لم تُفتَح هذه اللحظة على مساءلة حقيقية تعيد بناء العقد الاجتماعي، فإن هشاشتها ستتحول إلى انقسام دائم يتجاوز السياسة ويمسّ البنية الوطنية في عمقها الرمزي.
الزمن كتقنية لإحباط الفعل الجماعي
تتخلّى السلطة الانتقالية في سوريا عن دورها كوسيط انتقالي، وتتحول إلى فاعل مستقل يسعى إلى إعادة إنتاج نفسه فقط دون تجاوز ذاته. عوضاً عن التحضير لصياغة دستور جديد أو إطلاق عملية تشاركية تأسيسية، تستند السلطة إلى إعلان دستوري فضفاض، وتُركِّزُ طاقتها على إدارة الأجهزة لا على شَرعَنتها، ومع استمرار هذا النمط، يصبح ما كان يُفترض أن يكون مرحلة انتقال، مجرد امتداد آمن لموازين قوى فُرضت من الأعلى، دون أن تتمتع بأي تعاقد من الأسفل. وكلما تأخر التأسيس، تترسّخ بنية التأجيل كخيار سلطوي مقصود.
تغيب في الحالة السورية أي آجال واضحة لإنهاء المرحلة الانتقالية، ويُترَك كل شيء عالقاً في فراغ زمني مفتوح. لا تاريخ منطقي ومحدد للانتخابات، لا خارطة زمنية للدستور، لا وضوح لمسار العدالة الانتقالية. هذا الغياب هو أداة شرعنة رمزية تُستخدَم للتذرُّع باللّايقين كي تستمر السيطرة، والزمن في هذه الحالة يتحوّل إلى أداة حكم، والتأجيل ذاته يصبح بنية إنتاج للشرعية المؤقتة.
إن هذا الغياب الكامل للأفق الزمني يُعبّر عمّا وصفه بيير روزانفالون في تحليله لفشل الأنظمة الانتقالية بـ«نزع الأمل السياسي»؛ أي تحويل الزمن من أداة عبور نحو المستقبل إلى تقنية لإحباط الفعل الجماعي، حيث يُعاد تشكيل المجال العام بوصفه حقلاً مغلقاً، تُدار فيه التوقعات لا التطلُّعات، ويُعاد إنتاج الطاعة. هكذا يغدو التأجيل استراتيجية حكم قائمة على تثبيت الخضوع بدل إنتاج الاستقرار، وعلى إجهاض التأسيس بدل السعي إليه.
لحظة سقوط نظام الأسد كانت إمكاناً لتأسيس سردية جديدة تنطلق من الألم الجمعي، وتؤسس لهوية مدنية تتجاوز الاصطفافات، لكن السلطة الانتقالية، التي انبثقت من مرجعية أحادية دينية–عسكرية، لم تنظر إلى هذه اللحظة كمجال تأسيس وإنما كمنصة شرعية تُخوّلها الحكم. وهكذا، عوضاً عن فتح أفق تشاركي، تم بناء منظومة سلطة تُعيد إنتاج منطق الإقصاء والتفويض التفوقي، وتُقصي الطيف المدني والسياسي السوري الذي كان يمكن أن يُسهم في بناء الجمهورية الثالثة.
لا يُمكن مواجهة الحالة السورية الراهنة من خلال تغييرات سطحية في توزيع السلطات أو تعديل النصوص الدستورية المؤقتة. إن تجاوز الأزمة يتطلب إعادة بناء السردية السياسية للدولة من الجذر، انطلاقاً من مفاهيم التشارُكية الفعلية، والمواطنة المتساوية، والعدالة الرمزية التي تُعطي المعنى للعقد السياسي. هذا لا يمكن إنجازه دون عقل سياسي جديد يتجاوز منطق الغلبة، ويشتبك مع الأسئلة الاجتماعية والوجودية التي تُقلق المجتمع السوري.
تُظهر تجربة جنوب أفريقيا أن الخروج من النظام العنصري لم يتحقق عبر تَكيُّف تدريجي مع المؤسسات السابقة، وإنما من خلال لحظة قطيعة رمزية وقانونية أُنتج عنها عقد تأسيسي جديد، جسّده دستور 1996 بوصفه تعبيراً عن إرادة جمعية متعددة الأعراق، لا امتداداً لبنية استبدادية سابقة.
