Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • أحداث آذار: المواجهة والمجازر شهادات وخلاصات من خمسة أيام دامية في الساحل السوري صادق عبد الرحمن…المصدر:الجمهورية .نت
  • مقالات رأي

أحداث آذار: المواجهة والمجازر شهادات وخلاصات من خمسة أيام دامية في الساحل السوري صادق عبد الرحمن…المصدر:الجمهورية .نت

khalil المحرر يونيو 25, 2025

تقترب مدة عمل اللجنة التي شُكِّلت بقرار من الشرع للتحقيق في «أحداث الساحل السوري» من نهايتها، إذ ينبغي أن يَصدُرَ تقريرها النهائي قبل العاشر من تموز القادم. وبينما ستكون هناك أهمية وقراءات سياسية وحقوقية لفحوى التقرير، فإن ما حدث في الساحل السوري في آذار(مارس) لا يمكن أن يمضي بمجرد صدور التقرير أياً تكن نتائجه وقراءاتها، بل هو استحقاقٌ سيبقى يواجه المجتمع والسياسة والثقافة في سوريا ما لم يُنظَر فيه ويُناقَش بوصفه امتحاناً وطنياً. كمساهمة في ذلك، تنشر الجمهورية على مدى يومين ملفاً عن مجازر الساحل وظروفها وتبعاتها، في محاولة للإحاطة ببعض أبعاد تلك المأساة الوطنية.

هذا المقال هو الأول، وتعقبه ثلاث مقالات أخرى.

* * * * *

أكثر من مئة يوم مرت على مجازر الساحل السوري، قرأنا وسمعنا خلالها عشرات التقارير والشهادات في منابر صحفية وحقوقية سورية وعربية وأجنبية وكذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن الفيديوهات التي صَوَّرها القتلة بأنفسهم وهم يرتكبون مجازرهم أو يتجهون نحو أماكن ارتكابها. شكّلت السلطةُ لجنة تحقيق في التاسع من آذار (مارس)، وكان رئيس اللجنة ياسر الفرحان قد أعلن بُعيدَ تشكيلها أنها «ستقدم إحاطة أسبوعية» عن عملها، لكن هذا لم يحدث.

وما يزال هناك انقسامٌ سوري-سوري حاد بشأن أحداث الأيام الخمسة، منذ السادس من آذار حتى الحادي عشر منه. ولا أتحدث هنا عن انقسام في الموقف السياسي بشأن ما جرى فقط، ولكن أيضاً عن انقسام بشأن الوقائع نفسها، بشأن ما حدثَ وما لم يحدث. ويتراوح هذا الانقسام بين حدٍّ أقصى يُنكر هجمات «الفلول» أو يحصرها في كمائن محدودة جداً، وحدٍّ أقصى معاكس يُنكر المجازر أو يحصرها في انتهاكات فردية أو يقول إن القتلى أساساً من عناصر النظام السابق. وطبعاً لا شك أن الانقسام في الموقف السياسي مُتداخل مع الانقسام بشأن الوقائع بحيث يؤثر أحدهما في الآخر، لكن المواقف السياسية ليست ناتجة بالضرورة عن مقدار المعرفة بالأحداث، بل لعل العكس هو ما يحدث في أغلب الأحيان، إذ أن كثيرين يُصدّقون من الأحداث ما يتوافق مع مواقفهم المُسبقة. على أي حال، سأحاول في هذا المقال أن أتناول المسألتين؛ الوقائع مع مراعاة تسلسلها الزمني قدر الإمكان منذ ظهر السادس من آذار، ثم الموقف منها.

يستند هذا المقال إلى مقابلات مع ناجين وناجيات وشهود مباشرين على الأحداث، وإلى متابعة متأنية لعدد كبير من الشهادات والفيديوهات والتقارير والأوراق المنشورة التي سأُدرج روابط لأبرزها في قائمة في آخر المقال، ثم إلى أحاديث متنوعة مع شهود محليين وأصدقاء وصديقات متنوعين مطّلعين، أتوجه لهم جميعاً بالشكر. يبدأ النص أولاً بعرض ما استطعتُ مقاطعته من وقائع مؤكدة، وينتقل بعدها إلى تحليل لها وتعليق عليها بما يتفاعل مع الانقسام السوري-السوري أعلاه. ستجدون كلمة «فلول» أينما وردت بين قوسين، لأنها الكلمة الشائعة لكنها لا تُعبّر بشكل دقيق عن المجموعات التي تحركت في السادس آذار، والتي يحتاج وصفها عبارة طويلة هي التالية: «مجموعات من مسلحين علويين كان أغلبهم مقاتلين في تشكيلات مُسلّحة تابعة للنظام السابق».

سيُرافقنا «ناجي» في معظم رحلتنا لعرض الوقائع، وهو اسمٌ مستعارٌ لشاهدٍ نجا من الموت مرتين «بالصدفة»، ودَفَنَ جثامين ضحايا عِدّة من بينهم شقيقه وزوج شقيقته. يطلب ناجي أن تبقى كل التفاصيل عن بيته وقريته ومكان تواجده وقت المجزرة خفيّةً تماماً، فهو ما يزال يشعر أن الخطر قريبٌ جداً.

هجمات «الفلول»
«استمرت أصوات الاشتباكات طوال الليل. لم نستطع النوم، ولم يكن لدينا أي مصدر أخبار موثوق. مع اقترابنا نحو ظهيرة يوم الجمعة السابع من آذار صارت أصوات الرصاص أقل عنفاً وأكثر تَقطُّعاً، لكننا لم نجرؤ على الخروج. كانت أصوات المسلحين وصليات الرصاص قد باتت قريبة جداً من البيت، وفجأة تم خُلع الباب بعنف، ودخل مسلحون غاضبون».

