ملخص
من المرجح ألا تعدل طهران عن برنامجها النووي فالضربات شدت لحمة النظام ورصت صفوف الإيرانيين
يعد هجوم إسرائيل على إيران في الـ13 من يونيو (حزيران)، الذي كان يهدف إلى شل البرنامجين العسكري والنووي لطهران، من أسوأ الانتكاسات التي تعرضت لها الجمهورية الإسلامية على الإطلاق. ففي أقل من أسبوعين، تمكنت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي من اغتيال عشرات من كبار القادة الإيرانيين والعلماء النوويين، كما دمرت إسرائيل عدداً من أنظمة الدفاع الجوي في إيران وألحقت أضراراً بمنشآتها النووية. وقصفت البنية التحتية للطاقة الإيرانية، والقواعد العسكرية، ومواقع إنتاج الصواريخ المختلفة. لقد كانت الضربات بالغة الدقة، مما يشير إلى أن الاستخبارات الإسرائيلية اخترقت أعلى مستويات القوات المسلحة والحكومة الإيرانية. ومع اقتراب نهاية الهجمات، شاركت الولايات المتحدة في العملية العسكرية. ونتيجة لذلك، أصبح الجيش الإيراني أضعف الآن مما كان عليه قبل شهر.
ولكن بدلاً من الانهيار تحت وقع الصدمة، يبدو أن الجمهورية الإسلامية التقطت أنفاسها [ولدت من جديد]. في الواقع، تسببت الضربات في تأثير “الالتفاف حول العلم”، إذ ندد الإيرانيون بها وحيوا رد الحكومة عليها. وقد نعى النظام الإيراني مسؤوليه الذين فقدهم، لكنه سرعان ما استبدلهم. وبهذه الطريقة، جعلت العمليات الشعب الإيراني أكثر تماسكاً، وعززت من نفوذ الحرس الثوري الإيراني.
من غير المرجح أن يصبح المجتمع الإيراني أكثر تشدداً من الناحية الإسلامية كرد فعل على الهجمات، ومن أجل الحفاظ على الاستقرار الداخلي، قد يتسامح النظام حتى مع مزيد من الحريات الاجتماعية، لكن من المحتمل أن يصبح أكثر قمعاً، فيعتقل كل من يشتبه في خيانته. والأهم من ذلك، أن الإيرانيين قد يصبحون أكثر استعداداً لتقبل الدولة على ما هي عليه، وقد يكون لدى البلاد الآن عقد اجتماعي جديد، يضع الأمن القومي فوق كل اعتبار.
مع ذلك، تبقى استراتيجية الأمن القومي لإيران من دون تغيير يذكر، فقد تكون طهران أضعف في بعض الجوانب، لكن قادتها يفتخرون بقدرتهم على الصمود في وجه الهجمات الإسرائيلية والأميركية، ويرون أن الأضرار الكبيرة التي ألحقوها بالمدن الإسرائيلية تعد إنجازاً كبيراً. علاوة على ذلك، هم لا يزالون يؤمنون بأن إظهار العزيمة والصلابة في مواجهة العدوان هو السبيل الوحيد لردع خصومهم، ولذلك سيسعى القادة الإيرانيون إلى إعادة بناء شبكة وكلائهم في المنطقة: ما يسمى بـ”محور المقاومة”، وسيصبحون أقل ثقة في الدبلوماسية. وبدلاً من ذلك، سيمهدون لحرب استنزاف طويلة مع إسرائيل، وربما لتجاوز محتمل لمرحلة التخصيب النووي.
الوحدة والمقاومة
في الأسابيع التي سبقت هجوم إسرائيل على إيران، بدا وكأن طهران وواشنطن قد تتوصلان إلى حل سلمي لنزاعهما حول البرنامج النووي الإيراني، وللمرة الأولى منذ انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في عام 2018، أي الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى قبل ذلك بثلاث سنوات، أبدى فريق الرئيس الأميركي دونالد ترمب استعداده لقبول ترتيب يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم حتى نسبة 3.67 في المئة، أي المستوى الذي وافقت عليه الولايات المتحدة بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، بدلاً من المطالبة بعدم التخصيب على الإطلاق. من جانبها، أبدت طهران انفتاحها مجدداً على حوار مباشر مع المسؤولين الأميركيين عوضاً عن الاعتماد على الوسطاء فحسب، وقد اعتقد بعض المحللين أن اتفاقاً نووياً جديداً قد يكون وشيكاً.
