ملخص
كل حضارة إنسانية مرت بمرحلة سقوط وإخفاقات، لكن النهوض لم يكن يوماً نتيجة إنكار العثرات، بل ثمرة مواجهة شجاعة مع الذات ومحاسبتها، فالمجتمعات التي تريد أن تتطور لا تنكر إخفاقاتها، بل تضعها تحت المجهر، وتحاسب وتصحح وتبني من جديد على أرض صلبة، لا على وهم، لأن الهزيمة بحد ذاتها ليست عاراً، إنما العار أن نكذب على شعوبنا.
في شرقنا الأوسط، لا تقاس الانتصارات والهزائم بعدد الجثث، ولا بما يستعاد من أراض أو يدمر من عتاد، فهنا تتداخل المعايير، وتخترع المسميات، ويعاد تعريف كل شيء وفق رمزية “الزعيم الضرورة” ومصلحة “الثورة المجيدة”، لا وفق منطق الدولة أو حسابات الوطن والشعب، إذ يمكن للهزيمة، مهما كانت فادحة، أن تسوق كـ”نصر”، وللانهيار مهما كان كارثياً أن يجمل كـ”صمود”، وللفشل أن يعلق على شماعة “المؤامرة”، ولنا مع هذه المسرحيات تاريخ طويل، بين نكسة وخيانة، وبين مغامرة ومؤامرة، وكثير من الشعارات التي لم تكن إلا غطاء مكرراً للهزائم المتتالية.
هذا جوهر الخطابات الغوغائية التي لا تنظر إلى الربح والخسارة بمنطق الدول، بل بمنطق التنظيمات والميليشيات والمشاريع العابرة للحدود، يكفي أن يبقى رأس الهرم، أو بعض القيادات، أما دون ذلك فـ”فداء المشروع”، وليذهب الشعب إلى الجحيم، ولتدمر المدن وتستباح الحياة، المهم أن تبقى “الشعلة” متقدة، ولو كان وقودها جماجم الأبرياء وركام البيوت.
إيران، التي تلقت ضربات إسرائيلية دقيقة طاولت مفاصل قوتها، وكشفت عن دفاعاتها، واغتالت جنرالاتها، احتفلت بـ”النصر”، على رغم أنها خرجت مثخنة عسكرياً ومخترقة أمنياً وبلا حلفاء، وعوضاً عن مصارحة الشعب، وإعادة الحسابات والمكاشفة، استحضرت ترسانة الخطابات والشعارات التي لا تمت للواقع بصلة، فقط لأنها، وهذه حقيقة وإن لم تعترف بها، نجت من السيناريو الأسوأ.
المقاومة الحقيقية لا تعني إطلاق الصواريخ ثم الاختباء، بل تعني مشروعاً وطنياً يحرر الأرض من دون أن يفني أهلها، ويحمي الشعب من دون أن يتاجر بدمائهم، أما غير ذلك فهو مغامرات لا تنقذ مشروعاً، ولا تغير واقعاً، بل تطيل عمر المأساة وتبرر القتل والخراب.
المؤسف أن بعض الأصوات في منطقتنا لا تزال تتعاطى هذا الأفيون، وتعيد إنتاج الخطاب نفسه، وتصدره على أنه “نصر”، بينما هو في جوهره دروشة ودمار.
ما نراه اليوم من ترويج لانتصارات وهمية، ليس إلا ستاراً يخفي مشروعاً يتآكل من الداخل، إذ لم تعد شعاراته تقنع حتى أبناءه، فالجيل الجديد لم يعد يستهلك هذه اللغة، لأنه جيل يرى ويسمع ويقارن، ويتابع المشهد بالصوت والصورة، ولا يريد أن يبقى إلى الأبد في مستنقع الخراب، الذي يسوق له على أنه “صمود”.
صناعة النصر لا تبدأ من المكابرة، بل من البناء والمسؤولية، فالوطن لا يبنى على مصارعة الحقائق، ولا يحرر بتجويع الشعب وتدمير المدن، أما تبرير الانتحار الجماعي بأنه “ثمن مستحق”، فذلك هو الطريق الأسرع نحو إعادة إنتاج الفشل، وتحويل الحماقة إلى قدر، والخراب إلى عقيدة، لأن الدم إذا لم يقدم من أجل مشروع وطني جامع وواقعي، يصبح مجرد هباء في معارك عبثية لا نهاية لها.
ولنا أن نتأمل اليابان، الإمبراطورية التي مسحت من فوق الأرض، لكنها لم تحتفل بـ”البقاء” وسط الركام، ولم تستدع سرديات المؤامرة، ولم تصدر الهزيمة إلى الخارج، بل واجهت هزيمتها وخططت للنهوض، وبدأت بإعادة البناء حجراً حجراً، حتى لم تعد رمزاً للهزيمة، بل هي اليوم رمز للحياة والنهوض، لأنها أدركت أن الهزيمة لا تحجب بالصراخ، بل بالعمل، وأن الهزيمة التي لا نعترف بها تعني أننا لم نتعلم الدرس وسنكرر الأخطاء ذاتها.
كما نعيش أملاً جديداً في سوريا، التي تعيش اليوم لحظة فارقة بقيادة جديدة اختارت طريق الدولة لا التنظيم، والواقعية لا الغوغاء، والبناء لا الهدم، وقد تجاوزت إرث المشاريع الشعبوية، وانحازت لصوت العقل ولمصالح شعبها، من دون أن تدخل في مزايدات محيطها المزعج، وربما، وللمرة الأولى منذ عقود، يطرح مشروع حكم سوري جديد قابل للحياة، يراهن على تمكين الشعب، وتعزيز السلم، وبناء المستقبل.
كل حضارة إنسانية مرت بمرحلة سقوط وإخفاقات، لكن النهوض لم يكن يوماً نتيجة إنكار العثرات، بل ثمرة مواجهة شجاعة مع الذات ومحاسبتها، فالمجتمعات التي تريد أن تتطور لا تنكر إخفاقاتها، بل تضعها تحت المجهر، وتحاسب وتصحح وتبني من جديد على أرض صلبة، لا على وهم، لأن الهزيمة بحد ذاتها ليست عاراً، إنما العار أن نكذب على شعوبنا.
الأفكار الواردة في هذه المقالة تحمل رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “اندبندنت عربية”