ناجي

يُلخّص المقطع أعلاه ما يعرفه معظم الناجين والشهود الذين تحدثتُ إليهم عن هجمات «الفلول»، فهم لا يعرفون سوى أنهم وجدوا أنفسهم قريبين من ميدان معركة لا يعرفون حجمها وأهدافها، بعد أن كان معظمهم يشعرون سلفاً أن الساحل قد يكون على موعد مع مواجهةٍ في وقتٍ قريب. لكن لماذا كانوا يشعرون بذلك؟ «التوتر العام السائد نتيجة تصاعد الانتهاكات والاشتباكات والخطاب الطائفي» كما قال ناجي، و«رائحة الموت التي كانت تسري حتى في الهواء» كما قال شاهدٌ آخر، و«تَصاعُد الغضب العام في الأوساط العلوية نتيجة تكرار الانتهاكات والإذلال والحرمان من مصادر الدخل» كما قالت شاهدة ثالثة، و«الخط التصاعدي لأعمال القتل التي يرتكبها مسلحون تابعون للسلطة الجديدة» حسب شاهد رابع، والشائعات الكثيرة التي كانت تتحدث عن قرب فرض الحماية الروسية (أو الدولية) على الساحل السوري. ناجي بالذات لم يكن يعرف شيئاً تقريباً، وإلا لما اختار قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع شقيقه وأمه في بيت أخته الريفي. كانت منطقة بيت أخته قريبة من ميدان مواجهة مسلحة ثم ميداناً لمجزرة مروعة، فيما كان بيته في المدينة وبيت أهله في قريتهم البعيدة في الجبل آمنَين. لم يُقتلَ أحدٌ في قريته الأصلية، ولا في محيط بيته في المدينة؛ «فقط لو أنني كنتُ أعرف» يقول ناجي بحسرة.

في يوم الخميس، السادس من آذار، كانت مواجهة قد بدأت قبل الظهيرة في الدالية وبيت عانا في جبال ريف جبلة، بعد أن توجهت دورية من «الأمن العام» لاعتقال مطلوبين، لكنها بالنسبة لكثيرين كان يمكن أن تكون مثل سابقاتها، مواجهة محدودة تنتهي بسرعة كما جرى قبل ذلك في عين الشرقية وخربة المعزة وغيرها. عند الظهيرة بدا أن المواجهة أكبر من المعتاد، إذ استخدمت قوات السلطة طائرة مروحية. في مقطع مُصوَّر شهير، كانت مروحية حربية تطلق صاروخاً أثناء تحليقها في سماء الدالية، بينما قيلَ إن مقاتلة حربية روسية كانت تُحلق فوقها، وشاعت أحاديث عن أنها منعت المروحية من استئناف غاراتها. لا نعرف ما الذي كانت تفعله الطائرة الروسية هناك، لكنها لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي تنفذ فيها طائرات حربية روسية طلعات جوية بعد سقوط نظام الأسد.

منذ ما بعد ظهر اليوم نفسه بدأت مواجهات وتحركات أوسع تنفجر بالتتابع في مناطق عدة، كان أوسعها وأكثرها تنظيماً في مدينة جبلة ومحيطها وفي ريف القرداحة وفي بانياس. قُتِلَ عشرات من عناصر «الأمن العام» و«فصائل وزارة الدفاع» على الحواجز والنقاط التي هاجمها مسلحو «الفلول»، الذين أطلق بعضهم النار على سيارات مدنية تحمل لوحات تشير إلى محافظة إدلب، كما أطلق بعضهم النار أحياناً على سيارات لم تستجب لأوامرهم بالتوقف عندما انتشروا على الطرقات، ما أدّى إلى ضحايا من المدنيين السُنّة أيضاً.

تقول شهادات ومعلومات متقاطعة إن أخباراً كانت تَرِدُ في الأيام السابقة من ضباط خارج البلد إلى مقاتلين وضباط سابقين في قوات النظام داخل البلد، تفيد بأن المناطق التي ينجحون في السيطرة عليها وطرد عناصر السلطة الجديدة منها ستكون تحت حماية روسية. لكن هل كان مُنسّقوا المجموعات وقادتُها داخل البلد أو خارجه على صلة بأي جانب روسي فعلاً؟ لا نعرف اليوم، وقد لا نعرف أبداً. غير أننا عرفنا أن محمد الجابر، المقيم في روسيا الآن والذي كان زعيماً لميليشيا صقور الصحراء التابعة للنظام السابق، كان مشرفاً على هجمات جبلة ومحيطها حسب اعترافه في مقابلة تلفزيونية.

في مدينة جبلة مثلاً، انتشر بضعة عشرات من مسلحي «الفلول» في حَيَيّ العمارة والجبيبات طوال ليل 6-7 آذار، وكان بعضهم يحمل أجهزة اتصال لاسلكية، فيما كان عشرة منهم يحاولون السيطرة على المشفى الوطني. لم ينفذوا أي مداهمات لبيوت السُنّة في الحيين، ولم يحاولوا اقتحام الأحياء السُنّية في المدينة، كما أنهم لم ينجحوا في إتمام السيطرة على المشفى الوطني رغم حصاره لساعات ورغم أن عدد العناصر المحاصرين فيه لم يكن يتجاوز ستة، وكان أحدهم مصاباً أصلاً. في الأثناء، كانت مجموعات أخرى من «الفلول» قد انتشرت خارج المدينة على الطريق الدولي، وكان عناصر من فصائل تابعة لوزارة الدفاع محاصرين في الكلية البحرية شمال المدينة، واستمرت الاشتباكات المتقطّعة بينهم وبين مقاتلي «الفلول» منذ مساء السادس من آذار وحتى ظهيرة السابع منه.

يقول مصدر مطّلع إن عدد عناصر الأمن العام التابعين لوزارة الداخلية في جبلة وريفها كان أقل من 200، أمّا عناصر الفصائل التابعة لوزارة الدفاع الذين كان أغلبهم يتمركزون في الكلية البحرية فلم تكن أعدادهم تتجاوز 300، ما يعني أن عدد المقاتلين التابعين لوزارتي الدفاع والداخلية في جميع أماكن تواجدهم في منطقة جبلة الإدارية الواسعة لم يكُن يتجاوز 500 في السادس من آذار على الأرجح. يصعب تأكيد أرقام كهذه بشكل قاطع مع حالة السيولة السائدة، لكن المؤكد أن العدد كان في حدود المئات وليس أكثر من ذلك.

لم تحدث تحركاتٌ عسكرية في أحياء مدينة طرطوس وضواحيها ومحيطها على الإطلاق، ولا في داخل أحياء مدينة اللاذقية، وهما المدينتان الأكبر والأكثر أهمية في الساحل السوري، كما هو معلوم. كما لم تحدث عمليات ذات أهمية عسكرية في مناطق خارج جبلة وبانياس وبعض مناطق ريفيهما وريف القرداحة، بل اقتصر الأمر على هجمات وكمائن متفرقة في بعض ضواحي مدينة اللاذقية ومناطق من ريفها، وهجوم وقع ليلاً في ريف مصياف ضد مجموعة من أحد فصائل وزارة الدفاع.