لكن مع تقدم المفاوضات، بدأت إدارة ترمب تتراجع عن مرونتها الأولية، متأرجحة بين المطالبة بعدم التخصيب على الإطلاق وبين التفكيك الكامل للبنية التحتية النووية الإيرانية. في الوقت نفسه، واصلت إسرائيل تقويض موقف طهران من خلال القضاء على قوة “حزب الله” (أقوى حليف لإيران)، وسحق حركة “حماس”، وتدمير بعض منظومات الدفاع الجوي الإيرانية. وتعاظم ضعف الجمهورية الإسلامية في ديسمبر (كانون الأول)، عندما أطاح المتمردون بالرئيس السوري بشار الأسد، وهو حليف مخلص آخر لإيران. وفي نهاية المطاف، ساد شعور بالاستسلام داخل طهران: وبدأ عدد من من المسؤولين والمحللين يعتقدون أن الهجوم الإسرائيلي أو الأميركي، أو كلاهما، بات محتماً، سواء بوجود اتفاق أو من دونه.
الخوف من الاغتيال يفرض على المسؤولين الإيرانيين الحياة في الظل
تحليل استخباري يكشف عن تدمير نصف الترسانة الصاروخية الإيرانية
ومع ذلك، مضت طهران قدماً بحذر. فقد كانت تدرك أن الشعب الإيراني كان يغلي من الغضب بعد عقود من القمع، وأن إثارة أية مواجهة مباشرة مع واشنطن قد تشعل موجة جديدة من الغضب الشعبي، لذلك بقي المسؤولون الإيرانيون على طاولة التفاوض، على أمل تفادي الهجوم، وسعوا في الوقت نفسه إلى تعزيز الدعم الداخلي، على سبيل المثال، من خلال تعليق تطبيق القانون المثير للجدل الذي يفرض على النساء تغطية شعرهن بالكامل في الأماكن العامة، وتخفيف بعض القيود الأخرى على حرية التعبير.
أدت الهجمات الإسرائيلية والأميركية إلى فورة في المشاعر القومية الإيرانية
ليس من الواضح إلى أي مدى كانت هذه الخطوات فعالة في دعم الحكومة حين سقطت القنابل الإسرائيلية الأولى، ففي البداية اعتقد كثير من الإيرانيين العاديين أن النزاع سيكون مجرد مواجهة قصيرة بين حكومتين، ومن المستبعد أن يطاولهم بصورة مباشرة، ولكن مع تصاعد الضربات، واستهداف البنية التحتية وقتل المدنيين، بدأ كثير من الإيرانيين يستنتجون أن الهجمات لم تكن مجرد حرب ضد النظام، بل حرباً ضد الأمة بأسرها، وتعززت هذه المشاعر بعد أن حث ترمب والمسؤولون الإسرائيليون سكان طهران على إخلاء منازلهم. وقد قالت واحدة من سكان طهران لصحيفة “فاينانشال تايمز”: “أنا لست من محبي الجمهورية الإسلامية، ولكن حان الوقت الآن لإظهار التضامن مع إيران. ترمب ونتنياهو يقولان ’أخلوا منازلكم‘ وكأنهم يهتمون بصحتنا، كيف يمكن إخلاء مدينة تضم 10 ملايين نسمة؟ أنا وزوجي لن نسهل عليهم الأمر، فليقتلونا إن أرادوا”.
