ثمة تزامن لافت شهدته، مطلع الأسبوع الجاري، ثلاث عواصم رئيسية وفاعلة، جميعها ترتبط بقضية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والاستقرار الوظيفي، ومستقبل الحكم في سوريا.
فما بين أبوظبي وبيروت وواشنطن، برز هذا التزامن، حيث جاءت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى دولة الإمارات في توقيت بالغ الدلالة، تزامناً مع زيارة المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، إلى العاصمة اللبنانية بيروت، لتسلّم الرد اللبناني الرسمي على الورقة الأميركية المتعلقة بالترتيبات الأمنية والسياسية في الجنوب اللبناني وسوريا.
وفي هذا السياق، لفت المبعوث الأميركي إلى أن الحوار بين سوريا وإسرائيل قد بدأ بالفعل، مشيراً، خلال مؤتمر صحفي عقده في بيروت عقب لقائه بالرئيس اللبناني، إلى أن الحكومة السورية الجديدة، التي تسلّمت السلطة نهاية العام الماضي بعد سقوط “حليف إيران” بشار الأسد، بدأت خطوات أولى في فتح قنوات حوار مع إسرائيل.
وفي الاتجاه نفسه، جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، لتضيف بُعداً آخر لهذا الحراك السياسي المكثف.
إلى ذلك، وفي سياق يبدو متصلاً بديمومة التحول في سياسة الولايات المتحدة تجاه “سوريا الجديدة”، برز القرار اللافت لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإلغاء تصنيف “هيئة تحرير الشام” – أو ما كانت تُعرف سابقًا بجبهة النصرة – كمنظمة “إرهابية”.
وقد صدر القرار في مذكرة عن وزارة الخارجية الأميركية، أشار فيها وزير الخارجية ماركو روبيو إلى ما وصفه بـ”الإجراءات الإيجابية” التي اتخذتها الحكومة السورية، بعد إعلانها حل “هيئة تحرير الشام”، وتعهدها بمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله.
وتعزز هذا التحول الأميركي اللافت من خلال خطوة أخرى ذات دلالة عميقة، تمثلت في إصدار ترامب أمراً تنفيذياً برفع عقوبات دامت لعقود عن سوريا، دعماً للحكومة الجديدة، وتمهيداً للتعافي الاقتصادي للدولة.
وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن الترابط بين جميع هذه المؤشرات يتموضع حول ضرورة أن تستقر الحكومة السورية في موقف إقليمي واضح ومحدد، إزاء التحولات الجارية في الشرق الأوسط، لا سيما بعد السابع من تشرين الأول، الذي عُرف بـ”طوفان الأقصى”، وما تلاه من سقوط نظام الأسد وفك الارتباط الميداني مع أذرع إيران العقائدية.
ويُشير مراقبون إلى أن هذه التطورات تمهّد الطريق أمام اتفاقات سورية–إسرائيلية محتملة، سواء في المجال الأمني أو السياسي، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال لقائه بالرئيس ترامب في واشنطن، مؤكداً أن دول المنطقة تستعد لمرحلة جديدة من السلام مع إسرائيل.
“لا تطبيع كامل”
وفي هذا السياق، يؤكّد الكاتب السوري فراس علاوي أن زيارة الشرع لدولة الإمارات العربية في هذا التوقيت مرتبطة بالملف الإسرائيلي، دون تأكيد حدوث أي لقاء بين الشرع ومسؤولين إسرائيليين في هذه الزيارة، بحسب حديث علاوي لـ”963+”، ووصف تلك التقارير بأنها “بروباغندا إسرائيلية لا أكثر”.
ويلفت علاوي إلى أن ثمة اختلافاً بين الجانبين في بعض الملفات، حيث لا ترغب دمشق في تطبيع كامل، بل ترى أهمية في توسيع اتفاق فضّ الاشتباك عام 1974، بينما تهتم إسرائيل بكل ما يضمن لها شؤون أمنها، وتعتقد أن ذلك يتحقق من خلال الدخول في علاقات كاملة مع كافة دول المنطقة، خاصة سوريا.
ويختتم علاوي حديثه قائلاً إن الولايات المتحدة الأميركية تدعم الاستقرار الوظيفي في سوريا.
من جانبه، يرى طارق الشامي، الكاتب المختص بالشأن الأميركي، أنه لا يوجد مسار سهل أو سريع لتحقيق السلام بين سوريا وإسرائيل.
ويرجّح الشامي، في حديثه لـ”963+”، أن “التطبيع بين دمشق وتل أبيب مستبعد في الوقت الراهن، بالنظر إلى رفض إسرائيل التنازل عن الجولان، مقابل إصرار دمشق على استعادة كامل الجولان أو الجزء الأكبر منه على الأقل”.
ومع ذلك، يلفت الشامي إلى أن “اللحظة الحالية تتيح فرصة لتغيير مسار العلاقات السورية-الإسرائيلية والمساهمة في منع نشوب صراع رئيسي جديد في الشرق الأوسط، بعدما خلقت عوامل عدة بيئة خصبة لتبادل الاتهامات بين البلدين.
كما يوضح أن المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا حالياً، إلى جانب النهج البراغماتي الذي يتبعه الرئيس السوري، ودعم شركاء الخليج الرئيسيين والولايات المتحدة لجهود خفض التصعيد، تعكس أن الشرع قد منح أولوية واضحة للمصالحة الداخلية ومع دول الجوار، واتخذ خطوات ملموسة لإظهار هذا الالتزام.
