الحل البسيط لمجتمع متنوع وتعقيداته مثل سوريا هو نظام ديمقراطي في دولة مواطنة مدنية لا أكثرية ولا حلف أقليات (أ ف ب)
ملخص
الكل يعرف أن مشكلة سوريا لا يحلها نظام مركزي ولا نظام لا مركزي ولا نظام فيدرالي، فالنظام الرئاسي المركزي الشديد جعل سوريا صحراء سياسية بعدما كانت تنبض بالحيوية السياسية أيام النظام الديمقراطي البرلماني.
أميركا لا تلعب مع أي بلد من دون أهداف لها تتعلق ببلدان أخرى، وهذا ليس اختراع الرئيس دونالد ترمب والإدارات السابقة، بل تقليد مكرس لدى الـ “استبلشمنت” أو الدولة العميقة مهما تغيرت الإدارات، وهذا ما يفسر الانفتاح الأميركي على سوريا وإدارتها الجديدة من دون التشدد في لائحة المطالب التي تسلمتها دمشق من موفدي إدارة الرئيس السابق جو بايدن، ثم من موفدي إدارة ترمب مع وضعها تحت المراقبة.
ما يهم واشنطن في دمشق هنا هو ثلاثة أمور من بين 10 أخرى على اللائحة، مرشحة للتغاضي عنها مع تحقيق الأمور الثلاثة، وهي أولاً العداء لطهران ومنع أي نفوذ إيراني وأي خلايا مرتبطة بالحرس الثوري أو “حزب الله” اللبناني، وثانياً وقف العداء مع إسرائيل وبدء التفاوض معها مباشرة وبالواسطة في الجنوب السوري وأذربيجان وعُمان والإمارات، وثالثاً ترتيب الإطار التشريعي والقانوني لضمان الاستثمارات الأجنبية وأولها الأميركية، وهذا ما فعلته بنجاح وسرعة إدارة الرئيس أحمد الشرع.
ذلك أن سوريا هي حتى الآن قصة فشل للنظام السابق في رهان على أن تصبح قصة نجاح للإدارة الجديدة التي وجهت الضربة القاضية خلال ربع الساعة الأخير لنظام متهالك قضى على الدولة قبل القضاء عليه، أما مئات الألوف من الذين تظاهروا في الشوارع وتعرضوا للقمع والعنف والسجن والقتل وقاتلوا النظام بين عامي 2011 و2024، فإنهم لا يزالون خارج المشاركة في بناء سوريا الجديدة، وأما شعار “القضاء على الأقليات” بعد تكفيرها على يد فصائل سلفية جهادية مرتبطة بالإدارة الجديدة أو خارجها، فإنه عملياً قضاء على حق الأكثرية التي لم تكن ولن تكون إلا “وسطية” لا سلفية، وبالتالي على المجتمع السوري المتنوع، فالسلفية الجهادية لا تبني دولة ولا تحافظ على مجتمع ولا تعمل إلا بالقتل والإقصاء.
ولا أحد يعرف مدى الانفتاح والمشاركة الذي يريد أو يستطيع الرئيس أحمد الشرع الذهاب إليه، لكن مرحلة انتقالية لخمسة أعوام زمن طويل، وإمساك المقربين بمفاصل السلطة الأساس مع أقل قدر من الخبرة والعلم هو وصفة لتركيب نظام يشكل الوجه الآخر للنظام المنهار، وترتيب الأولويات بما يعني تأخير المعالجة الضرورية للسوريين اللاجئين في الخارج والنازحين في الداخل، وهم يشكلون نحو نصف الشعب، ليس تسريعاً للنهوض الاقتصادي بمقدار ما هو إبطاء له، فما حدث في تفجير الكنيسة في دمشق ليس صاعقة في سماء صافية وقد سبقته مجازر الساحل والاعتداءات على جرمانا وصحنايا والسويداء، وما يحدث من قتل لأشخاص وعائلات بشكل يومي، ويوضع في باب الحوادث الفردية، هو في الواقع متأثر بمناخ عام لا تزال معالجته مقصرة أو بطيئة أو مجرد بيانات من ورق.