وعوض إثارة الغضب الشعبي ضد الدولة الإيرانية، أدت الهجمات إلى فورة في المشاعر القومية. وبينما صمدت الجمهورية الإسلامية أمام الهجوم الإسرائيلي وردت بصواريخ باليستية، لاقى رد النظام ترحيباً وتأييداً من كتاب وفنانين ومطربين إيرانيين، كان كثير منهم عادة بعيدين من السياسة أو معارضين للحكومة. وقد شبه المعلقون الإيرانيون من مختلف الأطياف السياسية الهجوم الإسرائيلي بغزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفياتي عام 1941، واصفين الصراع بأنه “حرب إيران الوطنية”: نضال وطني يتجاوز السياسة، حتى أن بعض المنشقين القدامى والسجناء السياسيين السابقين انضموا إلى هذه الموجة وشاركوا في هذه الحالة من التعبئة الوطنية. على سبيل المثال، أطلق مئات من نشطاء الحقوق السياسية والمدنية، وكثيرون منهم سجنوا سابقاً، بياناً مشتركاً يدين الهجمات الإسرائيلية. وجاء في البيان: “دفاعاً عن وحدة أراضينا واستقلالنا وقدراتنا الدفاعية الوطنية، نقف متحدين وثابتين”. وقد حرص هؤلاء على الحافظ على مسافة من النظام، لكن تأكيدهم على التضامن كان منسجماً مع رسالة الحكومة. وهكذا، خففت ضربات إسرائيل بعض الضغط الداخلي على الجمهورية الإسلامية.
ومن المرجح أن تستغل الحكومة الإيرانية هذه الهدنة لتسريع وتيرة تسليحها استعداداً لصراع طويل الأمد، ومع تراجع الضغط الداخلي ستوجه مزيداً من الموارد إلى الحرس الثوري والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، لا سيما وأن كثيرين في طهران يتوقعون انهيار وقف إطلاق النار الهش في أية لحظة، إلا أن النظام سيواجه صعوبة في إثبات قدرته على تحمل خوض حرب جديدة، خصوصاً في ظل مدى اختراق المخابرات الإسرائيلية لصفوفه. وقد اتهم النقاد النظام بإعطاء الأولوية للولاء العقائدي على حساب الكفاءة، مما سمح لأفراد يرددون شعارات متشددة بالترقي في المناصب بينما كانوا يخفون ولاءاتهم الحقيقية. وأشار بعضهم إلى المفارقة المتمثلة في أن الحكومة كانت منشغلة بفرض قوانين الحجاب وملاحقة المعارضين السياسيين بذريعة مكافحة التخريب الخارجي، في وقت كان خصومها الفعليون يتسللون بهدوء إلى أكثر مؤسساتها أهمية.
وقد أثارت التداعيات الناجمة عن ذلك دعوات طالبت بإجراء التحقيقات والمساءلة، بل وحتى استقالة المسؤولين الكبار الذين اتهموا بالإشراف على هذا الفشل الاستخباري الكارثي. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان أي مسؤول رفيع سيواجه عواقب فعلية، لكن يبدو أن هناك رد فعل واحداً مؤكداً: من المرجح أن تطلق طهران حملات تطهير داخلي، وتوسع جهازها الرقابي، وتعتمد على المواطنين العاديين للمشاركة في رصد الأنشطة المشبوهة والإبلاغ عنها.
تنفذ إيران أحكام الإعدام فوراً ومن دون محاكمة حقيقية في حق المتهمين بالتعاون مع إسرائيل
وعلى رغم ذلك يسعى قادة البلاد إلى الحفاظ على تماسك المجتمع، فخطباء المساجد الموالون للحكومة بدأوا فجأة بمزج أناشيد وطنية أيقونية من حقبة ما قبل الثورة في الطقوس الدينية الشيعية، وهو مزيج من القومية والإسلام السياسي كثيراً ما تجنبه النظام تاريخياً، لكنه يبدو الآن مقبلاً على تبنيه. وعلى نحو مماثل، بدأت وسائل الإعلام الرسمية والمسؤولون المحليون يستحضرون الأساطير الفارسية القديمة التي تعود لما قبل الإسلام في رسائلهم، ويربطون بين شخصيات أسطورية وبين قادة الحرس الثوري الذين قتلوا. وقد أثار هذا المزيج ردود فعل متباينة، إذ اعتبر عدد من الإيرانيين المتشككين أن هذه المبادرات ما هي إلا تحركات انتهازية. لكن مواطنين آخرين شاركوا في هذا التوجه، بعد أن توصلوا إلى قناعة مفادها بأنه لا بد من مواجهة التهديدات الخارجية، بالحكومة الموجودة، وليس بالحكومة التي يشتهون [وصولها إلى السلطة].
