ما إن غادر المبعوث الأميركي توم برّاك دمشق حتى اندلعت المعارك في السويداء بين قوات الجيش السوريّ والفصائل الدرزيّة. خلال ساعات سقط عشرات القتلى والجرحى. ربّما يُكتب فصل جديد من تاريخ سوريا، بينما نكتب هذه السطور. ليس واضحاً ما سيكون عنوانه: تقدّم سوريا نحو الاستقرار أم انزلاقها من جديد إلى حروب داخليّة؟!
أحداث السويداء لها أبعاد تاريخيّة بين البدو والدروز تعود إلى مرحلة النظام السابق وإلى بدايات الثورة. فالبدو سُنّة يقيمون منذ عقود في محافظة السويداء، وهم غالبيّة في محافظة درعا التي اندلعت منها شرارة الثورة السوريّة في 2011. يروي أحد قيادات المجلس الوطنيّ السوريّ أنّ الزعيم الدرزيّ وليد جنبلاط، أثناء زيارته إسطنبول (2012)، التقى أعضاء المجلس الناشئ حديثاً في تلك الفترة وطلب الانتباه إلى الحساسيّة بين البدو والدروز وعدم الانجرار إلى التصادم مع الدروز الذين كانوا متردّدين في الانضمام إلى الثورة.
بغضّ النظر عن الحساسيّة بين المكوّنين في المجتمع السوريّ، يبدو أنّ قراراً متّخذاً في دمشق ببسط سيطرة الدولة الجديدة على الجنوب. وهو قرار له أبعاد جيوسياسيّة داخليّة وخارجيّة.
ما إن غادر المبعوث الأميركي توم برّاك دمشق حتى اندلعت المعارك في السويداء بين قوات الجيش السوريّ والفصائل الدرزيّة
الاستفادة من الدّعم الخارجيّ
منذ إعلان الرئيس دونالد ترامب قرار رفع العقوبات عن سوريا أصبح واضحاً أنّ النظام الجديد يحظى بدعم واشنطن، إضافة إلى دعم عاصمتين إقليميّتين كبيرتين: الرياض وأنقرة، وهما حليفتان للولايات المتّحدة الأميركيّة. أكّد هذا الدعم وحدة سوريا ورفض أيّ محاولات للتقسيم أو إقامة كيانات شبه مستقلّة تحت مسمّى الفدراليّة أو اللامركزيّة.
خلال زيارته الأخيرة لدمشق، أظهر المبعوث الأميركيّ إلى سوريا توم بارّاك دعماً كبيراً لنظام الشرع. وهذا ما ظهر بالضغوط التي مارسها على مظلوم عبدي، قائد قوّات سوريا الديمقراطيّة. وعاد المبعوث الأميركيّ وأظهر هذا الدعم في حديثه من واشنطن وتأكيده لوحدة سوريا ورفض محاولات التقسيم وإقامة دويلات كرديّة أو درزيّة أو علويّة. وهي “الألغام” الثلاثة الأساسيّة أمام الشرع لتثبيت سلطته. من هنا قرّر الشرع الاستفادة من الدعم الإقليمي والدوليّ، خاصّة الأميركيّ، لإزالة “اللغم الدرزيّ”. فقرّر الحسم العسكريّ. لماذا؟
انقسام درزيّ!
ما شجّع الشرع على الحسم العسكريّ هو الانقسام الدرزيّ السياسيّ والعسكريّ.
سياسيّاً، ينقسم الدروز بين ثلاثة مشايخ عقل يشكّلون المرجعيّات السياسيّة لهم. الشيخ حكمت الهجري، الأكثر تطرّفاً وتشدّداً تجاه دمشق، يطالب بحماية دوليّة للدروز. شيخا العقل حمود الحنّاوي ويوسف جربوع يؤيّدان التوافق مع دمشق على الرغم من الحذر من النظام الجديد والمآخذ على الإعلان الدستوري والمشاركة السياسيّة في السلطة واحترام الخصوصيّة الدرزيّة.
