تبقى الثقافة الشعبية بكل ما فيها من أنماط رمزية وسلوكية، وفولكلور، وفنون، وخرافة، وأساطير مخيالية، جميلة، ومدهشة في كثير من الأحيان، إلى أن تصبح موجهة ومؤطرة بإطار حزبي وأيديولوجي، ما يؤدي إلى فقدان سحرها.
مثال القبور ووسمها بشعارات الانتماء والتحزب، وفي ذلك مدلول رمزي، أي أن السيطرة على الأجساد في هذا العالم سوف ترافق الأفراد إلى ما بعد الموت، والخلاص لا يكون إلا بالولاء والطاعة، وفي هذا إشارة إلى السيطرة على النفوس حتى في العوالم الأخرى، والإقامة الجديدة للأموات، كتحديد وتصنيف.
الاشتباك مع الموت
كان الموت حدثٌ يتضامن فيه الأهالي وإن كان لا يخلو من الفعل السياسي، أما الآن فقد أصبح مناسبة للتدجين السياسي، بحيث أن السلطة دخلت في عمليات المراقبة لمواراة الميت إلى الثرى، وأصبحت مناسبة لاعتلاء المنابر للحث على الطاعة والولاء السياسي من خلال أداة التخويف والترهيب من المؤامرات وواجب اتبّاع السلطة والحث على الفناء في الإخلاص لها والتضحية من أجل خلودها. لذلك عملت السلطة على التمايز بالأمكنة كتحديد وتصنيف هوياتي لكل قوة حتى لناحية المستوى في نوعية القبور والرخام والزخرفة والحفر على الرخام ولونه ونوعيته والخطوط المتبعة التي تحمل دلالات انتمائية، لهذا، فإن الموت الذي يتساوى فيه الناس هو مناسبة ومساحة للمبارزة على القوة، بالإضافة إلى تقنيات العزاء وما يرافقها من ضيافة وولائم وحضور شخصيات ذات نفوذ سياسي أو ثقافي وجهوي انطلاقًا من الرساميل الرمزية المجتمعية العديدة، فبدل أن تكون المنافسة بين القوى على تنمية المناطق، نرى أنها أخذت طابعًا تشويهيًا للأمكنة لناحية التنافس في عدد اليافطات والصور والشعارات المبالغ فيها، إلا أن هذا الشيء يأخذنا إلى فكرة السيطرة والانتصار من خلال عدم ترك مساحة ولو صغيرة إلا ووسمها بوسم حزبي، بكل هوس، حتى في مكان إقامة الأموات الذي ترقد فيه الأجساد إلى الأبد بوصفه مكانًا للسكينة والمساواة أمام حدث الموت، وفكرة الأبد وتغليف القوى لمراسمها وتقنياتها هي لتأبيد وتخليد القوة والسلطة، يتم هذا من خلال المراقبة للأفعال وضبطها بغية التحكم فيها لتتقولب وفق أطرها.
وهذه لعبة السلطة ذات الرغبة الشقية أمام الموت، بوصفه حدث الأحداث الملغز، فتأتي معه السلطة لترسم قانونها على الموت، فتدخل في صراع حتى مع هذا الحدث من خلال الفعل، في أيهما أكثر شبقًا، الموت أم السلطة، في أيهما أكثر ارتواءً، الموت الحدث الطبيعي، أم السلطة الفعل النقيض للطبيعي من حيث تقنيات الفعل، ولأنهما على نقيض من بعضهما من حيث الانعكاس، تأتي السلطة لتكون التعويض عن الفناء والتعويض عن التعارض، بمعنى السيطرة والقوة والتأبيد، يأتي هذا من خلال إخفاء التعارض وتعويضه بالأبدال والأشكال التي تلف الفعل والدواليل بوصفها إسنادًا للعصبية وجهازه، فتكون أشبه بالكوريدور الذي تمرّر فيه خطابها، في حدث من أهم الأحداث المقدسة وهو سر الموت، ليستعار المقدس من هناك صوب الهنا في حقل السلطة، ومن خلال ألم الموت تكتب السلطة على الجسد قانونها باللذة المنتعشة.