ويعتقد بعض الإيرانيين أنه لكي يستمر هذا التماسك الاجتماعي في المستقبل لا بد من أن يتخذ كبار المسؤولين خطوات نحو الاعتدال، فقد اعترفت الحكومة بالدعم المقدم من الإيرانيين الذين كانوا تقليدياً معارضين للنظام، وفي خطوة تحمل إقراراً ضمنياً بأخطاء ماضية، وعدت بمعاملة أفضل للشعب. وقد تطلق سراح سجناء سياسيين وتحسن علاقاتها مع شخصيات معتدلة جرى تهميشها، مثل الرئيسين السابقين محمد خاتمي وحسن روحاني، من أجل إظهار صورة للوحدة الوطنية. ومن الممكن أن تستمر في السماح للنساء بعدم ارتداء الحجاب، وتفتح المجال أمام حرية تعبير أكبر. وقد همشت بالفعل بعض المتشددين الذين دعوا إلى مهاجمة إسرائيل قبل الـ13 من يونيو. (بعض هؤلاء الشخصيات والمحللين كانوا يرون أن البلاد في حالة حرب بالفعل، وبالتالي ويجب أن تبادر إلى وجيه ضربة، حتى لو كان الإقدام على ذلك يحمل خطر إثارة غضب شعب منقسم أصلاً).
لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الوعود بالاعتدال تشير إلى انفتاح حقيقي، يعتقد كثير من الإيرانيين أن النظام سيضاعف من تشدده، معتبراً أن التسامح في وقت الحرب مخاطرة كبيرة، ومراهناً على أن موجة التضامن القومي الحالية تمنحه غطاء لمزيد من القمع مع الحد من ردود الفعل السلبية. على سبيل المثال، شرعت الدولة في تنفيذ أحكام الإعدام فوراً ومن دون محاكمة فعلية في حق المتهمين بالتعاون مع إسرائيل. وأقامت نقاط تفتيش في المدن الكبرى لاعتقال المشتبه بهم، مثلما فعلت خلال ثمانينيات القرن الماضي، وهي آخر مرة تعرضت فيها إيران لهجمات مماثلة. وقد يتبع النظام نهجاً مزدوجاً، فيطلق العنان لبعض الحريات في بعض الجوانب بينما يشدد القيود في جوانب أخرى. فالإيرانيون، في نهاية المطاف، يحملون مشاعر متضاربة تجاه رد فعل الدولة. وقال أحد سكان طهران لصحيفة “فاينانشال تايمز”، عن متطوعي الباسيج شبه العسكريين التابعين للحرس الثوري: “إنه لأمر مقلق، لكنه أيضاً يبعث على الطمأنينة إلى حد ما أن أراهم قرب منزلي، لم أكن أتخيل يوماً أنني سأرى أفراد الباسيج وأشعر بالسعادة”.
الثبات على المسار
بطبيعة الحال، يركز المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون على ما إذا كانت طهران تمثل تهديداً لهم أكثر من تركيزهم على ما إذا كانت تمثل تهديداً لشعبها. وبعد عام ونصف عام من الصراع المباشر وغير المباشر، يعتقد كثير منهم أن النظام الإيراني لم يعد بمستوى التهديد نفسه الذي كان عليه سابقاً. ووفقاً لهؤلاء المراقبين، فإن استراتيجية إيران العدوانية في الشرق الأوسط باءت بالفشل، نظراً إلى انهيار “حزب الله” في لبنان، والأسد في سوريا، و”حماس” في غزة، إضافة إلى الأضرار التي لحقت بالجيش الإيراني نفسه.
مع ذلك، يرى الحرس الثوري الإيراني الوضع بصورة مختلفة. يعتقد قادته أن استراتيجية الدفاع المتقدم للبلاد، أي محاربة الخصوم من خلال حرب غير متكافئة قرب حدودهم أو داخلها، بدلاً من خوض المعركة على الأرض الإيرانية، أثبتت فعاليتها. فقد نجحت هذه الاستراتيجية في ردع إسرائيل والولايات المتحدة عن مهاجمة إيران لسنوات، مما منح طهران وقتاً ثميناً لبناء البنية التحتية الصناعية والخبرة التقنية والمرونة المؤسسية التي يمكنها الآن استخدامها لإعادة بناء برامجها النووية والصاروخية الباليستية بسرعة، حتى بعد القصف المدمر.