ويشدد الشامي على أن هذه الخطوات شملت الضغط على قادة مرتبطين بحركة “حماس” وغيرها من التنظيمات المصنفة “إرهابية” لمغادرة البلاد، إضافة إلى منح الوكالة الدولية للطاقة الذرية حق الوصول الكامل إلى المواقع النووية المشتبه بها.
“تحديات جسيمة”
ورغم التكهنات التي غذتها تصريحات ترامب للشرع خلال لقائهما في الرياض في أيار/ مايو الماضي بشأن إمكانية تحقيق السلام بين سوريا وإسرائيل، يشير الشامي إلى أن هذا الاهتمام يخفي وراءه تحديات جسيمة تواجه أي اتفاق بين بلدين في حالة حرب منذ أكثر من 75 عاماً.
وتشمل هذه التحديات، بحسب الشامي، قضايا السيطرة على مرتفعات الجولان، واستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، وتنامي النفوذ التركي في سوريا، وهي كلها عقبات كبيرة ترتبط ارتباطاً مباشراً بمسار إعادة بناء الدولة السورية الذي لا يزال في بداياته.
ورغم ذلك، يرى الشامي أن “اغتنام فرصة هذه المرحلة التحولية في سوريا سيستغرق وقتاً ويتطلب نهجاً صبوراً وتدرجياً”. ويبيّن أن ذلك يستلزم أن توظف الولايات المتحدة نفوذها الديبلوماسي لدى كل من دمشق وتل أبيب، على أن يبدأ الأمر باتخاذ تدابير لبناء الثقة تمهّد الطريق إلى اتفاقات أمنية مؤقتة.
كذلك ينبغي، بحسب الشامي، أن “يكون ترامب مستعداً لمواصلة دعم هذه العملية حتى لو بدت المكاسب العاجلة بعيدة المنال، وأن تكون سوريا في الوقت نفسه قادرة ومستعدة لتقديم ضمانات وحلول تطمئن إسرائيل إلى أمنها. أما إسرائيل فعليها أيضاً أن تكون مستعدة لتقديم تنازلات، ولا سيما التنازلات السياسية والرمزية الضرورية لجعل أي اتفاق ممكن القبول داخل سوريا”.
ويختتم الشامي حديثه بالإشارة إلى أن التقدّم في هذا المسار لن يتحقق إلا عبر إرادة سياسية متبادلة وصبر طويل من جميع الأطراف المعنية.
“خطوة مقابل خطوة”
بدوره، يوضح الكاتب السوري مصطفى النعيمي، أنّه من المهم الإشارة إلى أنّ التقارير التي لفتت إلى محادثات أولية ومناقشات حول اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل، بوساطة أميركية، “ليست بالضرورة تطبيعاً كاملاً في الوقت الحالي”.
ويستطرد النعيمي حديثه لـ”963+” قائلاً إنّ “الوضع معقّد للغاية ويتطوّر باستمرار وفق متغيرات الساحة الدولية عمومًا والعربية بشكل خاص، في ظلّ ظهور تحالفات جديدة وانحسار أخرى كانت مهيمنة على القرار العربي”.
وبالإجابة عن سؤال حول ما إذا كان تثبيت أركان حكم الشرع في سوريا وتدعيم الاستقرار قد يتم عبر بوابة التطبيع مع تل أبيب، يشير النعيمي إلى أنّه “قد ينظر بعض الأطراف إلى التطبيع مع تل أبيب كسبيل لتعزيز الاستقرار في سوريا، خصوصاً بعد سنوات الحرب والاضطراب”.
ويبيّن النعيمي أنّ التطبيع، في حال حدوثه، “يمكن أن يوفّر فرصة لسوريا للاندماج مجدداً في المجتمع الدولي والحصول على دعم اقتصادي وإعادة إعمار. وبالنسبة للحكومة السورية الحالية بقيادة الشرع، قد يكون التطبيع وسيلة للحصول على اعتراف دولي وتخفيف العقوبات، وبالتالي تعزيز شرعيتها واستقرارها”.
ويشدّد النعيمي على أنّ هذا المسار يواجه تحديات داخلية وخارجية كبيرة. داخل سوريا. ويبين أن ثمة محددات تتحكم في مسار التطبيع حيث تظل القضية الفلسطينية حجر الزاوية في الموقف العربي من التطبيع مع إسرائيل، وتصرّ العديد من الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، على ضرورة التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة قبل أي تطبيع كامل.
وبعض الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل (مثل الإمارات والبحرين) فعلت ذلك ضمن سياق “اتفاقيات أبراهام” التي لم تشمل سوريا، “وأي تطبيع سوري سيُقيم بناءً على هذه الخلفية”، بحسب النعيمي.
كما يشير إلى أن “استعادة الجولان المحتل يمثل مطلباً رئيسياً وأساسياً لأي حوار سوري حالي أو مستقبلي”.
ويوضح النعيمي في ختام حديثه، أنّ “مسألة ربط التطبيع بتخفيف العقوبات قد تكون حاضرة بقوة، إذ ربما تكون الولايات المتحدة مستعدة لرفع المزيد من العقوبات عن سوريا في حال تحقق تقدم ملموس في التطبيع وتلبية الشروط الأخرى، وبالتالي نحن أمام مسار “خطوة مقابل خطوة” لتحقيق الأمن المشروط في سوريا مقابل الامتيازات التي ستُقدّم للحكومة السورية”.
تصفح أيضاً