صور من مشاهد الماضي
هذه العملية استنساخية للصور بشكل مشوّه، بمعنى أن المكان هناك، ولكن من أراد العبور والتمفصل إلى هناك لا بد من العبور من هنا لنجاة النفوس، وإخفاء التعارض بين الهنا والهناك، يكون بإحلال السلطة، لتكون هي جسر العبور من المقدس الأرضي/ السلطة، إلى المقدس السماوي المفارق، من خلال الهمة في الاتباع والولاء للسلطة، وخدمة أهدافها، فالسلطة هي إلى حد ما وبشكل لا واعٍ تشبّهٌ بالإله من حيث القوة والقدرة والإرادة والفعل والتعالي والتمايز، يحضر هذا من خلال إسناد أسماء الله مثلًا إلى حقل السلطة.
كانت النساء تسير وراء النعش وراء الرجال في العديد من القرى، فإذا كان المتوفي شابًّا يزغردن، ويضعن النيل على الوجوه، ويجلسون على النعش في الجبانة ويصدحن بمواويل الفراق بكل شاعرية ويستحضرن الصور التي تفجر جميع الملكات الذوقية، وكانت مثلًا المرأة الحامل التي فقدت زوجها تمر من تحت النعش في إشارة إلى أنها حامل، وكان الحداد والحزن مرتبطًا بثقافة احترام أبناء القرية لبعضهم وهو شعور التضامن والمواساة مثل عدم أكل العلكة لأنها تعتبر شماتة، وكان الناس لا يدقون اللحمة على البلاطة، وشعور المواساة يبلغ حدًا كبيرًا، لدرجة أن غياب مظاهر الفرح عند أبناء القرية يبقى مدة طويلة كإقامة الأعراس، وهذه العادات تحفظها الذاكرة الشعبية، ولكن اللافت هو غياب العديد من هذه العادات، ولكن السؤال أن اختفاء هذه الأشياء لصالح ماذا، خصوصًا أن هذه المظاهر كانت أقل تزمتًا لناحية التحريم الديني، إنما لناحية الاحترام والواجب، وثانيًا دخول العديد من الطقوس في طي البعد الأيديولوجي الحزبي، لأنها أشبه بمناسبات لتأكيد الانتماء، أو الاستقطاب.
طقوس الحداد هي أولًا قواعد سلوك، فالمآتم وأشكالها من إقامة العزاء وطقوس الدفن المرتبطة بعادات وتقاليد الأهالي، كذلك هي لتأمين الدمج الداخلي، وهي أيضًا للتمييز عن الخارج، لأنها تصرفات تكرارية للأفعال والرموز، لها تقنياتها لخلق نوع من استعادة الزمن، من هنا هي أوالية مستأنفة متل الفصول أو مواسم الزرع، لأن هذا لا يعني نهاية الوجود، لهذا توضع فيه الأضاحي بوصفها عمليات اتصال للأحياء مع النفوس بعد فناء الأجساد من خلال الذكر.
الأعياد مناسبة يتذكر فيها الناس الأموات، فالعادات كانت وما تزال أنه عند صبيحة العيد يذهب الناس إلى الجبانات (المقابر)، لمعايدة الأموات الأحبة وهي عملية اتصال، لم تكن مرتبطة بطقوس مكثفة، كانت الناس تقرأ الفاتحة وتقرأ سورًا من القرآن لإراحة نفس الميت، وكذلك من أجل استذكار الميت حتى يعرف أن أهله وأحبته لم ينسوه باعتبار أن روحه تتلقى هذه الأذكار فتنتعش، من خلال الإشارات التي تأتي بالمنام. وكانت بعض النساء أيضًا تقمن بإنشاد بعض المواويل والعتابا التي تختزن اللوعة وحرقة الفراق، أمّا راهنًا فتشهد هذه المناسبة إدخال تقنيات حديثة من خلال القوى أصبحت مرتبطة بالبنية السياسية من مكبرات الصوت وإقامة المجالس والبرامج الاحتفالية من صور ويافطات، ومن خلال الجهاز الرقابي الذي يقوم بحركات أمنية ووعظية وإرشادية… إلخ.