كثيراً ما جادل قادة الحرس الثوري بأن عليهم نقل المعركة إلى الخارج لحماية البلاد، زاعمين، على سبيل المثال، أن الفشل في دعم الأسد في دمشق سيؤدي إلى ضربات في طهران. وبطريقة ما، أثبتت التطورات أنهم كانوا على حق. فقد صممت إيران تموضعها الإقليمي لإقامة طبقات من الدفاع من خلال شبكة شركائها المتعددين، معتقدة أن هذه الشبكة الدفاعية ستجبر خصومها على اختراق جبهات متعددة قبل ضرب العمق الإيراني. وهذا، بطبيعة الحال، ما قامت به إسرائيل تماماً. بمعنى آخر، فإن مسار الحرب يسمح للحرس الثوري وحلفائه المتشددين داخل النظام بالزعم أن استراتيجيتهم نجحت كما هو مخطط لها. وقد يبدو من السهل دحض هذا الطرح: فالدفاع المتعدد الطبقات قد أجل الهجمات على الأراضي الإيرانية لكنه لم يمنعها، لكن بالنسبة إلى طهران، فإن هذا التأخير هو الهدف بحد ذاته: فقد منح النظام وقتاً للاستعداد، والتعلم من تكتيكات إسرائيل، وتصوير الحرب على أنها صراع وطني وجودي.
لذلك من غير المرجح أن تغير إيران سلوكها بصورة كبيرة بعد هذا الهجوم، على رغم أنها ستجري بعض التعديلات لكي تبين الحقائق الجديدة التي ظهرت خلال عام ونصف عام ماضيين. قد يسعى النظام إلى إعادة تشكيل محور المقاومة من خلال إعادة بناء “حزب الله” كقوة صغيرة أكثر رشاقة وأقرب إلى شكله الأصلي، بدلاً من الجيش شبه النظامي الذي أصبح عليه (مع مواصلة تزويده بقدرات صاروخية متطورة). أما في سوريا، فستحاول طهران استغلال الفراغ السياسي الحالي من خلال تمكين جماعات مسلحة محلية، لكن لن يكون أي من هذه الخطوات سهلاً: فـ”حزب الله” يتعرض لضغوط من المسؤولين اللبنانيين ولا يزال يعاني القصف الإسرائيلي، والحكومة السورية الجديدة التي تعزز سيطرتها على أراضيها، معادية لإيران وبدأت في التقرب من إسرائيل. ومع ذلك ترى طهران فرصاً سانحة، فقد أججت الحرب في غزة غضباً واسع النطاق تجاه إسرائيل في جميع أنحاء المنطقة، مما أدى إلى تعاظم المطالبة الشعبية بتجديد المقاومة في وجه عدو الجمهورية الإسلامية، في الواقع كسبت إيران إعجاب عدد من الشعوب العربية بعد صمودها وضرباتها الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية.
من المرجح أن تواصل طهران انتهاج سياسة الغموض النووي
في الوقت نفسه، أصبحت طهران أكثر تشككاً من أي وقت مضى حيال جدوى الدبلوماسية. فقد أدت صدمة الهجمات، بما في ذلك اغتيال كبار قادة الحرس الثوري ومحاولة فاشلة لقتل المفاوض النووي البارز علي شمخاني، إلى تقويض ما تبقى من صدقية الضمانات الأميركية. في السابق، كانت إيران لا تثق في واشنطن، لكنها كانت ترى في المفاوضات فرصة لتخفيف العقوبات وخفض التصعيد. أما الآن فلن يفترض المسؤولون الإيرانيون أن الولايات المتحدة لن تلتزم بأي اتفاق فحسب، بل سيفترضون أيضاً أن المفاوضات غطاء للإكراه أو العمل العسكري، خصوصاً وأن الهجوم الإسرائيلي وقع قبل يومين فقط من محادثات كانت مقررة بين طهران وواشنطن. مع ذلك من المرجح أن تظل إيران منخرطة في الدبلوماسية، جامعة بين أقصى درجات المقاومة للنظام الإقليمي وأقصى درجات الدبلوماسية، في محاولة لتوضيح خطوطها الحمراء والكشف عما تعتبره نفاقاً غربياً. وبهذه الطريقة، تستطيع طهران تسويغ مواقفها أمام جمهورها الداخلي والخارجي، وزيادة الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة.