عسكريّاً، ينقسم الدروز إلى عدّة فصائل عسكريّة. قسم منها يؤيّد طروحات شيخَي العقل حمود الحنّاوي ويوسف جربوع، ويؤيّد الحوار مع دمشق، لكنّه يرفض دخول عناصر من هيئة تحرير الشام إلى السويداء ويوافق على انضمام عناصرها إلى القوى الأمنيّة على أن يتسلّم الضابطة العدليّة في المنطقة. وقسم ثانٍ من الفصائل الدرزيّة يؤيّد مواقف الشيخ حكمت الهجري وله مواقف متشدّدة من دمشق، ويصرّ على حماية ذاتيّة للدروز.
منذ إعلان الرئيس دونالد ترامب قرار رفع العقوبات عن سوريا أصبح واضحاً أنّ النظام الجديد يحظى بدعم واشنطن، إضافة إلى دعم عاصمتين إقليميّتين كبيرتين: الرياض وأنقرة
مفاوضات دمشق – تل أبيب؟
شجّع عاملٌ آخر أحمد الشرع على التعامل عسكريّاً مع المكوّن الدرزيّ هو تقدّم المفاوضات مع إسرائيل حول الترتيبات الأمنيّة التي أعلنها الشرع نفسه خلال زيارته باريس. في اليوم الأوّل للمواجهات جاء “القصف الإسرائيليّ لدبابات النظام صورياً”، كما قال رامي عبد الرحمن مدير المرصد السوريّ لحقوق الإنسان في اتّصال مع “أساس”. بينما استهدفها بشكل مباشر في اليوم التالي وأوقع فيها خسائر وعُرضت الفيديوهات على وسائل الإعلام. على الأثر أعلن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة عن وقف إطلاق للنار في السويداء وخروج قوات الجيش خارج المدينة.
تطوّر الأحداث يؤكّد بأن الشرع قام بخطوة غير محسوبة تماماً في السويداء. وتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأن “تل أبيب لن تسمح بإلحاق الأذى بالدروز في سوريا وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي” يُظهر أن الأسباب خلف إعلان إسرائيل حماية الدروز لا تزال قائمة، وهي:
استراتيجية تحالف الأقلّيات التي يسعى إليها اليهود في إسرائيل وقيام دول صغيرة دينيّة أو طائفيّة أو قوميّة. وهي استراتيجية قديمة قِدم دولة إسرائيل التي تأسّست في 1948.
الدفع باتّجاه تقسيم سوريا وإزالة خطر دولة سوريّة موحّدة على حدودها الشماليّة – الشرقيّة. وفي هذا الإطار يأتي دعم إسرائيل لـ “قسد” في شمال شرق البلاد.
الاستفادة من الواقع الجيوسياسيّ الذي نشأ بعد سقوط نظام الأسد، من خلال احتلال المنطقة الفاصلة بين البلدين وبسط النفوذ العسكريّ على كامل الجنوب السوري، من جهة للضغط على دمشق وجلبها إلى طاولة المفاوضات، ومن جهة ثانية لتكون المفاوضات المقبلة مع دمشق على المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل حديثاً وليس على الجولان الذي أصبح جزءاً من أراضيها منذ 1981.
إرضاء دروز إسرائيل الذين يشكّلون قوّة أساسيّة في جيش الدفاع الإسرائيليّ وتحتاج إليهم إسرائيل في حربها ضدّ “حماس” المستمرّة منذ 18 شهراً.
إقرأ أيضاً: دمشق أمام أزمة “عقد اجتماعيّ”
لا شك أن القرار الأميركي بدعم أحمد الشرع والحفاظ على وحدة سوريا بضغط سعوديّ أدّى إلى تراجع المشروعَ الإسرائيليّ لتقسيم سوريا، وساهم في تعبيد الطريق لمفاوضات سوريّة – إسرائيليّة على ترتيبات أمنيّة جديدة تستبدل اتّفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، ولكن ليس لدرجة أن يبسط الشرع سلطته في الجنوب السوريّ حتى الحدود مع إسرائيل.
التجارب مع الدروز في لبنان وسوريا تؤكّد أنّهم ليسوا لقمة سائغة. والحلّ الأفضل هو بالسياسة كما قال الزعيم وليد جنبلاط الذي أكّد مجدّداً في اتّصال مع “أساس” تأييده الشرع، وبالتالي دعوته الدروز للانضمام الى مشروع الدولة الجديدة في سوريا. والتجارب مع إسرائيل تعلّم بأنه لا يجب الوثوق بتعهّداتها.