–
تردّد مصطلح “تحالف الأقليات” كثيراً في الفترة الماضية بلسان مسؤولين أو مثقّفين محسوبين على السلطة. في الواقع، ليس تحالف أقلّيات ما نراه من مواقف بعض شرائح المجتمع أو مكوّنات الشعب تجاه بعض الأحداث، إنما تعاطف ونصرة بعضهم بعضاً في وجه ما يرونه ظلماً وتعدّياً على هُويَّتهم الخاصّة.
من السويداء، كتبت الصحافية كريستين ياسين شاهين، وجدّها الشيخ الثمانينيّ الذي ظهر في الفيديو يحلق أحدُ المسلحين شاربه بتشفٍّ وقح: “جدّي استشهد. شيخ طاهر أبيض الذقن عمره ما انمدّت إيدو على حدا… حلقولوا شواربه قبل ما يقتلوه، لأنه ما سلّم بيته. لأنه ناطر يدفن حفيده قبل ما يفلّ”. هذا نموذج من فيديوهات كثيرة فاضت بها فضاءات التواصل الاجتماعي عن العنف الذي يمارس في السويداء، والتشفّي وإذلال الضعيف الأعزل من مقاتل يحمل سلاحاً. قتل، عنف، إذلال بطرائق متنوّعة، مع تأكيد على الكراهية الطائفية، وذلك بتوجيه النعت كما لو أنه شتيمة: “درزي”. شاهدنا أفعالاً مشابهة في مجازر الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي بحقّ المدنيين، والكبار في السنّ: “عوّي ولاك”، أو “نصيري خنزير”. عدا مشاهد الجثث والتنكيل بها، بتصوير منفّذي المجازر أنفسهم. هذه الفيديوهات ليست وليدة اليوم، بل كثيراً ما قامت بها الفصائل والمليشيات الداعمة لنظام الأسد بحقّ الشعب السوري في أثناء المواجهات الدامية خلال سنوات الثورة والحرب.
ليس نظام الأسد وحده، بل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أيضاً، صوّروا عمليات الذبح التي نفّذوها بحقّ من يصنّفونهم “أعداءً”، وشاهدنا أيضاً عناصر من جبهة النصرة، وبعض الفصائل المتطرّفة، ينفّذون أحكام إعدام أو تنكيلاً أو جلداً أو رمياً بالرصاص، في حقّ أفراد. يمكن تصنيف هذه الممارسات بأنها إحدى أدوات الأنظمة الشمولية والمتفرّدة بالسلطة، بحكم القوة، في دعم أجنداتها وآلتها الإعلامية، وإرسال رسائل القوة والهيمنة إلى أتباعها وأعدائها. إن دلّ هذا السلوك على شيء، فهو أن هناك معضلةً مترّسخةً لدى الشعب السوري، ناجمة عن ثقافة تراكمت عبر الزمن، كما الطبقات الرسوبية، هذه الثقافة التي التصقت بالوعيَين الجمعي والفردي هي ما يحتاج إلى تفكيك بالدرجة الأولى.
كتب الصديق عمر قدور منشوراً في صفحته بـ”فيسبوك” سأل فيه، لمقتضيات بحثية، عن أول معتقل في عهد كلّ من الرؤساء الذين حكموا سورية. وأول قتيل تحت التعذيب في عهد كلّ رئيس. والرؤساء الذين عينوا أقاربهم في مناصب. والرؤساء الذين ارتكبوا مجازر. ومتى. والرؤساء الذين تم في عهدهم الاعتداء على الحريات الشخصية أو الجماعية؛ الرؤساء الذين استخدموا الجيش في الداخل. وطلب ممن لديه هذه المعلومات أن يكتب بحثاً مقارناً عن مختلف العهود السورية منذ الاستقلال. ساهم هذا المنشور بشكل كبير في تجميع أفكاري، بينما كنت أتابع مساهمات روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، والفيديوهات التي يشاركونها، وأقرأ المنشورات والآراء، وأتابع الأخبار والصحف، وبعدما لاحظت استخدام الأدوات نفسها، لا فارق بين أمس واليوم، وكأنّ النظام البائد لم يسقط، إنّما ما تغيّر لون النظام ليس أكثر.
حجم الكراهية ومستواها وتجلياتها بالممارسات والسلوك العدائي والانتقامي يفوق التصوّر والاحتمال
عاد سؤال قديم كنت قد أهملته أمام تسارع الأحداث، يحتلّ شاشة وعيي: هل نحن (شعوب هذه المنطقة) مسؤولون عمّا وصلنا إليه، ومسؤولون قبل كلّ شيء عن وصول الأنظمة التي حكمتنا هذه العقود كلّها، لا بل هذه القرون كلّها، أنظمة الاستبداد والقمع، إلى الحكم، أم أن هذه الأنظمة الشمولية المتسلّطة هي التي أوصلتنا، شعباً وجماعاتٍ، إلى ما نحن عليه من الاستنقاع والعيش في الماضي ووفق نزعاته؟… ليس نظام الأسد وحده، بكلّ جرائمه وشموليّته وقمعه، الذي أوصل الشعب إلى هذا المستوى من كراهية بعضه تجاه بعض، أو إلى تفضيل الانتماء الديني أو القومي أو العرقي على الانتماء إلى الوطن، بل هناك إرث طويل من التبعية للعقائد والفِكَر والشخصيات التاريخية التي رفعتها الجماعات إلى مراتب القدسية، ونصّبتها أصناماً في بالها.