الموت وطقس العبور للسلطة
الأحزاب كشكل تحديثي قد تكون أكثر رجعية من علاقات المجتمع التقليدي لناحية العقلية وممارسة الفعل السياسي، من خلال الإكراه والفرض والمحسوبيات والتعسفات الرمزية لمن هم خارج هذا الإطار المعياري، لذلك تحرص القوى السياسية (الطائفية وحتى التي تقوم على منوال اليسارية والليبرالية) على إقامة الاحتفالات التي لها علاقة بالماضي على الأضرحة، أي التي تسيِر الجماعات على إيقاع الموت طالما أنه لا أفق لها نحو المستقبل ولا مشروع سوى التسلط.
ففي لبنان في كل فترة كان يتم إنشاء سرديات هي أشبه “بالأساطير”، ينشأ الفرد ويستبطن هذه التعبيرات التي تقوم على رمزيات أو شخصيات أشبه بالطوطم (المقدسة) عبر مؤسسات المعنى التي توزع خطاب هذه الأساطير السياسية، تتوسط لتخفي تناقضاتها العميقة فيصبح فيها الشكل هو الغالب، لتؤمن اندماجًا لا تجانسًا، فهذه المسميات المسبقة تعمل على إعماء الأفراد بشكل كبير عن الرؤية، لها خطاب يعمل على إخفاء معانيه بشكل مستمر من خلال الطقوس (خصوصًا طقوس الموت وتقديم القرابين للماضي)، من هنا فإن لكل خطاب سياسي أسطورة تخفي حدثيتها المنبنية على المجهول بالرجوع باستمرار إلى الماضي (تضحيات، شهداء، أحداث، اعتصامات، اغتيالات) كتبرير أيديولوجي، ولذلك فإن كل تفسير من المهم أن يقطع مع هذه المسميات المفروضة والتي تعمي عن قراءة الحدث، وتفكيك كل خطاب والتي درج الناس على الأخذ بلغته بشكل لا واع، لذلك فإن المفارقة أن الأموات والماضي هما طقس العبور للسلطة.
من هنا كانت العصبيات العائلية أهون من العصبيات الحديثة للأحزاب، أي أن تفكيك هذه العلاقات لم يكن إلا لغاية إحلال نوع آخر من العصبيات الأشد فتكًا للجماعات، لأنه يقضي على التنوع الداخلي، ليحول مثلًا الطائفة بكاملها إلى جهاز حزبي عصبي.
عاشوراء وشرايين التاريخ الموجه
هذه المناسبات التي تظهر الثقافة الأهلية أخرجت من الناس ودخلت في طور من أطوار العلاقات الأخرى، حتى عاشوراء كانت متوافقة مع النسق الثقافي، أما الآن فإننا نرى استيرادًا من خارج البنية للتقنيات والممارسات الشعائرية على نحو معدّ بشكل مسبق، وهذا ما أدى إلى انحسار الحس والذوق الفني لكي تقولب المناسبة وتصبح أدواتها وتقنياتها معدة بشكل مسبق وموجه، كسلب للفعل وضبطه وكيفية الاستعمال بشكل رمزي للأجساد الطَيعة، ما أدى إلى اختفاء عنصر الاندهاش في ملكات الحساسية، وهنا فإن ملكة الذوق دخلت في طي البعد الأحادي، لأن العلاقة بين الفرد والبنية ما عادت متآلفة ومتجانسة جوانيًا، وبرانيًا لناحية القشر والحامل أصبحت ذات فجاجة مهزوزة، ما يؤدي إلى أزمة هوية مضاعفة ومتفجرة، إن لم تخفف من منسوب كماشاتها بوصفها آليات تدمير، لأنها خرجت من الأفق الإيماني صوب الإطار الانضباطي التوجيهي للفعل.