في هذا الإطار، تطرح شانتال موف نقداً حاسماً لما تسميه «الإجماع المُفتعَل»، وهو ذلك النمط من الخطاب السياسي الذي يروّج للوحدة الوطنية على حساب الخلاف المشروع، ويقمع التعدُّد السياسي باسم الاستقرار. وفق هذا التصور، يُستخدَم خطاب «الوفاق» لتأجيل التفاوض الحقيقي حول السلطة والتمثيل والمصير، فيُصبح الاختلاف تهديداً يجب تذويبه عوضاً عن تحويله إلى طاقة سياسية بنّاءة. السلطة الانتقالية في سوريا، من خلال ترويجها لفكرة «المرحلة الحساسة» التي لا تحتمل الخلاف، إنما تُؤسّس لمجال سياسي مغلق حيث يُعاد إنتاج الانقسام من خلال خطاب الادعاء بالتوافق.
السلطة المؤدلجة.. حين يُصبح الدين هو الدولة
يتجلى طابع السلطة الانتقالية في سوريا كمشروع رمزي–عقائدي، أعاد تعريف التديّن لا كظاهرة شعبية أو ممارسة فردية، وإنما كبنية مؤسساتية حاكمة. فمنذ لحظة تَشكُّلها، لم تتعامل هذه السلطة مع الدين كحقل ثقافي أو وجداني، إنما كبنية معيارية تُنظّم المجال العام وتضبط السلوك السياسي من الداخل، وتنتج ما يمكن تسميته بـ«التديّن المؤسّس»، أي التديّن الذي يُوظَّف بوصفه أداة هوية سلطوية لا علاقة فردية مع المقدّس.
في هذا السياق، يَظهر التديّن كمعيار للجدارة السياسية، ومؤشّر للولاء السياسي، وعلامة للتماهي مع البنية السلطوية. فالسلطة الانتقالية أسّست ما يُشبه «الرقابة الشرعية الرمزية» التي تُعيد تعريف السياسة بوصفها فضاءً للإخضاع العَقَدي، وبهذا المعنى تُصبح مأسسة التديّن أداة نفي للصراع السياسي، وتُحوِّلُ المجالَ العام إلى فضاء أخلاقي مغلق، لا يُنتِج سياسات وإنما يُعيد إنتاج معايير الولاء العقائدي.
يظهر ذلك بوضوح في توزيع السلطات الداخلية، وتعريف الجدارة السياسية، حيث تُقدَّم المرجعية الدينية كمعيار أعلى من الكفاءة، وتُختَزل فكرة الصالح العام في مفهوم «الحق الشرعي». هذا التحوّل من الدولة الرمزية إلى الدولة المؤدلجة دينياً لا يُشير إلى عودة إلى نظام ثيوقراطي تقليدي، وإنما إلى إنتاج جديد لهوية سياسية تستبطن الدين، وتحوله إلى إطار قيمي مُلزِم، دون مساءلة، ولا تداول، ولا إعادة نظر في علاقة المقدّس بوصفه أداة سلطة.
ينبّه طلال أسد في أطروحاته حول تكوّن الخطاب الديني إلى أن الدين يتشكّل دوماً ضمن بنيات تاريخية تنتج «أنماطاً من الإلزام» تعمل من خلال اللغة، والممارسة، والتأويل المؤسسي للنصوص. وبناء على هذا التصور، لا يمكن فصل مأسسة التديُّن في السياق السوري عن إعادة تنظيم السلطة لحدود ما هو مسموحٌ التفكيرُ فيه دينياً، وما يُعَدُّ انحرافاً. فالسلطة الانتقالية تُعيد صياغة قواعد التديّن العام، وتضبط معانيه، وتحوّل الأطر الدينية إلى آليات معيارية تُخضع بها المجال السياسي والاجتماعي لمصفوفة قيمية لا تقبل التفاوض.
في هذا النموذج، يصبح التديّن المؤسّس أشبه بـ«جهاز خطاب»، بتعبير أسد، لا يُحدّد الإيمان من حيث المعتقد، إنما من حيث المسموح التفكير فيه ضمن النظام الرمزي للسلطة، وهذا يُحوِّلُ الممارسة الدينية إلى وسيلة ضبط اجتماعي-سياسي، حيث يُعرَّف الفعل السياسي عبر مدى اتساقه مع النَسَق العقائدي الذي تصوغه السلطة، لا النصوص المقدسة.