حجم الكراهية ومستواها وتجلياتها بالممارسات والسلوك العدائي والانتقامي يفوق التصوّر والاحتمال، لكن ما يحزّ بالنفس، في الدرجة الأولى، أن ينزلق المثقّفون إلى هذه الحلبة من الصراعات والكيديّات، وأن يروا الواقع بعين أيّ فرد عادي من أبناء هذا الشعب التابع لفِكَر وعقائد لا تصلح في بناء دولة حديثة قادرة على البقاء والنمو، خصوصاً في عصرنا هذا، عصر الحقوق الإنسانية والثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي.
ليست السويداء تجّار مخدرات ومهرّبي كبتاغون، أو مجموعةً بشريةً انفصاليةً تنشد الحماية من دولة كانت (وما زالت) في وجدان الشعب السوري عدواً كبيراً، منذ إعلان تأسيسها في 1948، فحسب، إنها بقعة مباركة من الأرض السورية، ولشعبها تاريخه وحاضره اللذان يدعوان إلى الفخر، من ناحية الانتماء الوطني والوعي السياسي، ومساهمته الفاعلة في ازدهار الحياة الثقافية بكلّ جوانبها في سورية. هذه هي السويداء، وهؤلاء هم السوريون الدروز، ساكني تلك البقعة من الأرض السورية.
تحتاج المكوّنات السورية اعترافاً بهُويَّتها، ومعاملة أفرادها مواطنين متساوين في الحقوق، لا وفق “أقليات وأغلبية”
لو أمعن بعض مثقّفي سورية النظر مدّة أطول، وتمهّلوا قبل أن يطلقوا أحكامَ قيمةٍ أو أحكاماً قطعيةً تجاه بعض مكوّنات الشعب السوري، التي تعرّضت بشكل أساس للتنكيل والاعتداء والتهجير من مناطقها، لرأوا أن ما يحتاج إليه أفراد هذه المكوّنات هو الاعتراف بهويتهم ومشاركتهم في بناء سورية بعد سقوط نظام الطاغية، ومعاملتهم مواطنين متساوين في الحقوق من دون تمييز من الدولة وحكومتها الجديدة، لا أن يكون التداول الرسمي والعام على أساس أقليات وأغلبية، فيطغى مكوّن واحد على باقي المكوّنات، عندها يمكن قبول الرأي بأن القوة يجب أن تكون بيد الدولة فحسب، وأن أيَّ سلاح خارج هذا النطاق مرفوض، وإلا سيبقى السؤال العنيد مشهراً مثل سيف في وجه التضليل: أين الدولة؟ هل بالفعل تشكّلت دولة في سورية بعدما سقط النظام البائد فترك دولةً منهارةً اجتماعياً وهياكلَ ومؤسّسات؟
في الواقع، لم توضع المداميك الأساسية في بناء سورية الحديثة بعد، لذلك نرى الحذر والقلق من المستقبل يخيّم على المكوّنات التي تصنّف أقلية من هذا المنطلق الماضوي، خصوصاً في غياب الموقف الرسمي من تجاوزات وانتهاكات كثيرة ترتكبها بعض الجماعات أو الأشخاص، منهم من هم محسوبون على النظام أيضاً، وهذا ما أشار إليه تقرير “رويترز” عن مجازر الساحل، وكثير من التقارير والتحقيقات حول ما تعانيه هذه الجماعة من تضييق واعتداء، وانتهاك لنسائها. من دون أن يصدر عن الحكومة أيُّ تبرير لتأخّر لجنة التحقيق عن تقديم (أو إعلان) تقريرها، وما نراه يتكرّر اليوم في السويداء، في وقت تجري فيه المفاوضات بين الإدارة السورية وإسرائيل.
وسم شاع في صفحات التواصل الاجتماعي “أنا درزي”، تضامناً مع الإخوة الدروز في محنتهم، وتأييداً لمطالبهم بدولة ديمقراطية حرّة تحفظ حقّ جميع مواطنيها من دون تمييز، وهذا مطلب كثيرين من الشعب السوري، بجميع مكوّناته، الأغلبية والأقلية. بينما كان شعار المظاهرات الداعمة للقوات الحكومية التي دخلت إلى المحافظة من أجل حماية “السلم الأهلي” ينادي بأنهم مع السويداء. هناك فرق في المقصد والحمولة المعنوية للشعارَين، فأن يقول الفرد “أنا درزي”، فهو يعلن بكلّ وضوح أنه مع الإنسان من هذه المجموعة حتى يحصل على حقوقه المطلوبة في المواطنة، أمّا شعار “مع السويداء”، فلا يحمل إلا معنى شمولياً غامضاً، السويداء ليست كياناً جغرافياً فحسب، إنها فضاء إنساني بكل أشكال الإبداع الإنساني.