شرع توم برّاك، مندوب ترامب الخاصّ إلى سورية ولبنان، في جولات مكوكية من أجل إقناع لبنان بكيفية إنهاء حرب إسرائيل ضدّه، واستعادته “كامل سيادة الدولة عبر نزع سلاح حزب الله”. كيف يبرمج حزب الله المشروع في هذه النقطة بالذات؟… يُنزع سلاحه في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني، أو نهاية هذه السنة “في أبعد تقدير”. وفي المقابل، تتعهّد واشنطن بالضغط على إسرائيل “لتنسحب تدريجياً من المناطق التي احتلتها في جنوب لبنان”، أي إننا مقبلون على تكرار ما يحصل كلّ مرّة، هنا أو في غزّة؛ “إنهاء الحرب” مقابل البقاء تحت نيران الاحتلال. وفي حالةٍ كهذه، يكون نزع سلاح حزب الله مستعصياً وغير منطقي، وهو الأمر الحاصل حالياً، إذ يتعرّض الحزب وأُطره ومواقعه لنيران إسرائيل، وقد ارتفعت عشيّة الردّ اللبناني على مشروع برّاك، ما يسهّل على الحزب الردّ بأنه متمسّك بسلاحه، من دون أن يكون لهذا السلاح أي دور في التصدّي للهجمات الإسرائيلية اليومية، ومن دون أن يكون هناك ذرّة أمل بإمكانية أن يكون هذا السلاح ناجعاً في حال قرّر الحزب استعماله.
بإفراغ المعنى الأصلي لسلاحه، يبقى المعنى الرديف، كما في كلّ مرّة “ينتصر” فيها الحزب على إسرائيل، إذ كان هذا الانتصار يتّجه إلى الداخل، والسلاح مصوّب نحوه؛ يعزّز سطوته على أبناء بيئته، وينال من مؤسّسات “الدولة العميقة”، والدولة السطحية في آن. وهذه البيئة هي الركيزة التي قام عليها حزب الله، هي التي حملته إلى البرلمان والوزارات والمساحات، وهي مقيمة على “الوفاء”، أي الطاعة الكاملة لتوجّهات الحزب، ولو كانت انتحارية. تطول الآن المراوحة من أجل السلاح أو اللاسلاح، الدولة أو اللادولة. غالبية البيئات (كلّها طائفية)، تشعر بالضجر من سلاح حزب الله، فتنال من أبناء بيئته الشيعية. والذبذبات والإيحاءات كلّها، والتشكيك في “لبنانيتهم”، والكلمات الموجّهة إليهم علناً، مثل “حلّوا عنّا” و”روحوا إلى إيران” و”لا تشبهونا” و”لا نريدكم بيننا”… التي يتلقّاها أبناء هذه البيئة يومياً، تُشعرهم بأنهم مستهدفون. والخوف على الوجود له أشباحه القريبة، من جهة سورية مذابح ضد علويين، واستهداف الدروز، وأخيراً المسيحيين (تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق). يهجس كثيرون بأن غزّة هي مستقبلهم، ويقولون إن الاغتيالات اليومية ليست سوى خيط سيوصلنا يوماً إلى مذبحة كالتي تبيد الغزّيين.
خوف الشيعة وإحباطهم قوتان خفيّتان تصنعان الوطنية، إن رأوا أن خلاصهم على عاتق كلّ طوائف لبنان
في مجالهم الوطني الضيق، خوف الشيعة على وجودهم يمتّن علاقتهم بالحزب وبسلاحه، فإن يتمكّن هذا الأخير من الدفاع به في وجه إسرائيل (لأنهم يروْن الأمر كذلك)، فبالتأكيد سوف يحميهم من بقية الطوائف، ويكون الجواب بالتفافٍ حول الحزب والوقوف على أغاني انتصاراته. وفوق ذلك، عليهم ابتلاع هذا اللغز الذي يختبئ خلف عبارة “السيادية”: القوى السيادية، التوجّهات السيادية، الطموحات السيادية، أي التي ترحّب بالمشروع الإسرائيلي الأميركي، بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الصراحة. فالسياديون عارضوا الاحتلال الإيراني في أيام عزّ الحزب، ثمّ استبدلوه باحتلال إسرائيلي، وهيمنة أميركية. وإذا وضعت المنظار الأعم، فإننا من كلّ الجهات فاقدون استقلالنا، مهما كانت طوائفنا، مع الإبقاء على الدرجة الأعلى من التعقيد لدى الشيعة، أبناء بيئة الحزب، فهم الذين دفعوا أثماناً غاليةً من أرواحهم وأرزاقهم، يجدون أنفسهم الآن ملتصقين “عضوياً” بمصيره. هم سلاحه فوق سلاحه، وفوهة بندقيته وقربان مذبحه. وفي هذه اللحظة بالذات، تبرُز أغرب الحاجات الوطنية، فإذا كنّا جميعاً واقعين تحت نيْر احتلالٍ ما، إيراني أو إسرائيلي، فالأحرى بنا أن نلتقي، أن نتجاوز طوائفنا التي لا تعرف غير حماية نفسها نظاماً واحداً متماسكاً بانقساماته، يوزّع حصصه بين الرابحين، ويمضي منتصراً على الخاسرين، مهما كانت جنسية المحتلّ. والسؤال الذي يتبادر الآن قديم، ولكنّه غير بائت: ما الذي يمنع أبناء بيئة الحزب من الالتقاء مع أبناء الطوائف الأخرى في وطنتيهم، وقضيتهم المشتركة؟… سؤالٌ يعود ربّما إلى تاريخ لبنان كلّه، إلى “حتمية” طائفيته، إلى تلك السلسلة النحاسية الصلبة التي لا تنتهي من المذابح وذاكرة المذابح، أو إذا أردنا قليلاً من التحديد، نقول إن القصّة بدأت مع ملاءمة تكوينة حزب الله الطائفية مع تكوينة لبنان الطائفية، أي إنه لو لم يكن النظام طائفياً لما وُجِد حزب الله. طوال الأربعين سنة من عمر الحزب لم يظهر تيّار أو موجة أو تنظيمات، واحدة أو متعدّدة، تواجه الحزب باسم وطنية جامعة. الصراع من أجل السلطة كان بالنسبة إلى الحزب وخصومه هو الإطار الطائفي. وهكذا رست الأمور حتى الحرب أخيراً، فكان ما كان.
يحتفظ الحزب حالياً بسلاحين: صواريخه، ثمّ بيئته (الشيعة)، وهي سلاح أبقى من الصواريخ كلّها، أي إن هذه البيئة أصبحت رهينته، يحاصرها هو وخصومه. تحتاج إلى الأكسجين الوطني ولا تجده. تنظر إلى المعارضة الشيعية للحزب فلا تتوفّق. فهذه المعارضة لا تلبّي الطلب، لأنها معارضة ضمن الطائفة، أي لا تُخرجها من القمقم، تطالب النظام بحصّتها. ولا تُلام المعارضة الشيعية، فهي أيضاً كانت أضعف من العصر المذهبي، الذي يجهل تماماً معنى “وطنية”. خوف الطائفة الشيعية وإحباطها هما القوتان الخفيّتان اللتان يمكنهما صنع الوطنية، إن رأت الطائفة أن خلاصها يقع على عاتق كلّ طوائف لبنان، فتنتشل الشيعة من وضعية الدروع البشرية للحزب، وتنتشل بقيّة الطوائف من بقائهم أوصياء التعبئة الطائفية المفضية كلّها إلى الحروب على أنواعها.