أمّا بقية المناطق الواسعة من جبال الساحل السوري، فقد تحركت في بعضٍ منها مجموعاتٌ متفرقة من شبان علويين على وقع الأخبار القادمة من مناطق الاشتباكات، حاصروا مخافر ومقرات عناصر السلطة الجديدة، أو انتشروا ليلاً في بعض المناطق في محاولة لإظهار نوع من السيطرة، فيما انسحب عناصر السلطة من أغلب تلك المناطق دون مواجهة، أو خرجوا منها بسلام بوساطة الوجهاء والمشايخ المحليين بعد محاصرتهم. وكي تَرتَسم الصورة بوضوح، فإننا نتحدث عن بضعة عشرات من عناصر «الأمن العام» أو «الفصائل» في كل منطقة من المناطق، وعن بضعة عشرات من الشبان العلويين بالمقابل، الذين كان بعضهم يحملون عصيّاً وأسلحة بيضاء، وذلك في مناطق يقطن في كل واحدة منها عشرات آلاف العلويين الذين التزمت أغلبيتهم الساحقة في البيوت. مثلاً، في بلدة الشيخ بدر بريف طرطوس تم تأمين عناصر الأمن العام من قبل الوجهاء والمشايخ وبعض الأهالي ونقلهم بسلام إلى مدينة طرطوس، وذلك بعد حصارهم من قبل الشبّان وتجريدهم من سلاحهم دون قتل أي منهم، وكان عدد المهاجمين بضعة عشرات، بعضهم لا يحمل سلاحاً نارياً وليس معهم أجهزة اتصال لاسلكية.

في عدة قرى تواصلتُ مع أشخاص من أبنائها، مَنَعَ الوجهاء والمشايخ العلويون الشبّان المتحمسين من الخروج لمهاجمة عناصر السلطة أو الاشتراك في المواجهات. وروى كثيرون ممن تحدثتُ إليهم أخباراً عن مشاهد مشابهة من قرى ومناطق عديدة على امتداد الساحل السوري وجباله، كان تَدخُّلُ المشايخ والأهالي فيها حاسماً في منع انضمام الشبّان إلى الهجمات أو في حماية عناصر تابعين للسلطة.

انسحبَ المقاتلون العلويون من مواقعهم وأماكن انتشارهم في أوقات متفاوتة بين فجر وظهيرة السابع من آذار، دون معارك في بعض الحالات أو بعد معارك متفاوتة الحدة في حالات أخرى، وذلك بعد أن تقدمت فصائل وزارة الدفاع ومجموعات محسوبة عليها لبّت نداء النفير العام الذي أعلنته دوائر السلطة، إذ تدفَّقت أرتال المسلحين ليلاً وفجراً بالآلاف عبر طريق إدلب اللاذقية ثم من اللاذقية باتجاه جبلة، وعبر طريق حمص طرطوس ثم من طرطوس باتجاه بانياس. لم تتعرض تلك الأرتال في طريقها لأي مقاومة جديّة سوى بعض الرمايات والكمائن البسيطة المتفرقة هنا وهناك، ومن اختاروا المقاومة في بعض المواقع هُزموا سريعاً نتيجة قلة أعدادهم مقارنة بأعداد مقاتلي الفصائل.

ليس هناك حصيلة رسمية نهائية صدرت عن السلطة بشأن أعداد الضحايا نتيجة هجمات «الفلول»، كما أن الأرقام المتداولة متضاربة جداً، لكن الشبكة السورية لحقوق الإنسان قالت، في تقرير لها نشرته في 9 نيسان، إن «المجموعات المسلحة خارج إطار الدولة المرتبطة بنظام الأسد» قَتلت في تلك المواجهات 445 شخصاً، دون أن تُميّز في تقريرها ذاك بشكل واضح بين أعداد المقاتلين والمدنيين، لكن مع الإشارة إلى أن من بين الضحايا على يد «الفلول» 9 أطفال و21 سيدة. من جهته قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، في تقرير له تم نشره في 17 آذار، إن عدد قتلى «قوى الأمن وعناصر وزارة الدفاع» في تلك المواجهات بلغ 273، فيما بلغ عدد قتلى «المسلحين العلويين» 259 حسب التقرير.

انتهت «هجمات الفلول» بعد ظهر السابع من آذار، فيما استمرت المجازر الوحشية التي كانت قد بدأت فجر اليوم نفسه في قرى علوية من ريف اللاذقية الشمالي.

المجازر
«دخل مسلحون غاضبون ملثمون إلى البيت. سألَ أحدهم: ’أنتو مدنيين ولا علويين؟‘. لم أفهم معنى السؤال، ولم يُجب أيٌّ منا عليه نتيجة الذهول. قام أحدهم باعتقال زوج أختي واقتياده إلى الخارج. خرجوا جميعاً، ثم عادوا بعد أربع أو خمس دقائق وأخذونا أنا وأخي وابن أختي. أجبرونا على الركوع، ولم نكن حتى تلك اللحظة نتصور أنه قد يتم قتلنا. لم نكن نظن أن الأمور وصلت إلى هذا الحد. كانت هناك جثة مرمية جانباً، التفتُّ إليها وعرفتُ لحظتها أنه كان زوج أختي، لكنه كان بلا وجه. كنا نسمع أصوات طلقات متفرقة طوال الوقت قبل دخولهم بيتنا وبعده، ولم أتصور أن واحدة منها كانت قد مزقت وجه صهري قبل دقيقتين. شعرتُ وقتها أننا سنموت حتماً، وفي تلك اللحظة جاء صوتٌ من بعيد لمقاتل مُلثَّم يصرخ في رفاقه: هؤلاء مدنيون ولا علاقة لهم، لا تقتلوهم. طلبَ منا أن ندخل إلى البيت وألّا نفتحَ الباب مُجدداً. وقتها فهمتُ معنى السؤال؛ يبدو أن العلويين لا يمكن أن يكونوا مدنيين من وجهة نظر بعضهم».

ناجي

في الشهادات، كان إعدام الضحايا يتم دون تفتيش المنازل، أو قبل تفتيش المنازل، أو بعد تفتيشها بغض النظر عن نتيجة التفتيش. كان هذا عقاباً جماعياً وانتقاماً شاملاً. في شهادة ناجي، بدأت أول مجموعة دخلت إلى بيتهم بأعمال القتل كما جرى مع زوج أخته، ولكن في شهادات أخرى من مناطق غيرها اكتفت المجموعات أولاً بالتفتيش وأحياناً إطلاق الشتائم الطائفية، ثم بعد ذلك عادت المجموعات نفسها أو مجموعات غيرها للسرقة والنهب، أو إحراق البيوت وإتلاف الممتلكات، أو القتل.

