ملخص
حين تصبح التسوية على أساس “حل الدولتين” مهمة مستحيلة في نظر نتنياهو وحكومته، فإن الكفاح المسلح يفرض نفسه كمهمة حتمية، بصرف النظر عن التضحيات والأثمان والتجارب الصعبة التي مر بها الشعب الفلسطيني. ولا مجال لسلام دائم يطلبه ترمب من دون مقابل هو دولة فلسطينية، ولا حرب دائمة يقودها نتنياهو يمكن أن تبقى حرباً بالتقسيط من طرف واحد.
أهل غزة يستحقون أكثر من هدنة في حرب إبادة، لكن اللعبة أكبر من القطاع والهدنة والرهائن. والبحث عن نهاية الحرب على غزة يصطدم بما كان أساس العقدة من البداية: دور “حماس” كحركة مسلحة في فلسطين تريد تحرير الأرض المحتلة بالقوة، وطبيعة إسرائيل ثم الدرس الإستراتيجي الذي تعلمته من “طوفان الأقصى” وحرب غزة ولبنان وصواريخ الحوثيين، الذي خلاصته التخلي عن إستراتيجية “الردع” والتركيز على إستراتيجية “الحسم”.
فالدرس، حسب تحقيق الاستخبارات العسكرية، هو أنه “لا يمكن السماح للعدو بالتسلح وتعزيز قواته عبر الحدود، ويجب إعطاء الأولوية لإزالة التهديد على تحقيق الهدوء عبر تنفيذ هجوم مضاد مبكر ضمن معارك وقائية”.
والدرس، حسب تحقيق “الشاباك”، هو أن الخطأ في سياسة إسرائيل ولا سيما سياسة بنيامين نتنياهو كان “تفضيل ‘حماس’ على السلطة والسماح بوصول الأموال القطرية إليها، والرهان على بقاء الحركة كضمان لمنع قيام دولة فلسطينية”، والحل هو وجوب “منع أي تهديد ولو كان متواضعاً في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا”.
والترجمة الواضحة لذلك هي ممارسة لعبة مزدوجة داخل اللعبة الأميركية الكبرى. الرئيس دونالد ترمب يرفع شعار “السلام الدائم” في الشرق الأوسط، ونتنياهو يقطف الممكن من ثمار السلام الأميركي، بالتوازي مع تنفيذ “حرب دائمة” بالتقسيط لمنع أية قوة مقاومة من تقوية نفسها، حرب في غزة ولبنان وسوريا واليمن ثم في إيران نفسها.
لكن السلام الدائم الذي يعمل له ترمب مباشرة وعبر مبعوثين إلى المنطقة هو سلام “الاتفاقات الإبراهيمية” والحرص على توسيعها لتشمل دولاً ليست مستعدة للتطبيع قبل قيام دولة فلسطينية، مثل لبنان وسوريا والسعودية وبقية الدول التي يحرضها ترمب على التطبيع. و”السلام الإبراهيمي” ليس السلام الدائم الذي وافقت عليه القمة العربية في بيروت عام 2002 ضمن المبادرة العربية للسلام. والحرب الدائمة التي تبنتها إسرائيل هي وصفة للفوضى والدمار واحتلال الأرض في لبنان وسوريا بعد فلسطين، لا للسلام، ولا بالطبع للقضاء على ما تسمى “أذرع إيران” في دول المنطقة.
خطورة أن تهيمن دولة على المنطقة
فضلاً عن أن اللعبة المزدوجة لها أبعاد أخرى، من نوع لعب الورقة على الوجهين. فمن جهة تعود إسرائيل إلى إستراتيجية “الجدار الحديدي” التي نظّر لها زئيف جابوتنسكي معلم مناحيم بيغين وكان والد نتنياهو تلميذه وسكرتيره، وهي لا شيء سوى “العداء الكامل” للفلسطينيين والعرب. ومن جهة أخرى تركيز على إستراتيجية “القلعة والسوق” التي راجت أيام إسحق رابين و”اتفاق أوسلو” وشمعون بيريز و”الشرق الأوسط الجديد” وموجزها أن إسرائيل هي القلعة العسكرية المحصنة والمنيعة، والعالم العربي هو السوق المفتوحة أمامها.
ومع أن بتسلئيل سموتريتش يمثل أقصى التطرف في حكومة نتنياهو باسم “الصهيونية الدينية”، فإن ما يعبر عنه هو أحلام اليمين الحاكم بالقول “إسرائيل لن توقف هجماتها حتى إنهاء حركة ‘حماس’ وتفكيك سوريا وإضعاف ‘حزب الله’ وإبعاد الخطر النووي الإيراني”. وهذه هي “المهمة الكبيرة التي لا تزال أمامنا لكنني واثق من قدراتنا على إنجازها”، كما قال نتنياهو.
ترمب ليس من النوع الذي يدقق في الأمور المعقدة في أزمات العالم وحروبه، فهو يدير الإدارة على طريقة تلفزيون الواقع. وهو، حسب كتاب جيمس بينيوفوزيك “مشاهدو شخص واحد، ترامب، تلفزيون وتمزيق أمة” كان “صناعة تلفزيونية، عالمه التلفزيون ولديه موهبة الارتجال ونقاشات برنامج أبرانتس المبنية على الإقصاء صارت نقاش ترمب الرئيس”.
وليس من اختارهم كموفدين بصلاحيات مهمة إلى تركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل والمفاوضات مع إيران سوى صديقين له من المقاولين الكبار: ستيف ويتكوف وتوم برّاك. والمهمة: صفقات سريعة أو ترك كل شيء على حاله. لكن تشجيعه لنتنياهو على ضم الضفة الغربية سيصطدم بالعجز عن ابتلاع الفلسطينيين ولو ابتلع الأرض. وحسب “الإيكونوميست”، فإن نتنياهو “يعتقد أن مستقبل إسرائيل معلق بهزيمة أعداء مثل إيران، لكن أعظم تهديد له هو عدم القدرة على الانخراط مع الفلسطينيين، وهم مشكلة إسرائيل الكبرى”.
ذلك أن إيران التي تلقت هي وأذرعها ضربة قوية، وانحسر نفوذها وضعف مشروعها الإقليمي، يمكن أن تستمر في دعم حرب “حماس” وبقية الأذرع تحت عنوان التحرير الكامل من البحر إلى النهر أو أن يسقط النظام أو أن تبدل سياستها بصفقة مع أميركا، لكن من الوهم الهرب من الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات الذي صار أكثر عدداً من اليهود في إسرائيل. وحين تصبح التسوية على أساس “حل الدولتين” مهمة مستحيلة في نظر نتنياهو وحكومته، فإن الكفاح المسلح يفرض نفسه كمهمة حتمية، بصرف النظر عن التضحيات والأثمان والتجارب الصعبة التي مر بها الشعب الفلسطيني. ولا مجال لسلام دائم يطلبه ترمب من دون مقابل هو دولة فلسطينية، ولا حرب دائمة يقودها نتنياهو يمكن أن تبقى حرباً بالتقسيط من طرف واحد.
و”الأفضل أن تقاتل حين يكون لك حظ صغير من أن تقاتل حين لا يكون لديك حظ أبداً”، كما قال تشرشل.