في مطلع تسعينيات القرن الماضي، نظّمت وزارة الداخلية التونسية مؤتمراً صحافياً كشفت فيه عن “مخطط لاغتيال الرئيس زين العابدين بن علي”، وُجهت فيه أصابع الاتهام إلى حركة “النهضة” الإسلامية التي كانت آنذاك تنشط في السر. وذكرت الداخلية أن الحركة كانت تعتزم اغتيال بن علي عبر استهداف طائرته بصاروخ.
وقد نفت “النهضة” التونسية، كما في حوادث أخرى نُسبت إليها خلال تلك الفترة، هذه الاتهامات التي أسفرت عن محاكمات تاريخية طالت أبرز قادتها، إذ أمضى بعضهم سنوات طويلة في السجن، بينما نجح آخرون في الفرار خارج البلاد. وقد غيّرت هذه الاتهامات مسار الإسلاميين في تونس، الذين ظلوا ملاحقين أمنياً وممنوعين سياسياً حتى جاءت أحداث 2011 التي فتحت لهم أبواب المشاركة في الحياة العامة.
منعرج خطير
يوم الأحد، وقبيل ساعات من صدور الحكم في ما يُعرف إعلامياً بـ”قضية التآمر”، والتي يُحاكم فيها عدد كبير من السياسيين والمسؤولين، عادت تهمة “التخطيط لاغتيال الرئيس” لتلاحق “إخوان” تونس، بعد ظهور وثائق نشرتها مصادر مطلعة، تحدثت عن مخطط لاغتيال الرئيس قيس سعيّد.
وتضمنت إحدى الوثائق، التي أثارت ضجة واسعة في تونس، عبارة بخط يد رئيس الحركة راشد الغنوشي جاء فيها: “هذه الوضعية (ضعف الحركة وفقدانها لكل شيء) ستستمر ما دام الرئيس حيّاً”. كما احتوت الوثائق على ما قيل إنه “مخطط تفصيلي لقلب نظام الحكم”.
ولم يتسنّ التأكد من صحة هذه الوثائق، التي انتشرت بشكل واسع وشغلت الرأي العام التونسي.
النهضة تنفي
محامو المتهمين في “قضية التآمر”، وعلى رأسهم الغنوشي، أعلنوا عزمهم اللجوء إلى القضاء لمقاضاة “ناشري الإشاعات الكاذبة”. وطرح كثيرون تساؤلات حول توقيت تسريب هذه الوثائق، الذي جاء قبيل ساعات من صدور الحكم في القضية، وقبل أيام من إحياء الذكرى الرابعة لأحداث 25 تموز/يوليو، التي تم بموجبها إقصاء الإسلاميين من الحكم.
التغطية على الفشل
ويرى بعض المحللين أن الحديث المتكرر عن “محاولات اغتيال الرئيس” يظهر في كل مرة يتسع فيها الغضب الشعبي والحقوقي، ويُستخدم كوسيلة للتغطية على ما يعتبرونه فشل “مسار 25 يوليو”، في إشارة إلى المسار السياسي الذي يقوده سعيّد.
ويعتبر الناشط السياسي المقيم في فرنسا عادل اللطيفي أن “مخططات اغتيال سعيّد أصبحت عنواناً للاستهتار بالدولة ومؤسساتها، وتهديداً حقيقياً لأمن البلاد والسلم الاجتماعي”. ويضيف: “بقدر ما تواتر الإعلان عن عدة محاولات لاغتياله، والتي لم نعد نحصي عددها، بقدر ما غاب أي أثر للأبحاث أو التحقيقات، وكأن الأمر لا يتعدى الإعلان، دون أي اكتراث للتبعات”. ويختم قائلاً إن هذه “فكرة يعاد تكرارها لتغطية الفشل”.
الملفات ليست مفبركة؟
في المقابل، يرى فريق آخر من المعلقين أن الوثائق الجديدة تدحض ما يعتبرونه “مزاعم الإسلاميين ومن يدافع عنهم بأن الملفات التي يُحاكمون بموجبها مفبركة وتفتقر إلى الأدلة”.
ويعتقد هؤلاء أن ما تم تسريبه مؤخراً ينسف السردية التي تروج لها الحركة، وكذلك المعارضة المتحالفة معها، بشأن “الطابع السياسي” للمحاكمات الجارية، ويعيد الزخم لمطالب بعض القوى المناهضة للإسلاميين بتسريع خطوات حظر الحزب ومنع نشاطه، لما يمثله، وفق تقديرهم، من “خطر على الأمن القومي التونسي”.
وفي هذا السياق، كتب رئيس حزب “التحالف من أجل تونس”، المقرّب من سعيّد، سرحان الناصري: “بعد تسريب وثائق تُنسب إلى حركة النهضة الإخوانية الإرهابية، وتُظهر تورّطها في محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، فإننا نطالب بحلّ هذه الحركة قضائياً، حمايةً لتونس وشعبها من شرّها المستمر”. وأضاف أن تونس “تستحق حياة سياسية نظيفة وخالية من العنف، وعلى العدالة أن تأخذ مجراها”.
زلزال سياسي
الوثائق التي أُشير فيها ضمناً إلى نية “تغييب” الرئيس، فتحت الباب أمام نقاش جديد حول أدبيات حركة النهضة وجماعة “الإخوان” بشكل عام، ومدى صحة الادعاءات التي تروج منذ سنوات عن قيام الحركة بمراجعات فكرية وسلوكية خلال فترة حكمها.
وتعتبر المحللة السياسية أحلام العبدلي، في حديث لـ”النهار”، أن هذه الوثائق تُعد “منعرجاً جديداً في قضية التآمر على أمن الدولة”، لا سيما ما يتعلق بالغنوشي. وتقول: “لم نعد نتحدث عن محاولة لتغيير النظام بالأساليب الدستورية، بل عن نية لتغييب الرئيس بالموت”.
وتشير إلى أن ما نُشر يمثل “زلزالاً سياسياً”، لأنه “كشف الوجه الآخر للإسلاميين ووضع المعارضة المتحالفة معهم في موقف محرج”، مضيفة: “لأول مرة تُنشر وثائق يُنسب بعضها إلى الغنوشي تشير إلى نية تغييب الرئيس جسدياً، وهو ما يفند سردية المراجعات التي طالما تمسك بها الإسلاميون منذ وصولهم إلى الحكم”.
وتختم العبدلي بالقول إن هذه الوثائق تعزز من الاتهامات التاريخية الموجهة إلى الحركة، مثل محاولة اغتيال بن علي، التي طالما أنكرتها، زاعمة أنها من فعل عناصر منفلتة. وتخلص إلى أن هذه الوثائق تنزع عن النهضة “لحاف المدنية” الذي حاولت أن تلتحف به منذ 2011، وستزيد من نفور الرأي العام تجاهها، وتكثف الضغوط المطالبة بحلّها.