تحكي الشهادات والأحاديث الشائعة في الساحل السوري عن مجموعات تُفتّش وتعتقل، ومجموعات تنهب وتسرق وتحطم الأثاث وتحرق البيوت، ومجموعات تُعدم الذكور البالغين، ومجموعات تقتل عائلات بأكملها، ومجموعات تفعل بعض هذه الأشياء أو كلّها مُجتمعة. لكن الشهود لم يستطيعوا غالباً تمييز المجموعات من بعضها بعضاً من حيث تبعيتها، وبينما كان لعناصر الأمن العام لباس مميز يعرفه بعض الناس، فإن الشهود والناجين قلّما استطاعوا تمييز الباقين من خلال ألبستهم. نتحدث هنا على استباحة مُتعددة المستويات، استمرت أياماً في أغلب مناطق انتشار الفصائل. بحسب الشهادات التي بين يدي، بالإضافة إلى ما يمكن التقاطه من الشهادات الكثيرة المنشورة، فإن أعمال القتل استمرت طوال الثامن والتاسع من آذار، ثم تراجعت نسبياً بينما استمرت أعمال حرق المنازل والنهب والإذلال والترهيب طوال العاشر من آذار، ثم في الحادي عشر منه في بعض المناطق. استمرت بعدها الأجواء المُخيفة، التي تتخللها انتهاكات وأعمال ترهيب ونهب، وأحياناً قتل، لأسابيع لاحقة في أغلب المناطق المُستباحة. وباستثناء اشتباكين محدودين في ريف بانياس، أحدهما في الثامن والآخر في التاسع من آذار، لم تَخُض فصائل وزارة الدفاع أي مواجهة طوال الأيام التالية ليوم السابع من آذار.

أكبر المجازر من حيث عدد الضحايا وقعت في المختارية في ريف اللاذقية الشمالي، وفي الرصافة في ريف مصياف التابع لمحافظة حماة، وفي الصنوبر في ريف اللاذقية، وفي حي القصور في مدينة بانياس. تركّزَ قتلُ عائلات كاملة بما فيها النساء والأطفال في حي القصور في بانياس، لكن هذا حصلَ أيضاً في مناطق أخرى متعددة. في المختارية والرصافة والصنوبر، على الأقل، قامت مجموعاتٌ من فصائل منضوية في وزارة الدفاع بإعدام كل ذكر علوي بالغ وقعت يدها عليه. وأغلب الفيديوهات التي تم نشرها على فيسبوك لمجرمين يفخرون بجرائمهم، كان المجرمون أنفسهم قد نشروها بأنفسهم كحالات على حساباتهم على تطبيق واتس آب، واستمرّ هذا «الفخرُ» أياماً أحياناً، بعد تشكيل لجنة التحقيق وبعد إعلان السلطة أنها ستحاسب المجرمين.

في أغلب الأماكن، لم تبدأ أعمال الدفن إلّا في العاشر من آذار، وكان معظمها في مدافن جماعية بحضور عناصر من الدفاع المدني والهلال الأحمر والأمن العام، ودون ترك مجال للعائلات لتوديع ضحاياها بطريقة لائقة أو التعرُّف على الجثامين مجهولة الهوية. دفنَ الأهالي بعض الجثث بأنفسهم حيثُ استطاعوا، تماماً كما في فعل ناجي في التاسع من آذار. مؤخراً فقط، تمت إعادة ترتيب بعض المدافن بشكل لائق، وتدوين ما أمكن حصره من أسماء الضحايا المدفونين فيها.

ليس هناك حتى الآن إحصاء نهائي وموثّق بشكل كامل لعدد الضحايا نتيجة المذابح، لكن مجموعة السلم الأهلي في سوريا قالت في أواخر آذار إنها تمكنت حتى حينه من تسجيل مقتل 1743 مدنياً ومدنية في الساحل السوري بين 6 و10 آذار بينهم عشرات الأطفال، بينما تراوحت أرقام جهات متعددة أخرى بين 1400 و2250. وما يزال هناك مئات المفقودين الذين لم يتم توثيق أسمائهم وأعدادهم حتى الآن، ما يُشير إلى احتمال أن تكون أعداد الضحايا أكبر من ذلك بكثير.

هذه أسماء القرى التي شهدت في تلك الأيام مجازر وأعمال قتل أو اختطاف أو استباحة أو نهب أو إحراق للمنازل والمحلات، مُوزَّعة بحسب تبعيتها الإدارية: حارة القنيطرة في كرتو في ريف طرطوس على طريق حمص طرطوس الدولي، حي القصور وقرى حريصون وبارمايا والحطّانية واسقبلة وفنيتق والبلوطية وتعنيتا وحمام واصل في بانياس وريفها، حي الجبيبات ومنطقة الرميلة وقرى قرفيص وبسيسين وعين شقاق والشراشير وبستان الباشا والعسالية والراهبية في جبلة وريفها، وقرى عين العروس واسطامو والسلاطة وبحمرا وقبو العوامية في ريف القرداحة، وحي الدعتور وضاحية بسنادا وقرى المختارية والشريفا والشلفاطية وبرابشبو والشير والصنوبر ومفرق المزيرعة في اللاذقية وريفها، وقرى الرصافة والتويم وأصيلة وأرزة والعلمين في ريف حماة الغربي. بعض هذه القرى والأحياء أصبحت مناطق منكوبة بكل معنى الكلمة، وكأنَّ إعصاراً أو حريقاً ضربها.

قد تكون هناك مواقع أخرى شملتها أعمال قتل أو اعتداءات في تلك الأيام، وأَعتذرُ من أهلها وضحاياهم إذا فاتني ذكرها.

