خمسة عقود متتالية والدولار الأميركي يحكم اقتصاد السوريين وحريتهم، كأنه لعنة أصابتهم. يمد لسانه شامتاً مع كل تراجع للعملة السورية أمامه. الليرة التي تبكي في زاوية ما من أدراج المسؤولين، ومع كل تدن في سعرها، تصبح تكاليف المعيشة اليومية عدو يفتت الاستقرار المالي، ويعجز الاقتصاد السوري عن تحمل ضرباته. الليرة التي كانت ثلث الدولار قيمة، قبل أن تصبح “رفيقة بعثية”، كما كان حال معظم تفاصيل السوريين، عملتهم، جيشهم، تعليمهم، اقتصادهم، وإعلامهم (لا أستثني منهم نفسي)، أصبحت ممسوحة من قائمة التسعير. لنحو عشر سنين ماضية صارت فيها بلا هوية، وبلا قيمة، مجرد سلاح قاتل هزم أحلام وطموحات السوريين.
في الاقتصاد ثمة مروحة اختيارات واسعة، عالم من المصطلحات، يطفو بعضها في زمن الانفلات والفوضى، على نحو خاص في زمن التسعير بلا معايير، كما يطفو بعضها الآخر في زمن إطفاء حرائق الفساد المالي، واستنباط الحلول من المستحيل، لوقف النزيف المستمر، فهل يكون مصطلح “التعويم المدار” الذي أطلقه الدكتور عبد القادر حصرية حاكم مصرف سوريا المركزي مؤخراً، خطوة إنقاذ من موت كاد يلوح لعملة السوريين، حبل نجاة، أم أنه مجرد لعبة تقنية سرعان ما تتآكل نتائجها، وتخسر معركتها مع سوق سوداء تعرف مخابئها ومحاذيرها، ويهيمن فسادها في دوائر المسؤولين؟
والسؤال هنا محق، هل تملك سوريا أدواتها الاقتصادية والنقدية لترك الأسعار تترنح كما يحلو لأمواج السوق أن تأخذها، حسب العرض والطلب، بالطبع، من غير أن تتخلى عن عصا التدخل عند الضرورة للملمة الانفلات والتقلبات الحادة، وفقاً للمعنى التقني للمصطلح؟ من دون أن ننسى أن سوريا للمرة الأولى، تعيش انقلابا نوعياً في تعاطي السوق السوداء مع أسعار الدولار، والعمل على تحطيمها أمام السعر الرسمي في “المركزي”، تحت عناوين نقص السيولة، أو حبسها من قبل المصرف ذاته، عبر إجراءات تقييدية لعمليات السحب، أي “تحديد سقف متدن”، في الوقت الذي تتوفر فيه العملة السورية بين أيدي تجار، لا نعرف كيف يتم تبديلها مصرفياً وعلى أي الأسعار، ما يوحي بوجود التآمر بين بعض التجار والمصرفيين القادرين على كسب أرباح خيالية بين سعر شراء الدولار من المواطنين، وسعر الشراء في المصارف!
كان السوريون على الدوام يريدون تقليل الهوة بين السعر الرسمي المرتفع في السوق السوداء، وبين السعر المصرفي له، والتي كانت لعقود مصدر اضطراب اقتصادي. أما اليوم، فالغاية من مطالبة المركزي بالتدخل هو الشعور العام بأنهم “يسرقون علناً” من فئة قليلة “محظوظة”، وتحت مسميات تحرير مهنة الصرافة، وانعدام الرقابة عليها. فصارت الغاية من التدخل الحكومي تحت أي مصطلح اقتصادي هي ليست فقط اللحاق بالسوق، بل التحكم بإيقاعه لوقف نزيف مدخرات السوريين على أيدي التجار المتنفذين.
الحديث عن “تعويم مدار” صار ضرورة مجتمعية، كما هو حاجة اقتصادية ملحة، لتحقيق سياسة نقدية واقعية، لإعادة الإمساك بخيوط السوق بالشراكة العادلة، عبر الشفافية، والمرونة، والانفتاح على التحويلات النظامية والاستثمار.
إن نجاح هذا النموذج “المقترح” مشروط بتوافر سيولة نقدية كافية لدى المصرف المركزي للتدخل، ووجود أدوات رقابة فاعلة، وإرادة سياسية لحماية الاقتصاد من التضخم والمضاربة. غاية ما يحتاجه المواطن المسحوق فعلياً، الشعور باستقرار الأسعار، ليس لأنه يملك الدولار، بل لأن كل سلبيات تدحرج سعره نزولاً أو صعوداً تنعكس على رغيف خبزه، وتسعيرة تذكرة مواصلاته المهترئة. ولهذا، ربما السياسة الجديدة تنهي حالة التلاعب المتعمدة بثقة العملاء بالمصارف التي تآكلت منذ عام 1963.
لا شك أن المطارح التي تألم منها الاقتصاد السوري كثيرة ولا تعد، ولا أحد يملك العصا السحرية لعلاجها، خصوصاً ما يتعلق بسعر الصرف الذي إن انخفض، يمد لسانه للسوريين شامتاً، وإن ارتفع يغتال أحلام صغار الكسبة وفقراء الشعب، وإما يجعلنا نقول صراحة إن المطلوب من حاكم مصرف سوريا أن تدار الليرة بالعقل الاقتصادي الذي عرف به، لا بالشعارات والتصريحات. وأن يبدأ بشق الطريق نحو التعافي، لجعل الدولار مجرد عملة لا أداة شماتة، تذبح عنق حاملها. فهل آن الأوان؟