ملخص
يشكل سقوط النظام السياسي القائم في إيران مطلباً ومطمحاً لملايين الأشخاص داخل البلاد وخارجها، كما أنه يعد كابوساً مرعباً لفئة تعرف بـ”ركاب قطار الثورة”، إذ يدرك هؤلاء أن انهيار هذا النظام الديكتاتوري سيكلفهم خسائر فادحة.
يعد سقوط النظام السياسي القائم في إيران، كما هو مطلب ومطمح ملايين الأشخاص داخل البلاد وخارجها، بمثابة كابوس مرعب لفئة تعرف بـ”ركاب قطار الثورة”، إذ يدرك هؤلاء أن انهيار هذا النظام الديكتاتوري سيكلفهم خسائر فادحة، لذلك يرون في الحفاظ على الوضع القائم أو استمرار هذا النظام ضماناً لمصالحهم المادية ومكانتهم الاجتماعية وأمنهم السياسي.
وفي الصف الأول من هذه الفئة، يقف المسؤولون والموظفون الحكوميون الذين استفادوا مباشرة من هيكل السلطة في نظام “الجمهورية الإسلامية”. هؤلاء، في حال سقوط النظام، لن يفقدوا فقط مناصبهم فحسب، بل قد يواجهون أيضاً ملاحقات قضائية أو غضباً شعبياً. كثير منهم يملكون ثروات طائلة وامتيازات خاصة، وحصانات لن يكون لها مكان في نظام ديمقراطي يخضع للمساءلة والمساواة.
إن رجال الدين الموالين للحكومة والمداحين والمروجين الدينيين وموظفي أقسام الحراسة واختيار الأشخاص والمسؤولين الثقافيين في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الداعمة للنظام، يشكلون كذلك جزءاً من البنية التي استفادت من الموازنات الحكومية الضخمة والدعم المقدم من الأجهزة الأمنية. سقوط النظام قد يعني لهؤلاء تراجعاً كبيراً في نفوذهم الاجتماعي وفقداناً للدعم المالي، بل وربما مواجهة نبذ اجتماعي واسع.
وفي هذا السياق، هناك فئة ثالثة استفادت بصورة مباشرة أم غير مباشرة من بنية النظام الحاكم، وعلى رغم أن مكاسبها من النظام الإيراني لا تضاهي ما حصلت عليه الفئتان السابقتان، إلا أن ذلك كاف ليحفزها على دعم استمرارية الوضع القائم، إذ ترى نفسها أيضاً من “ركاب قطار الثورة”. وينتمي أفراد هذه الفئة عموماً إلى الطبقة المتوسطة في المدن، ويشغلون مواقع متباينة في النظام، بدءاً بمقدمي البرامج والصحافيين في الإعلام الرسمي، وصولاً إلى بعض أساتذة الجامعات.
كما يدرج ضمن هذه الفئة أيضاً أولئك الذين يبدو أنهم يعملون في مهن حرة، لكنهم راكموا ثروات طائلة عبر استغلال الفساد المستشري في بنية النظام الحاكم في إيران، مما يجعلهم من المستفيدين من بقاء هذا النظام، حتى وإن لم يظهروا انتماء مؤسساتياً مباشراً إليه.
وتكمن المسألة الجوهرية في أن النسبة الأكبر من مؤيدي نظام الإيراني تتكون في الواقع من هذه الفئة تحديداً، التي تنتمي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الطبقة الحاكمة.
المرتبطون بالنظام بصورة علنية وواضحة
وكما أشير أعلاه، فإن هيكل النظام السياسي في طهران يقوم على شبكة واسعة من الأفراد المرتبطين بالحكم لأسباب متعددة، غير أن هذا الارتباط لا يعني بالضرورة وجود ولاء سياسي أو توافق أيديولوجي مع النظام، بل إن كثيراً من هؤلاء قد يكونون غير راضين عن الأوضاع القائمة، لكنهم يدركون أن مصالحهم الشخصية أو الفئوية (سواء أكانت مهنية أم اقتصادية أم اجتماعية أم فكرية)، باتت مرتبطة باستمرار هذا النظام، مما يجعلهم جزءاً من معادلة الحفاظ على الوضع القائم.