مع ذلك لا يبدو أن إيران تتجه بسرعة نحو امتلاك السلاح النووي، إذ إن تجاوزها عتبة التحول إلى دولة نووية، سيثبت صحة الاتهامات التي كثيراً ما نفتها طهران، ويخاطر بإشعال صراع أوسع مع القوات الأميركية، كما أن إيران لا ترى في الأسلحة النووية بديلاً عن جيش تقليدي قوي، فهي دولة مترامية الأطراف ذات حدود يسهل اختراقها مع عدد من الدول المجاورة غير المستقرة، وهي متورطة في نزاعات إقليمية متداخلة حول حقول النفط والموارد المائية والحدود البحرية. وهذه التحديات الخارجية تتفاقم بسبب نقاط الضعف الداخلية في إيران، بما في ذلك التوترات العرقية المزمنة على طول المناطق الحدودية. وتاريخ إيران مديد وحافل بالغزوات الأجنبية والتأثيرات الخارجية، لذا ثمة داع يعتد به وراء تمسك قادة إيران عبر الأجيال بالاستثمار بكثافة في بناء جيش تقليدي قوي، بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم.
وبدلاً من الإسراع نحو امتلاك قنبلة نووية، من المرجح أن تواصل طهران انتهاج سياسة الغموض النووي، من خلال تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويمثل هذا الموقف أيضاً وسيلة للضغط على الوكالة لكي تحول في المستقبل دون أية هجمات على إيران، إذ لا يمكن للوكالة استئناف عمليات التفتيش إلا إذا توقف التهديد لمواقع إيران النووية. وتعتقد طهران أن هذا النهج، الذي يخفي أنشطة التخصيب، سيمنحها مرونة أكبر لتطوير برنامجها من دون أن تثير الانتباه. إضافة إلى ذلك، ترى طهران أن تعليق التعاون هو جزاء مستحق للوكالة: إذ يشعر المسؤولون الإيرانيون بالغضب لأن الوكالة لم تدن الهجمات الإسرائيلية والأميركية، على رغم أن إيران طرف في معاهدة حظر الانتشار النووي (وقد هددت بالانسحاب منها)، التي تقر لأعضائها بحق الاستخدام السلمي للطاقة النووية. في الواقع، يعتقد المسؤولون الإيرانيون أن الوكالة زودت إسرائيل والولايات المتحدة بمعلومات استخبارية مفيدة، استغلت لتبرير الهجمات. وكما أشارت طهران، أصدرت الوكالة تقريراً قبل أيام قليلة من الهجوم، ذكرت فيه أن تعاون إيران مع مفتشي الوكالة كان “غير مرض”.
لكن هذا لا يعني أن إيران ستصنع سلاحاً نووياً في النهاية، ويبقى السؤال عما إذا كانت ستحوز طهران على الرادع المطلق [وسيلة الردع القصوى]، ومتى قد يحدث ذلك. لكن ما هو واضح بالفعل هو أن إيران لم تنكسر، ومن غير المرجح أن تعتمد سلوكاً جديداً يختلف عن الماضي. وهذا يعني أن إسرائيل قد تقرر شن ضربة جديدة، ومن الممكن أن ترد إيران بسرعة، فالنزاع بين الطرفين لم ينته بعد ولم يبلغ خواتيمه، وأبواب الاضطرابات مشرعة على الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة.
*محمد آية الله طبار،باحث في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، وأستاذ مساعد للشؤون الدولية في كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمات العامة بجامعة تكساس “إي أند أم”، وزميل في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس، وهو مؤلف كتاب “فن الحكم الديني: السياسة الإسلامية في إيران”.
مترجم من فورين أفيرز، 8 يوليو (تموز)، 2025