النجاة

«لم نجرؤ على الخروج لمُعاينة جثمان زوج أختي. كانت أصوات الرصاص والهتافات الطائفية في الخارج تعمّ المكان. بعد نحو عشر دقائق دخل مسلحون من جديد إلى بيتنا، أحدهم يحمل سكيناً كبيراً وضعها على رقبتي: ’سأذبحك‘. ارتمت أمي بجسدها فوقي لتحميني فتراجعَ قليلاً، ثم دخل آخرون واقتادوا أخي وابن أختي إلى الخارج وسط صراخ أمي وأختي، وسحبوني بعدها بعنف من تحت أمي. في الخارج وضع أحدهم فوهه بندقيته في رأسي، فمدَّ أخي يده إليه وقال له: ’ببوس إيدك لا تقتلو‘، تراجعَ العنصر إلى الخلف، فقام عنصر غيره من المجموعة نفسها برمي أخي بالرصاص وقتله على الفور، وعندما وَجَّه بندقيته نحوي ظهرَ العنصر الملثّم نفسه الذي أنقذ حياتنا أول مرة، عرفته من صوته عندما ردَّدَ عبارته السابقة نفسها تقريباً: هدول مدنيين، قلتلكن لا تقتلوهن».

ناجي

في ثلاث شهادات بين يدي، وفي شهادات كثيرة أخرى منشورة، بدا واضحاً أن هناك من يريد قتل المدنيين العلويين وهناك من لا يريد. وإذا كانت بعض الشهادات تُميّز بين مجموعات وغيرها من حيث القتل، فإن لدي شهادتين تتحدثان عن تَمايُز العناصر ضمن المجموعة الواحدة. تقول شاهدةٌ إن أحد المقاتلين أعدم رجلاً في بيت مجاور، ثم كان يريد إعدام والدها لأنه «علوي خنزير» حسب قوله، لكن عنصراً آخر منعه بالقوة وكاد يستخدم سلاحه لمنعه، ثم أشرفَ بنفسه على إخراج عائلتها وناجين وناجيات من عوائل عدّة إلى منطقة أخرى. كان العنصران يرتديان لباس الأمن العام.

بالنسبة لأغلب الناجين والشهود، لم يكن ممكناً التقاطُ فرق واضح في السلوك بين المقاتلين السوريين والمقاتلين الأجانب مثلاً، ولا بين المجموعات من حيث لباسها وما يعنيه هذا اللباس على صعيد سلوكها. لكن بالإجمال كان العناصر الذين يرتدون لباس الأمن العام أقل وحشية وارتكاباً للانتهاكات والجرائم، غير أن الأمر كان عشوائياً، وكأنَّ المرجعية لكل الأفعال هي إرادة العناصر الشخصية أو إرادة قادتهم الميدانيين.

الأحراش

«حلَّ المساء وهدأ الرصاص. كانت أصوات البكاء المكتوم تتصاعد من البيوت حولنا. قضينا ليلة رهيبة، مع جثتين في الخارج لا نجرؤ على الخروج لدفنهما. في الصباح عاد المسلحون للحركة في محيطنا، وكنا قد أصبحنا في الثامن من آذار. قرَّرنا أنا وابن أختي أن لا نبقى في البيت، أدخلنا الجثمانين والتجأنا إلى بستان قريب. كانوا يدخلون إلى البيت، ويغادرون عندما لا يجدون رجالاً أحياء. قبل حلول المساء لَمحَتنا مجموعة مرّت مسرعة ففتحت النار باتجاهنا دون اكتراث، لكننا قفزنا من فوق سور ونجونا».

ناجي

كما فكَّرَ ناجي عندما قرَّرَ الاختباء بين الأشجار في بستان مجاور، كذلك فكّرَ عشرات آلاف العلويين في المناطق الريفية وشبه الريفية منذ حلول مساء السابع من آذار. بعض العائلات نامت في الأحراش والغابات والوديان أربعة ليالٍ متتالية. تحركت أرتال الفصائل من مدينة بانياس باتجاه القدموس عبر الطريق الذي يخترق ريف بانياس فجر الثامن من آذار، وكانوا عندما يصلون إلى القرى لا يجدون أحداً من أهلها فيها تقريباً. يقول أحد الشهود إنه وعائلته ومعظم أهالي قريته هاموا على وجوههم في البراري مع أنباء عن تحرك الرتل باتجاه قريتهم. أحرق الرتل عشرات البيوت في القرية، ونهب عشرات البيوت والمحال والسيارات: «اكتشفنا لاحقاً إن بعض أهالي القرية لم يهربوا، إذ عثرنا لاحقاً على 14 جثة في مناطق متفرقة. لا شك أن مذبحة هائلة كانت ستحدث لو بقينا في بيوتنا. عادت بعض العائلات إلى بيوتها في 11 آذار، بعد أن ابتعد الرتل عنها وترك حاجزاً قريباً منها، فيما نزح آخرون إلى مناطق أبعد ولم يرجعوا حتى الآن، خاصة من أُحرقت بيوتهم وليس لديهم أموال لترميمها».

سُنّة وعلويون

«في صباح التاسع من آذار كانت الأمور أكثر هدوءاً بقليل، وتواصلتُ مع جيران لنا من الناجين قالوا إن أحد أصدقائهم من البلد سيمرّ ليأخذهم بسيارته. دفنا صهري وأخي وأكثر من عشرة أشخاص آخرين كانت جثثهم مرمية في العراء، بعضهم لا نعرف أسماءهم. دفناهم في حفرتين، وعندما وصلت السيارة الصغيرة انحشرنا جميعاً فيها كيف ما اتفق وغادرنا. كان سائق السيارة السُنّي ضمانتنا للعبور، وبالفعل وصلنا إلى المدينة بأمان».

ناجي

ساهم سُنّيون كثيرون في إنقاذ أرواح علويين كثيرين. بعض المقاتلين في الأمن العام والفصائل فعلوا ذلك كما تقول الشهادات، وكذلك هبَّ مدنيون سُنّة لإنقاذ معارفهم وجيرانهم. بالنسبة لناجي، قام صديقٌ سُنّي في اليوم التالي، العاشر من آذار، بتأمين خروجه مع أمه وأخته وابن أخته من بيته في المدينة باتجاه قريتهم الجبلية التي كانت بعيدة نسبياً عن ميدان الأحداث. يقول ناجي إنه كان من المستحيل أن يتحرك أي علوي من بيته لوحده هناك في ذلك الوقت.

تحكي شهادةٌ أخرى إن رجلاً سُنّياً ذهب بسيارته إلى أحد المناطق المُستباحة عندما سمع عن أعمال القتل، وتمكَّنَ من نقل صديق علوي له مع عائلته إلى بيته. كان المقاتلون يسمحون له بالمرور بمجرد معرفة أنه سُنّي. كرّرَ الأمرَ عدة مرات مع عائلات لا يعرفها عندما شعر أن بوسعه فعل ذلك، لكن أحد المقاتلين انتبه إلى مجيئه مراراً، فهدده بأن يقتله مع مُرافقيه إذا حاول مرة أخرى «إنقاذ الفلول» حسب تعبير المقاتل. وفي أحياء مدينة جبلة المختلطة طائفياً، التجأت عائلات سنية كثيرة إلى بيوت عائلات علوية خشية مداهمات وأعمال قتل مُحتمَلة مساء السادس من آذار، ثم في الليلة التالية مباشرة حصل العكس تماماً.