طقس عاشوراء كمناسبة لها علاقة بالموت والفجيعة، كان فيه مساواة ما بين الناس مع ذلك الوسيط للمقدس لذلك المفارق، لأن الناس كانت تأخذ البركة من دون توجيه وتأطير سياسي أيديولوجي. اليوم وبنسبة كبيرة تحوّل الطقس، لأن العديد أصبحوا، من خلال هذا الطقس، كوسيط لأخذ البركة من حقل السلطة وضرب مفهوم المساواة لصالح الأعطيات والمكرمات والخدمات. الهدف سابقًا كان لأخذ البركة من المقدس بشكل يتساوى فيه الناس، أما راهنًا، فالهدف أصبح لأخذ البركة من السلطة، وأصبح الطقس وسيطًا ومناسبة ووسيلة، وبالتالي فقدت معه المساواة. من هنا، ولأن الأحزاب هي التي تعطي الهبات كالخدمات بشكل تبادلي مع الناس نظرًا لعدم وجود حقوق للمواطن، استدعى ذلك الكثير لأن يدخلوا في هذا التواطؤ، لكي لا يشعروا بالاستبعاد، ويحرموا من التنفيعات، وبشكل لا واع أصبح الناس يهتمون بالمكان الذي تقام فيه الشعائر أكثر من الشعائر نفسها، ما أدى إلى استبدال الحالة الإيمانية بالحالة العصبية، لأن التبادل انتقل إلى تبادل مع حقل السلطة، وبالتالي فإن هذه الطقوس بوصفها دواليل انتقلت وأصبحت تشير إلى شيء آخر، على إبدال في الدوال، وهنا لعبة السلطة هي في المعاوضات، لهذا فإننا أصبحنا نرى أشكالًا من الفعل لبعض الفئات تتنافى مع هذه المناسبة، إلا أنه أصبح لها مدلول ليس إيمانيًا عند البعض، إنما انتمائي لعصبية طائفية وحزبية انتفاعية تسليعية، وهذا بفعل السلطة التي وضعت يدها على المناسبة، باعتبارها مناسبة عاطفية وجدانية تستطيع تمرير رسائلها المستبطنة وحتى بشكل علني المتوجهة نحو الهويات الأيديولوجية من خلال هذه المناسبة على أنها تحولت إلى مناسبة سياسية للاستقطاب والقوة. لذلك نرى أيضًا استثمار هذا البعد عند باقي الطوائف، مثلًا استحداث أمكنة ومزارات عدة لمار شربل الذي يقام له تمثال في كل فترة كتعظيم جغرافي هوياتي، وهو ما يؤمن نوعًا من أنواع اللحمة العصبية، وتطويب عدد كبير للقديسين، وهذا بحدّ ذاته يعمل على شدّ للوعي صوب المعجزات والخوارق حتى يصار إلى استقطاب أكبر للجماعة التي تشعر أنها بحاجة إلى دمج طائفي أكبر. نرى ذلك من خلال لفت للأنظار بشكل مضاعف من خلال وسائل الإعلام والاتصال ومن خلال المؤسسات الرعوية، وكأن تثبيت مسيحية الأفراد أيضًا أصبح باستعمال تقنيات السلوك التي تصنعها السلطة، وهو استحضار الأموات في كل حدث.
كانت هذه الطقوس والشعائر من دون شعارات ولا رموز ولا أعلام وصور حزبية، وما هذه إلا تعبيرًا عن القوة والتمايزات، والتحديدات، والتصنيفات التي تشكل تعسفات على من لا يكون داخل بوتقتها بشكل مدجن.
تضطر الناس لكي تعيش وتحصل على الانتماء والخدمات إلى أن تدخل في هذه الدورة، لأنه لا حقوق تؤمنها الدولة، ومن هنا يكون الاضطرار خوفًا من النبذ، فتتشكل معها عصبيات من العنف الرمزي، ما يخلق نوعًا من أنواع النفاق والفساد المجتمعي.
كانت الثقافة الشعبية، وهنا المفارقة، وليس تمجيدًا وإنما وصفًا، توفّر حرية على صعيد التفكير والفعل أكثر من الراهن ومن التطورات التي أُدخلت على أنماطها، من خلال التحرير الأكبر للمخيلة التي تعمل القوى على تكبيلها بعذاب الضمير وعقدة الذنب فيكون الاتباع، وكان الدين يتكيف مع الثقافة نظرًا لدفق مدلوله الضخم بوصفه مملكة من المعنى، فيكون الفهم حوله متعددًا. أما الآن فإن الدين أصبح من خلال المؤسسات محتكرًا لجهة الفهم بشكل معياري، وبالتالي أصبح المعنى يأتي من الأطر السلطوية ما أدى إلى خنق تدفقه بشكل موجّه، وتحوّل من أفق روحي إيماني خلاصي إلى وسيلة من وسائل تنشيط العصبية من خلال الإمساك بالأنماط الثقافية وجعلها تدور في بوتقة الأيديولوجيا، والفعل أصبح متوجهًا أكثر نحو السلطة.
*كاتب وباحث لبناني.