عندما كتبتُ مقالي عن حادثة اختطاف الفتاة ميرا، وعن قناعتي أن الحادثة لم تكن اختطافاً، بل فيها اختطافٌ تاريخيٌ لحقوق النساء في خياراتهنّ الحياتية، كان قصدي من ذلك أن نختار نحن كمُدافعات عن حقوق النساء معاركنا بدقة.
بعد ذلك تتابعت حوادث اختطاف النساء والفتيات، وكان الموضوع محصوراً في منطقة الساحل، وبدأ الأمر يتحول إلى ظاهرة اختطاف للنساء من الطائفة العلوية، وكان الموضوع محاطاً دائماً بالصمت والغموض. تختفي المرأة لأيام، ويبدأ أهلها بمناشدة كل من يعرف أي معلومة عنها، أو تظهر في فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لتؤكد أنها ليست مخطوفة بل غادرت بإرادتها، بل إن إحدى المختطفات ظهرت في فيديو يصوره رجل يبدو وكأنه يحقق معها، ويسألها هل أنت مخطوفة، فتجيبه: لا، لقد غادرت بإرادتي.
تمر أيام ثم نسمع أن المخطوفة عادت إلى أهلها، أو أن أخبارها تختفي في زحمة الأخبار المتلاحقة دون أن نعرف مصيرها. وحتى عند عودة المخطوفات إلى أهاليهن، يُغلَّف الموضوع بصمت مطبق من المخطوفة أو عائلتها، وربما ترشح كلمة من هنا أو كلمة من هناك، لكن التفاصيل تبقى غامضة.
ظهر تقرير رويترز مُوثِّقاً 33 عملية خطف لنساء وفتيات تتراوح أعمارهن بين 16 و39 عاماً، وينتمينَ للطائفة العلوية. وكشفت شهادات عائلات الضحايا عن طلبات فدية وتهديدات بالقتل أو الاتجار، ورصدَ التقرير تصاعد القلق في الأوساط العلوية من استهداف مُنظَّم للأهالي في تلك المحافظات. كما كشف التقرير «أن بعض الخاطفين يطلبون فِدى مالية تتراوح بين 1500 وحتى 100 ألف دولار، مشيراً إلى أن أغلب تلك الأموال تتم عن طريق تحويلات مالية إلى مدن تركية مثل إزمير». عاد نحو نصف المختطفات حسب تقرير رويترز حتى حينه بينما ظلَّ مصير الباقيات مجهولاً، ومن عُدنَ رفضنَ، هنّ وعائلاتهن، الإفصاح عن تفاصيل ما حدث لأسباب أمنية كما ذكر التقرير.
لم تأخذ الحكومة تبليغات الأهالي على محمل الجد، وتحققت خشيتي من الأجواء التي صاحبت اختفاء الفتاة ميرا، من أن تكون تلك الحادثة ذريعةً للسلطات بألّا تأخذ تلك الحوادث على محمل الجد، مُتعلِّلة بأن جميع حوادث الاختطاف لم تكن اختطافاً، بل إن الفتيات أو النساء كنَّ هاربات مع عشاقهنّ كما صرَّحَ بذلك أحد المسؤولين، أو أن العائلة تُعلِّلُ هربهنَّ باختطافهنَّ تحاشياً للوصمة المجتمعية.
امتدت حالات الاختطاف بعد ذلك إلى مناطق عدة في سوريا، وآخرها كانت حادثة اختطاف فتاة من سكان منطقة ببيلا في ريف دمشق، اختطفت بعد خروجها يوم الأحد 6 تموز الساعة العاشرة صباحاً، عندما كانت متجهة إلى جامعتها في كلية التربية في البرامكة. عادت المختطفة الأخيرة بعد أن تم تسليمها لأهلها في مخفر للشرطة في دمشق، ولا أستغرب صمت الأهل عن تفاصيل اختطافها أو إطلاق سراحها، حماية لها وحرصاً على سلامتها وسلامتهم شأنهم في ذلك شأن الأهل في حالات الاختطاف الأخرى.
الأمر الذي يجب أن نتوقف عنده هو كيف وصلت الفتاة إلى مخفر الشرطة؟ وما مدى معرفة الجهات الأمنية بتفاصيل اختطافها؟ كيف يمكن تبرير وجودها في مخفر للشرطة دون أن تكون الحكومة على علم بمكان اختطافها أو هوية الخاطفين؟ ما تفاصيل تحرير الفتاة من أيدي خاطفيها؟ ومن هي الجهة التي تختطف؟ هل هي عصابات منظمة؟ هل السبب هو الانفلات الأمني؟
كيف يمكن تفسير حوادث الاختطاف ومن وراءها، في ظل الغموض الذي يلف الحادثة الأخيرة والحوادث السابقة؟ هنالك عدة تفسيرات لذلك: الأول أن هنالك عصابات إجرامية تقوم بهذا الفعل، طمعاً في المال، وأن الأجهزة الأمنية تلاحق هذه العصابات وتتمكن أو لا تتمكن من إعادة المخطوفات، وفي هذه الحال لماذا تتكتم الحكومة على الموضوع، ولا تُعلن للمواطنين القبض على المتورطين لطمأنة الناس على سلامة بناتهم؟ التفسير الثاني هو أن من يقوم بذلك جماعات مسلحة متشددة ترغب في ترهيب المجتمع، وهنا يبرز السؤال ملحاً؛ ما مدى قدرة الحكومة على ضبط هذه الجماعات؟ والتفسير الثالث هو تورُّط عناصر من الأمن في الموضوع، لذلك تتستر الحكومة على التفاصيل.
في كل الحالات، تتطلب سلامة النساء والفتيات شفافية من الحكومة تُعلن فيها مَن يقف وراء حالات الاختطاف هذه؛ فإذا كانت عصابات منظمة، هل تُحقق الحكومة في ذلك؟ ولماذا لا تنشر نتائج التحقيقات؟ قد يقول أحدهم إن ذلك ضروري لضمان سير التحقيقات، ولكن ماذا عن حوادث الخطف التي مضى عليها أشهر، اختفت الفتيات فيها اختفاءً تاماً ولم يَعُدنَ إلى منازلهنّ؟ وإن كانت جماعات مسلحة متشددة، فهل الحكومة بصدد ضبطها وضبط أفعالها الإجرامية؟ وإن كان هنالك عناصر أمن متورطون بالتستر على هذه الجرائم فلتُظهِر لنا الحكومة أنها بصدد محاسبتهم
ندرك أننا في فترة انتقالية صعبة وحساسة، استلمت فيها الحكومة الحالية بلداً مدمراً، حُكِمَ من قبل نظام قام على الإجرام والفوضى وهشاشة المؤسسات وغياب القانون، لكننا ما زلنا نأمل أن يعود بلدنا إلى وضع طبيعي، بلداً محكوماً بسيادة القانون لا بالهمجية وشريعة الغاب.
نحن بانتظار أي تصريح من الحكومة يُظهِرُ لنا أنها تأخذ الموضوع على محمل الجد، وأنها تعتبر النساء المختفيات «مخطوفات» ولسنَ «مفقودات»، وأن سلامتهنّ مسؤولية وواجب السلطات الحاكمة بالدرجة الأولى، أو لتعترف أنها غير قادرة على ضبط الأمن في البلد، وعندها سنعرف أن كل التضحيات التي بذلها الشعب تحت حكم النظام الأسدي المجرم ذهبت أدراج الرياح.
البلد يحترق، والحريق لا يشمل غاباته فقط، بل سلامة نسائه وفتياته، ولن نسكت على تساهل الحكومة في حمايتهنّ.
مقالات مشابهة