هنا تنتهي الوقائع التي استطعتُ التحقّق منها، وهي ليست شاملة بطبيعة الحال ولا تدخل في تفاصيل ما جرى في مناطق كثيرة، وقد يشوبها بعض النقص أو الخلل، لكنها تمنح تَصورّاً معقولاً عن مسار الأحداث. أَنتقلُ في المقاطع التالية إلى بعض التحليل والتعليق بناءً على هذه الوقائع.

لكن قبل كل شيء، ينبغي أن يكون واضحاً أنه لا علاقة بين الموقف السياسي والحقوقي والأخلاقي من المجازر من جهة وبين هجمات «الفلول» أيّاً يكُن حجمها من جهة أخرى، ومن يعتبر هجمات «الفلول» تبريراً معقولاً للمجازر يُخاطر بإمكانية تبرير كلّ جرائم الحرب الأخرى في سوريا وأي مكان من العالم.

أي انقلاب؟ وأية مجازر؟
بلغَ عدد سكان مدينة جبلة وريفها بحسب إحصاء العام 2004 قُرابة 200 ألف نسمة، ثلاثة أرباعهم من العلويين حسب التقديرات التقريبية التي لا يمكن تأكيدها لأن الدولة السورية لا تُميّز بين العلويين والسُنّة في سجلّات النفوس، لكنها تقديرات منطقية بالنظر إلى أن نصف المدينة على الأقل وكل ريفها من العلويين. وبالنظر إلى نسبة تزايُد أعداد السكان في سوريا منذ ذلك الوقت، فإن ربع مليون علوي على الأقل يقطنون في جبلة وريفها اليوم. وبينما يتحدث كثيرون عن «مؤامرة علوية» و«انقلاب علوي»، وعن «العلويين الذين غدروا بالأمن العام»، وعن «طائفة علوية لم تتقبّل خسارتها للسلطة فأرادت أن تستعيدها في السادس من آذار»، فإن كل المقاتلين العلويين الضالعين في «المؤامرة الانقلابية» في منطقة جبلة الإدارية، من أصل ربع مليون نسمة، عجزوا طوال نحو 24 ساعة عن هزيمة بضعة مئات من مقاتلي السلطة الجديدة وتحصين أماكن انتشارهم للدفاع عنها. أما معركة المشفى الوطني في جبلة، التي يتم تقديمها كواحدة من أبرز المعارك في «انقلاب الفلول»، فقد شارك فيها ستة عشر مقاتلاً فقط من الطرفين.

على هذا فإنه لا يبدو معقولاً الحديثُ عن «انقلاب علوي»، وإذا وضعنا أحداث جبلة ومحيطها إلى جوار حقيقة أن كثيراً من الوجهاء والمشايخ حالوا دون مشاركة بعض الشباب المتحمسين في مناطق عديدة، وأن معظم الأرياف والتجمعات السكنية العلوية الكبيرة في محافظات طرطوس واللاذقية وحماة وحمص لم تتحرك فيها أي مجموعات بشكل منظّم ومؤثر، فإن مما لا شكّ فيه أنَّ ما جرى كان تَحرُّكاً عسكرياً ارتجالياً شديد الرثاثة، لا يقوده ضباط متمرسّون، ولا يحوز دعماً شعبياً في أوساط العلويين، ولا يستند إلى خطة باستثناء الرهان على حماية خارجية فورية لم تكن مضمونة. والأرجح أن الحديث عن طائرة روسية كانت تُحلّق فوق المروحية التابعة لوزارة الدفاع، في سماء الدالية، هو ما شجّعَ تلك القلّة على التحرّك.

نحتاج أن نتذكر هنا أن قوات جيش النظام السابق وخاصة في الحرس الجمهوري وفِرَق القوات الخاصة، ومعها أجهزته الأمنية وميليشيات الدفاع الوطني، كان فيها عشرات آلاف الشبان العلويين بين متطوعين أو عناصر يؤدون خدمتهم الإلزامية، وأن معظم هؤلاء عادوا إلى قُراهُم وبيوتهم في كانون الأول الماضي، وأغلبيتهم الساحقة لم تشارك في هجمات السادس من آذار. وإلى جانب ذلك، نحتاج أن نُلقي نظرة سريعة على الجبال الساحلية ووعورتها، وأن نفكر في مدى إمكانية خوض معارك كبرى وحاسمة انطلاقاً منها لو توافرت إرادة القتال عند نسبة وازنة من القادرين على حمل السلاح فيها.

نستطيع أن نضع كل هذه الحقائق إلى جانب بعضها بعضاً، لنخلص ببساطة إلى أننا لم نكن في السادس من آذار أمام «طائفة تريد استعادة السلطة التي خسرتها» وفق عبارة شديدة الشيوع، بل أمام «طائفة لم تكن تريد القتال».

أمّا ما جرى بعد هجمات «الفلول»، فقد كان مجازر انتقامية بالغة الوحشية، ولا يمكن أن تكون أي منها مرتبطة بإنجاز أي هدف عسكري، وهي تكاد تكون منقطعة الصلة بهجمات «الفلول»، إذ يعني حجمها ومداها الزمني أن هجمات «الفلول» كانت ذريعة لها. لم يكن المجرمون الذين ارتكبوا المذابح يتعرضون لأي شكل من أشكال المقاومة أثناء اقتحامهم للبيوت، كما أنهم كانوا يبقون في مسارح جرائمهم بعدها، ولعدة أيام في بعض الحالات. وحين كان مقاتلون يحتجون على سلوك زملائهم الإجرامي، أو يمنعونهم من مواصلته، لم يكن يترتب على الجرائم أي تبعات مباشرة على مرتكبيها، ولم يكن «العناصر الطيبون» قادرين على فرض إرادتهم على «العناصر السيئين»، ولا حتى على إخراجهم من ميدان المجزرة كي لا يكرروا أفعالهم. لم يكن كثير من المجرمين يشعرون حتى بالحاجة لإخفاء جرائمهم والتستر عليها، وتشهد على ذلك المقاطع التي صوروها ونشروها بأنفسهم.

