حين تؤكد الحكومة السورية في بيانها الأخير على مبدأ “سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”، فإنها تستعيد خطاباً ظل يرافق الدولة السورية منذ نشأتها، خطاباً يعكس حرصاً مفهوماً على استقرار البلاد ووحدة أراضيها، لكنه في الوقت ذاته يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذه الوحدة وحدودها، والصيغة التي يمكن من خلالها بناء دولة لكل أبنائها، بحيث تُنصف تنوعهم، وتضمن مشاركتهم الفعلية في الحياة السياسية والإدارية والثقافية. فالتمسك بوحدة البلاد هو هدف مشترك، غير أن تحقيقه يتطلب معالجة عميقة للأسئلة التي تتعلق بطبيعة العقد الوطني، وشكل النظام الإداري، ومدى تمثيل جميع المكونات في الدولة ومؤسساتها.
لقد أظهرت التجربة السورية أن بناء وحدة حقيقية لا يمكن أن يتحقق من خلال مركزية القرار أو احتكار التمثيل، بل من خلال شراكة سياسية عادلة تعترف بجميع المكونات، وتضمن مساهمتها الكاملة في صياغة السياسات العامة. فالدولة الوطنية، لكي تكون جامعة بحق، ينبغي أن تستند إلى أسس المساواة الدستورية والثقافية، لا إلى تصور أحادي للهوية، يُعيد إنتاج التهميش بصور جديدة. وفي هذا السياق، لا يمكن الحديث عن هوية وطنية جامعة دون مراجعة نقدية للإرث الذي وسم البنية الرمزية للدولة لعقود، حيث تَماهت الهوية الوطنية مع تصور ضيق للانتماء القومي، انعكس حتى على اسم الدولة نفسه، وما حمله من دلالات أيديولوجية مختزِلة لمفهوم الانتماء السوري الجامع.
فالهوية الوطنية الجامعة ، لا تعني تعميق الهوية البصرية للدولة على أساس العروبة فقط، ولا اختزال الوطنية في انتماء ثقافي أو لغوي واحد، بل تعني الاعتراف بتعدد الهويات المكوِّنة للمجتمع السوري، ومنحها حضوراً متساوياً في رموز الدولة، في خطابها الرسمي، وفي سياساتها التعليمية والثقافية ،والمواطنة المتساوية، التي تُعد حجر الأساس في الدولة الحديثة، لا تكتمل إن بقيت محصورة في النصوص دون أن تنعكس في هوية الدولة الرمزية ومؤسساتها وخطابها العام.
ويأتي التأكيد على “جيش واحد” و”حكومة واحدة”، كتعبير عن رغبة في استعادة وحدة القرار السيادي، وهو أمر مفهوم في سياق ما شهدته البلاد من تفكك خلال سنوات الحرب، لكنه لا يمكن أن يُترجم إلى مركزية مطلقة تُقصي الأطراف وتُعيد إنتاج النماذج التي همّشت المشاركة السياسية وقيدت التعبير عن الخصوصيات. في حين أن الحديث عن جيش وطني يجب أن يقترن بمراجعة شاملة لبنية المؤسسة العسكرية، بما يجعلها تمثل جميع المواطنين، وتحترم تعدد خلفياتهم، وتُدار على أسس مهنية وقانونية واضحة. بينما لا تعني “حكومة واحدة” بالضرورة احتكار القرار في المركز، بل يمكن أن تعني حكومة وطنية مسؤولة تُشرف على نظام إداري لا مركزي، يضمن التوزيع العادل للسلطة والموارد، ويعزز الشعور بالانتماء والانخراط في الشأن العام.
من جهة أخرى، فإن الحديث عن الهوية الوطنية بوصفها ركيزة للاستقرار والوحدة تقتضي تطوير هذا المفهوم ليشمل تعددية حقيقية، تعكس التنوع القومي واللغوي والثقافي لسوريا. فالدولة الحديثة ليست مجرد سلطة سياسية، بل هي إطار رمزي وقانوني وثقافي، يجب أن يكون معبّراً عن عموم السوريين لا عن فئة واحدة، وهذا لا يتحقق إلا بإعادة صياغة العلاقة بين الهوية الوطنية والرمزية الرسمية للدولة، من العلم والنشيد إلى الخطاب السياسي والتربوي.
في الحقيقة فإن وحدة سوريا المستقبل لا تقوم فقط على بسط السلطة على الجغرافيا، بل على التفاهم العميق حول طبيعة الدولة المنشودة، وشكل التمثيل السياسي، ومكانة كل مكون في الحياة العامة ، ولا يمكن بلوغ هذا الهدف دون حوار وطني شامل، صريح ومسؤول، يعالج القضايا الكبرى التي لطالما جرى تأجيلها، وعلى رأسها مسألة الهوية، والمواطنة، وتقاسم السلطة، والعدالة الاجتماعية، والدستور الجديد.
أخيراً ، يشكل البيان الحكومي فرصة لمراجعة شاملة، لا لتأكيد المسلمات السابقة، بل لفتح صفحة جديدة من التفكير في المستقبل، تكون فيها الوحدة مبنية على الشراكة، والسيادة مستندة إلى رضا المواطنين، والدولة انعكاساً حقيقياً لتعددها، وفي هذا المسار، فإن إعادة تعريف الهوية الوطنية هو شرط ضروري لبناء وطن لا يُقصي أحداً، يتسع للعرب ، والكرد ، والأرمن والتركمان ، والسريان -الآشوريين ، ولكل من يرى في هذه الأرض وطناً مشتركاً، لا مجالاً لصراع الهويات.