وليس أمراً قليل الدلالات أن يضع ديفيد أوتاواي ومارينا أوتاواي في كتاب “قصة أربعة عوالم في المنطقة العربية” العراق وسوريا ولبنان “في قائمة اللادول”، فما فعلته حرب سوريا عبر سياسة بشار الأسد وسياسة معارضيه في تيار الإسلام السياسي المتشدد هو قتل مفهوم المواطنة لمصلحة الهويات الطائفية، وما لم يتقدم بعد كما يجب هو مفهوم الشراكة الوطنية في إدارة البلد، وحسناً فعلت دمشق بالإعلان “أن المطلوب هو العودة للهوية الوطنية الجامعة والدخول في مشروع الدولة الوطنية السورية الجامعة”.
ماذا خلف ستار اللقاء بين إسرائيل وسوريا في أذربيجان؟
لكن السؤال هو: هل يمكن القول إن السلطة الانتقالية تعمل كل ما تستطيع لحماية الهوية الوطنية الجامعة من دعاة حرب الهويات، وتبني مشروع الدولة الوطنية السورية الجامعة؟
مهما يكن الجواب فإن الحاجة ماسة إلى الانفتاح في الداخل إضافة إلى الانفتاح الخارجي وعلى الخارج، فالانفتاح على الداخل يبدو في سرعة السلحفاة، والانفتاح على الخارج في سرعة الأرنب، شيء من “فورد بودعسة” (سيارة قديمة) وشيء من طائرة نفاثة.
ومن الوهم تجاهل التعقيدات في المسألة الكردية بعد حرب سوريا وقيام “قسد” والإدارة الذاتية بحكم شرق الفرات على مساحة لا تقل عن ثلث مساحة سوريا، فضلاً عن حماية القوات الأميركية للكرد والتحالف معهم ضد “داعش”، وإذا كانت المركزية واللامركزية وحتى الفيدرالية هي العنوان الكبير للخلاف بين الإدارة السورية وتجمع القوى الكردية، فإن سوريا ليست مشكلة بلا حل على طريق القول إن كل مشكلة لا حل لها ليست مشكلة.
والكل يعرف أن مشكلة سوريا لا يحلها نظام مركزي ولا نظام لا مركزي ولا نظام فيدرالي، فالنظام الرئاسي المركزي الشديد جعل سوريا صحراء سياسية بعدما كانت تنبض بالحيوية السياسية أيام النظام الديمقراطي البرلماني، والنظام اللامركزي الرخو يشكل خطورة على بلد ممزق عملياً وفي حاجة إلى توحيد، والنظام الفيدرالي الناجح في أميركا وسويسرا وألمانيا ودول عدة يصعب أن ينجح في سوريا ولبنان، حيث الخلاف على قضايا السياسة الخارجية والدفاعية التي يجب أن تكون في يد المركز.
أما الحل البسيط لمجتمع متنوع وتعقيداته مثل المجتمع في سوريا والمجتمع في لبنان فإنه النظام الديمقراطي في دولة مواطنة مدنية، لا أكثرية ولا حلف أقليات، وقبل أكثر من 2000 عام قال أرسطو في أثينا “إن الدولة هي جماعة مواطنين عاقلين أحرار لا جماعة مؤمنين”، ولا مكان ونجاح لدولة دينية في القرن الـ 21، ولن يصمد اليوم الرهان على ما سماها المحلل الفرنسي جيل كييل “الطبقة الثالثة من السلفية الجهادية”، و”كي نفهم الحياة يجب أن نتطلع إلى الوراء، وكي نحيا يجب التطلع إلى الأمام”، كما يقول الفيلسوف سورين كيركيغارد.