لا يمكن أن تحدث أشياء كهذه، وعلى هذا المدى الزمني، ثم نتحدث بعدها عن «أخطاء» و«تجاوزات» و«انتهاكات»، بل كانت تلك أعمال استباحة منظّمة غَرضُها الترهيب العام للجماعة العلوية وإحداث صدمة لا تُمحى من ذاكرتها الجماعية، ولا شك أن هناك من قرَّرَ ارتكابها لأن أحداثاً بهذا الحجم لا تحدث من تلقاء نفسها. هذه جرائم حرب موصوفة ونموذجية، وإذا لم تكن هذه جرائم حرب، فإنه ليس هناك جرائم حرب أصلاً.

لكن ماذا عن مصطلح «الإبادة الجماعية»، أو «الجينوسايد»، لوصف تلك المجازر؟

وفقاً للقانون الدولي، فإن الإبادة الجماعية هي «أيٌّ من الأفعال التالية، المُرتكَبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قَتلُ أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاقُ أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاعُ الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة».

لدينا أدلة في عشرات الشهادات والفيديوهات على ارتكاب الأفعال الواردة في البندين (أ) و(ب) أعلاه بحق علويين، غير أنه لا يمكن وصف هذه الأفعال بأنها إبادة جماعية إلّا إذا تم إثبات «النيّة»، أي إثبات أن المجرمين قتلوا أشخاصاً علويين لأنهم علويون، وهو ما لم يبخل المجرمون في إثباته بأنفسهم جهاراً نهاراً. على الأرجح، ستقرر أي محكمة مستقلة أننا حيال جريمة إبادة جماعية.

المجازر وما بعدها
لقد وقعت حتماً جرائم حرب قد ترقى إلى «إبادة جماعية» في الساحل السوري بين السابع والحادي عشر من آذار، ويتحمل قادة السلطة الحالية مسؤوليتها بلا جدال: فإما أنهم أمروا بارتكابها، أو أنهم سمحوا بارتكابها، أو أنهم فشلوا في القيام بمسؤوليتهم في منعها؛ والأخير هو الحد الأدنى من المسؤولية الذي لا يمكن تفاديه، ولا يمكن معالجة آثاره بغير قيام السلطة نفسها بتحديد المسؤولين ومحاسبتهم. وتقول المادة الرابعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية إنه يجب أن تتم معاقبة مرتكبيها، «سواء كانوا حُكَّاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفراداً».

مرتكبو المجازر، سواء بالأمر بتنفيذها أو بالسماح بها، موجودون هناك في هياكل السلطة، ويحتاج الوصول إلى إجابة قاطعة بشأن أسمائهم ومناصبهم إلى لجنة تحقيق خاصة مستقلة لا يبدو أنها ستتشكل في أي وقت قريب، وقد لا تتشكل أبداً لأن هذا رهينٌ بأوضاع وسياسات دولية، ورهينٌ بقدرة السلطة نفسها على التحوّل إلى «نظام حُكْم شرعي يعترفُ به العالم». لكن ينبغي التذكير أن أحداث آذار في الساحل تدخل في ولاية «اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق بشأن الجمهورية العربية السورية»، وهي تعمل على هذا الملف اليوم، دون أن تنشر شيئاً من نتائج عملها على هذا الصعيد حتى الآن.

أمّا لجنة التحقيق التي شكلتها السلطة، فهي ليست مستقلة لأن الجُناة موجودون في أجهزة السلطة نفسها التي شكّلتها، غير أن الخلاصات التي ستُعلنها تكتسب أهمية كبرى لسببين اثنين، أولهما يتعلق بالخارج، والثاني يتعلق بالداخل وهو الأكثر أهمية.

أما بشأن الخارج، فإذا انتهت اللجنة إلى إدانة «الفلول» وبعض العناصر المُنفلتين فقط، فهذا يعني سياسياً وحقوقياً أنها «فشلت» في إنجاز مهمتها. وقد لا يؤدي هذا الفشل إلى تغيير جدي ومباشر في حجم الاعتراف الدولي بالسلطة الجديدة، لكنه بالتأكيد سيجعلها أضعف وأقل قدرة على المناورة وتسويق نفسها، وقد يؤدي لاحقاً إلى محاسبتها في ملف «إبادة جماعية» سهل الإثبات والاستخدام إذا فشلت في إنجاز ما هو مطلوبٌ منها داخلياً وإقليمياً ودولياً.

وأما بشأن الداخل، فسيكون تقريرٌ نهائيٌ يُدينُ «الفلول» وبعض العناصر المُنفلتين وعداً قاطعاً للعلويين بتكرار المجزرة، وكذلك وعداً لبقية المكونات السورية بأن المجزرة ممكنة بحقهم، ووعداً لعموم السوريين بأن المجزرة واردةٌ في كل وقت. وأظن أنه لا حاجة لشرح ما الذي يعنيه وعدٌ كهذا، وما الذي قد يُفضي إليه.

بخصوص الداخل والخارج على حد سواء، ينبغي أن تُعلنَ السلطة الحالية أن شبح المجزرة ليس وسيلتها للحكم، وبغير ذلك فإن الاستقرار المنشود لن يتحقق مهما كانت الإشارات والجهود الداخلية والإقليمية والدولية جدية بشأن تثبيتها ودعمها، إذ سيكون حصادُها في الداخل والخارج عُرضَةً للذهاب أدراج الرياح في أي وقت. كانت سلطة نظام الأسد قائمة على التلويح بالمجزرة منذ الثمانينيات، ونعرف إلى أين انتهى كلُّ هذا بالبلد وأهله.