لا تعتمد السلطة الانتقالية في سوريا على القمع المباشر أو الرعب الاستعراضي، وإنما على إنتاج نمط نفسي-اجتماعي من الخضوع القَلِق. لا يعود المواطن في ظل هذا النمط خاضعاً لجهاز قمعي واضح، بل لمقاييس رمزية، ومعايير انضباط غير مُصرَّح بها، تتسرّب إلى المجال العام، وإلى السلوك الفردي، وإلى آليات التعبير الذاتي. هنا، لا يُطلَب من المواطن أن يُطيع أمراً صريحاً، وإنما أن يتصرف بطريقة «تُفهَم» على أنها متوافقة مع السلطة، حتى حين لا يكون ثمة قانون مُعلن.
تُستبدَل أدوات الردع التقليدية بمنطق الرقابة المؤجلة، وتُصبح الطاعة استباقاً لخطر غير مؤكد، فالمواطن يضبط نفسه دون حاجة إلى سلطة تضبطه، ويُعيد تشكيل لغته وسلوكه ونبرته، وفق ما قد يُطلَب منه لاحقاً. هذه الحالة تُقارب ما وصفه بيير بورديو بـ«العنف الرمزي»، حين يمارس الفرد على نفسه ما لم يُفرَض عليه خارجياً.
هذه المنهجية لا تُنتج مجتمعاً حراً وإنما مجتمعاً يُعيد إنتاج هشاشته ذاتياً، ويُخضِع نفسه تحت وهم الحماية، ويُنكر قدرته على التغيير خشية فقدان الحد الأدنى من الاستقرار. هكذا يتحوّل الخوف إلى بنية داخلية من الضبط، لا إلى حالة طارئة من الانفعال، ويغدو الخضوع طقساً يومياً لا قراراً واعياً.
ما تقدّمه السلطة الانتقالية السورية ليس فقط بنية قمع ناعمة، وإنما ما يُسميه جورجيو أغامبِن بـ«الحالة الاستثنائية المعممة»، حيث يتحوّل التهديد المستمر إلى شرط يومي للحكم، ويغدو الخوف ذاته هو البيئة التي تتشكل فيها الطاعة والانضباط. هذه السلطة لا تحتكر القوة فحسب، هي تحتكر تفسيرَ الخطر وتُعيد تنظيم العلاقة بين المواطن والواقع من خلال التحكم بتوقّعات الخطر لا حدوثه.
إن بقاء سوريا في وضع «الدولة-العتبة»، من دون تحول حقيقي إلى دولة مكتملة التعاقد، يُعَدُّ التحدي البنيوي الأعمق في لحظتها السياسية الراهنة. هذا يحتاج إلى إعادة تعريف السياسة بوصفها حقلاً للتفاوض الأخلاقي على المصير العام، لا مجرد إدارة للفئات والمصالح. لا تحتاج سوريا إلى هوية مغلقة تُخضِعُ التعدد، وإنما إلى فضاء تعايشي يُعيد الاعتبار للهويات جميعاً بوصفها روافد مشتركة في صياغة المعنى الوطني.
إن اللحظة التأسيسية التي لم تُنجَز بعد، تفترض إعادة تَخيُّل شاملة لمفهوم الدولة في سوريا؛ دولة تُبنى على تعاقد مدني جديد يُعيد تعريف السيادة بوصفها ناتجاً عن الاعتراف المتبادل. وإذا كانت سوريا قد أخفقت، منذ نشأتها، في التأسيس الفعلي لفكرة الدولة-الأمة، كما تَصوّرها بنديكت أندرسن بوصفها جماعة مُتخيَّلة تجمعها رموز تمثيلية وسرديات جامعة، فإن التحدي اليوم لا يكمن في استعادة ذلك النموذج بمركزيته الصلبة فقط، بل في إعادة ابتكاره بوصفه إطاراً تعددياً حيّاً، يحتفي بالاختلاف، ويُعيد إنتاج الانتماء بوصفه خياراً طوعياً ضمن فضاء مدني مفتوح.
بهذا المعنى، لا تُختَزَل الدولة-الأمة في وحدة جغرافية أو قومية مغلقة، بقدر ما تُعاد صياغتها كأفق رمزي وسياسي مشترك، ينشأ من التفاوض الحرّ بين مكونات المجتمع، ويتجسّد في إرادة جامعة تُعيد إنتاج الخيال الوطني بوصفه سردية حيّة. وحده هذا الأفق التشاركي كفيل بأن يُحرر سوريا من منطق «العتبة الدائمة»، ويمنحها شرعية سيادية نابعة من التعدد.
مقالات مشابهة