وأكثر أشكال الارتباط شيوعاً هو الارتباط المالي، ففي إيران عدد كبير من الوظائف يتوزع بين مؤسسات حكومية وشبه حكومية، وأخرى تابعة للسلطة، إذ يتمتع العاملون فيها برواتب ومزايا وأمان وظيفي وامتيازات ريعية قد لا يكون بالإمكان الحفاظ عليها في بيئة اقتصادية شفافة وتنافسية، ومن ثم فإن بقاء النظام السياسي يعد بالنسبة إلى هؤلاء ضمانة لاستمرارهم الاقتصادي.
ويرتبط كثيرون أيضاً بالنظام من خلال وظائفهم في مؤسسات مثل هيئة الإذاعة والتلفزيون، ووزارة التربية والتعليم، والجامعات الحكومية، والوزارات، والمؤسسات الأمنية والدينية. هذا الارتباط لا يوفر لهم فقط الأمان المالي فحسب، بل يحدد أيضاً هويتهم المهنية. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن سقوط النظام يعني انهيار المكانة الاجتماعية وفقدان الموقع المهني، وأحياناً تهديد السمعة الشخصية.
ويرتبط بعض الأفراد والعائلات تاريخياً أو وراثياً بهياكل السلطة في النظام الإيراني، قد تتجلى هذه العلاقة من خلال عضويتهم في “الحرس الثوري” أو الروابط العائلية مع أفراده، أو قربهم من شبكات السلطة المحلية والوطنية، بالنسبة إلى هذه الفئة، يشكل الارتباط بالنظام جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الاجتماعية والسياسية.
وأما الارتباط الأيديولوجي فعلى رغم كونه أقل شيوعاً من الأشكال الأخرى، إلا أن هناك مجموعة من الأشخاص الذين يتماهون فكرياً وعقائدياً مع أسس الأيديولوجية في النظام الإيراني، ويشمل ذلك بصورة خاصة طلاب الحوزات العلمية والمداحين وأعضاء ميليشيات “الباسيج”، وبعض الجماعات الثقافية الدينية. وفي هذه الحالة، يكون الارتباط قائماً أساساً على الولاء الفكري والعقائدي، وإن كان غالباً ما يعزز بالمنافع المادية أيضاً.
المرتبطون بالنظام الأكثر خطورة
وإلى جانب كل هذه الأشكال الواضحة للارتباط بالنظام الحاكم، هناك نوع آخر من الارتباط شائع لكنه غير ظاهر أو ملموس، بمعنى آخر قد لا يعتبر أفراد هذه المجموعة حتى من “ركاب قطار الثورة” الرسميين، إذ يبدو أنهم يمارسون مهناً حرة ومستقلة، لكنهم في الواقع يستفيدون من الريع الحكومي، مثل الحصول على تراخيص خاصة وامتيازات استيراد أو تصدير وعقود ضخمة مع الدولة وتراخيص نشر أو نشاطات فنية والدعم في المهرجانات وغيرها من الامتيازات.
ويعتبر هذا النوع من المرتبطين بالنظام أكثر خطورة، لأنه قد يتخذ في الظاهر وجهة نقدية أو استقلالية. لكن في الواقع هم أكثر الحلفاء صمتاً للنظام، ليس لأنهم متعلقون به عاطفياً، بل لأن مصالحهم مرتبطة بصورة وثيقة باستمرار الوضع القائم. يمكن العثور على أمثلة لأشخاص من هذا النوع بين بعض الناشرين والمخرجين والكتاب والتجار ومديري الشركات الخاصة وأصحاب وسائل الإعلام التي تبدو مستقلة، وحتى بعض الناشطين المدنيين. هؤلاء الأفراد يوجهون الانتقادات ما دامت لم تهدد مصالحهم، لكنهم في اللحظات الحاسمة والتاريخية يقفون صفاً واحداً إلى جانب النظام. تماماً كما يحدث هذه الأيام، إذ مع تصاعد الأزمة في النظام الإيراني، يدافع بعضهم عن الحكومة تحت شعارات مثل “الوطنية”.