سَجلّتُ في مطلع هذا النص اعتراضاً على مصطلح «الفلول»، أساساً لأنه يُوحي بأن عناصر المجموعات التي تحركت في السادس من آذار كانوا يعملون بموجب خطة مرسومة وجدّية لإعادة الأسديين إلى الحكْم. ليس هذا صحيحاً، وهم ليسوا «فلولاً» إلّا بمعنى أن أغلبهم مقاتلون وضباط من بقايا شبكات النظام الأمنية والعسكرية، وأن بعضهم ما يزال يدين بالولاء للأسد. كذلك يتجاهل مصطلح «الفلول» أن هناك أسباباً موضوعية قد تدفع بعض الشبان العلويين لحمل السلاح، من بينها الانتهاكات المتكررة والإذلال الطائفي وغياب الأمل والفقر الشديد والخطاب الإبادي الشامل ضد الجماعة العلوية. هل يمكن أن يستغرب أحدٌ إذا سمع عن شابٍ حمل السلاح بعد أن تم إجباره على «العواء» في ساحة قريته؟

لعلّ الخطأ الفادح الذي ترتكبه كثيرٌ من التحليلات هو فصل الأحداث عن بعضها بعضاً، وكأنّ ما جرى في تلك الأيام الخمس منفصلٌ عمّا قبلها وما بعدها. ليس هذا الفصلُ صائباً، وهو لا يفيد في الوصول إلى أي نتيجة تساعد على فهم الأوضاع وتغييرها. لقد كان نظام الأسد نظام إبادة متوحشاً يحكم بالمجزرة، وشيءٌ واحدٌ قد يمنع تكرار المعارك واستمرار المآسي في سوريا، وهو أن تخرج إمكانية ارتكاب المجازر من احتمالات البلد ومن مستقبل أهله جميعاً.

* * * * *

هنا قائمة ببعض الشهادات والتقارير والأوراق ذات صلة، وهي ليست متطابقة فيما بينها تماماً على صعيد الخلاصات وزوايا النظر وحتى وصف الأحداث أحياناً، لكن الاطلاع عليها مفيدٌ في تكوين صورة شاملة عمّا جرى ومُطابقة الوقائع والوصول إلى خُلاصات:

 

– شهادات لناجين وناجيات وثّقتها الكاتبة والروائية السورية روزا ياسين حسن، ونشرها موقع درج.

 

– شهادات موثّقة بالفيديو من مجزرة الرصافة نشرها المرصد السوري لحقوق الإنسان.

 

– قصص وأسماء أكثر من 60 طفلاً أعدموا في مجازر الساحل السوري، تحقيق أنجزه فريق «يد صغيرة» ونشره موقع درج.

 

– أوقفوا موجة القتل في الساحل واحموا المدنيين، تقرير هيومان رايتس ووتش المنشور في 10 آذار 2025.

 

– تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان المنشور في 11 آذار، وتقريرها المنشور في 9 نيسان.

 

– تقرير أولي عن الإبادة الجماعية في الساحل السوري، نشره موقع مؤسسة هيثم منّاع في 23 آذار.

 

– يجب التحقيق في المجازر المرتكبة في الساحل السوري بحق المدنيين العلويين باعتبارها جرائم حرب، تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في 3 نيسان.

 

– بيانات وخُلاصات مجموعة السلم الأهلي في سوريا المنشورة على صفحتها على فيسبوك.

 

– التطمينات المخيفة: المجزرة كألف حالة فردية، مقال تحليلي عن ما قبل مجازر آذار وما بعدها لعبد الحميد يوسف، موقع الجمهورية.نت.

 

– ثلاثة أيام من الموت، شهادات لناجين من مجزرة قبو العواميّة بريف جبلة، ريبال العلي، موقع الجمهورية.نت.

 

– تباينات العلاقة مع الدولة في البيئات العلويّة وأثرها في أحداث السادس من آذار/مارس، ورقة بحثية لسامر عباس نشرها موقع مبادرة الإصلاح العربي في 7 أيار.

 

– في كواليس مجازر الساحل السوري: مرويات دينية وغيبيات وإشاعات، صهيب عنجريني، منشور في موقع أوان في 13 أيار.

 

– تقرير استقصائي مصوّر من لوموند الفرنسية يثبت تورط فصائل تابعة للسلطة في المجازر استناداً إلى فيديوهات من مصادر مفتوحة، نُشر في 25 نيسان.

 

– «أريد الأمان فقط»، تقرير أعده الصحفي «William Christou» ونشرته الغارديان البريطانية في 27 أيار.

مقالات مشابهة

Continue Reading

Previous: إسرائيل: نجري محادثات مباشرة وتنسيق أمني مع سوريا……المصدر:موقع. 963
Next: حرب الـ12 يوما فاتحة لصراع طويل بين إسرائيل وإيران “حرب الظل” التي كانت قائمة ستتحول إلى حرب هجينة..المصدر:مايكل هوروفيتز…… المجلة

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

وكلاء بلا غطاء: ارتدادات الضربة الأميركية على مشروع إيران الإقليمي. علي قاسم ….المصدر : العرب

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

نهاية وظيفة إيران… أميركيّا وإسرائيليا.المصدر : العرب … خيرالله خيرالله

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

ساطع نورالدين شتائم ترامب لنتنياهو..تدخل التاريخ أيضاً.المصدر: صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 25, 2025

Recent Posts

  • وكلاء بلا غطاء: ارتدادات الضربة الأميركية على مشروع إيران الإقليمي. علي قاسم ….المصدر : العرب
  • نهاية وظيفة إيران… أميركيّا وإسرائيليا.المصدر : العرب … خيرالله خيرالله
  • ساطع نورالدين شتائم ترامب لنتنياهو..تدخل التاريخ أيضاً.المصدر: صفحة الكاتب
  • حول قراءة هرتزل في بيروت… يزيد صايغ……….المصدر:المدوّنة ديوان.مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
  • إعادة بناء الدولة السورية: انطباعات من الميدان… ماري فوريستييه…..المصدر:مؤسسة كارنيغي

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • وكلاء بلا غطاء: ارتدادات الضربة الأميركية على مشروع إيران الإقليمي. علي قاسم ….المصدر : العرب
  • نهاية وظيفة إيران… أميركيّا وإسرائيليا.المصدر : العرب … خيرالله خيرالله
  • ساطع نورالدين شتائم ترامب لنتنياهو..تدخل التاريخ أيضاً.المصدر: صفحة الكاتب
  • حول قراءة هرتزل في بيروت… يزيد صايغ……….المصدر:المدوّنة ديوان.مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
  • إعادة بناء الدولة السورية: انطباعات من الميدان… ماري فوريستييه…..المصدر:مؤسسة كارنيغي

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

وكلاء بلا غطاء: ارتدادات الضربة الأميركية على مشروع إيران الإقليمي. علي قاسم ….المصدر : العرب

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

نهاية وظيفة إيران… أميركيّا وإسرائيليا.المصدر : العرب … خيرالله خيرالله

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

ساطع نورالدين شتائم ترامب لنتنياهو..تدخل التاريخ أيضاً.المصدر: صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

حول قراءة هرتزل في بيروت… يزيد صايغ……….المصدر:المدوّنة ديوان.مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

khalil المحرر يونيو 25, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.