وهذه الفئة من المرتبطين بالنظام، التي تتخذ وجهاً ثقافياً أو حداثياً أو فنياً أو مدنياً، تسهم في ترسيخ الرواية الرسمية للنظام، من دون أن تصنف على أنها تابعة للنظام. على مدى سنوات طويلة، شهدنا عدداً كبيراً منهم في وسائل الإعلام والمهرجانات أو الفعاليات المحلية والخارجية، يحاولون إخفاء الحقائق الاجتماعية وقمع الحريات في إيران.
وعلى رغم أن هؤلاء الأشخاص يبدون ظاهرياً جزءاً من الطبقة المتوسطة وينتقدون النظام، إلا أنهم في الواقع يمثلون وكلاء غير رسميين مخلصين للحكومة، لأنهم أدركوا أن هذه المواقع التي يشغلونها لم تتحقق إلا بفضل الوضع التمييزي القائم. وهم لا يقلقون في شأن الحرية أو العدالة بقدر ما يخشون فقدان مواقعهم الخاصة، ولذلك يضفون الشرعية على هذا النظام الفاسد.
ويرجع ذلك إلى أن هذا النوع من التبعية غير المباشرة يمنح في النهاية شرعية للبنية الفاسدة، ويجعلها تبدو ناعمة ومقبولة، مما يصعب إمكان الإصلاح أو الانتقال إلى نظام آخر.
العقبات الخطرة أمام العبور من النظام
في مرحلة العبور من نظام “الجمهورية الإسلامية”، غالباً ما ينصب تركيز الرأي العام والمحللين على طرفين رئيسين: السلطة وأجهزتها القمعية من جهة، والمعارضين والمحتجين من جهة أخرى. غير أن بين هذين القطبين، هناك طبقة ثالثة لا تعد من المدافعين الرسميين عن النظام، ولا تطالب بالتغيير، لكنها تملك في الواقع قوة وتأثيراً حاسمَين في إبطاء أو حتى عرقلة عملية العبور من النظام.
هذه الفئة، بخلاف جهاز القمع التابع للنظام واسعة العدد، وبخلاف المعارضين، تتمتع بموارد واتصالات ومواقع فعلية. إنها حاضرة في إدارة الجامعات ووسائل الإعلام والأسواق والفنون والثقافة والتعليم، بل وحتى ضمن بعض شرائح المهاجرين المتعلمين. وعلى عكس جهاز الدولة، الذي يبدو سقوطه حتمياً، تمتلك هذه الطبقة قدرة كبيرة على التكيف والصمت وتغيير المواقف وإخفاء ارتباطاتها، مما يتيح لها إعادة إنتاج نفسها ضمن أي نظام سياسي جديد.
وما يجعل هذه الفئة عائقاً جدياً أمام التغيير هو تحديداً قدرتها على “الازدواجية في العيش”، فهي ليست واضحة المعالم بحيث يمكن الكشف عنها بسهولة، وليس سهلاً النيل من مشروعيتها الاجتماعية.
يتخذ أفرادها مواقف وسطية تمنع تطرف النقاش العام، ويؤخرون التغيير من خلال إعادة إنتاج تدريجية لخطابات مثل الحذر والاستقرار والواقعية والخوف من الفوضى، ليخلقوا بذلك مساحة رمادية تصور فيها عملية التغيير على أنها محفوفة بالأخطار ومكلفة للغاية للغاية.
إن التعرف على هذه الطبقة والكشف عن دورها ومصالحها يمثل إحدى الخطوات الأساسية والضرورية لأي مشروع انتقال ديمقراطي ومستدام في إيران.
ومن أبرز تجليات هذه الطبقة، تلك الشخصيات التي تبدو ظاهرياً منتقدة ومستقلة أو قريبة من الناس، لكنها في الواقع تستفيد من امتيازات البنية الرسمية، وتلعب دوراً فعالاً في الحفاظ على النظام القائم في اللحظات الحرجة. هؤلاء، عبر إنتاج خطاب نقدي ناعم وقابل للبث في وسائل الإعلام المحلية، يضفون على النظام مظهر الانفتاح على النقد، بينما يسهمون فعلياً في ضبط أي اعتراض ومنع تطرف الخطاب العام المناهض للحكم.
5 سيناريوهات افتراضية تنتظر سقوط النظام الإيراني
هؤلاء الأفراد وأمثالهم، من خلال تموضعهم في المساحة الوسطى بين النظام والمجتمع، لا يجنون فقط منافع السلطة، بل يؤدون أيضاً دوراً محورياً في إعادة إنتاج شرعية النظام، ومنع أي تحول جذري عبر تقديم أنفسهم بوجه معتدل ومستقل ظاهرياً.
إلى جانب هؤلاء الأفراد، لا بد من الإشارة أيضاً إلى أولئك المرتبطين مالياً بالنظام الإيراني، الذين حققوا أرباحاً طائلة من خلال استغلال البنية الفاسدة للنظام. ويعد رجل الأعمال بابك زنجاني من أبرز هؤلاء، إذ استطاع عبر قربه من الأجهزة الأمنية والمالية أن يحرك مليارات الدولارات من رأس المال الوطني في مشاريع نفطية ومصرفية، ليصبح بذلك أحد أثرى رجال الأعمال في إيران.
لكن بابك زنجاني ليس حالة فريدة، فهناك آلاف غيره ممن يجنون أرباحاً صغيرة أو كبيرة في مختلف طبقات الهيكلين الاقتصادي والتنفيذي للبلاد، بفضل ارتباطهم بالنظام. هؤلاء ليسوا بالضرورة تحت مجهر الرأي العام، لكنهم يشكلون معاً شبكة واسعة من المصالح المرتبطة بالحكم القائم. من سماسرة العقوبات الذين جمعوا الثروات عبر تسهيل عمليات التحايل على العقوبات الدولية، إلى المقاولين الذين يحظون بمشاريع عمرانية ضخمة من المؤسسات الحكومية والبلديات والحرس الثوري، من دون شفافية أو منافسة حقيقية.
منح التراخيص الخاصة لبناء الأبراج أو تشييد الفنادق والمجمعات التجارية والسكنية في مناطق حضرية استراتيجية، يمثل امتيازاً آخر يمنح حصرياً للمقربين من دوائر السلطة. وهذه الامتيازات تنطوي على أرباح خيالية، وتشكل أحد أوجه الفساد البنيوي الذي يربط المصالح الاقتصادية بالنظام الحاكم.
هذا ويشكل هؤلاء الأفراد، إلى جانب مئات الشخصيات الأقل شهرة وأهمية، جزءاً من طبقة اجتماعية راكمت الثروة والنفوذ في ظل غياب العدالة والشفافية والمنافسة الحرة، مستندة إلى شبكات خلف الكواليس وبنى سلطوية غير قانونية، وتعد هذه الشبكة الواسعة من المنتفعين إحدى العقبات الأساسية أمام أي إصلاحات بنيوية أو انتقال فعلي من نظام “الجمهورية الإسلامية” إلى نظام سياسي جديد.
ولن يمهد طريق التغيير الحقيقي إلا من خلال تفكيك هذه الشبكات بدقة، وقطع صلاتها بمراكز السلطة، وترسيخ مفهومي العدالة والمساواة ليس في الخطاب فحسب، بل ضمن بنية النظام التنفيذي المقبل.
نقلاً عن “اندبندنت فارسية”