إلى أين تمضي المنطقة بعد الغارات الإسرائيلية الأعنف على سوريا؟ هل يكفي الغضب التركي وتلويح أنقرة بالعواقب لردع تل أبيب؟ وهل تنزلق أنقرة إلى مواجهة مباشرة، أم تبقى في حدود التصريحات والتحذيرات؟ ثم كيف سينعكس هذا الصراع على مستقبل سوريا وعلى توازنات الإقليم؟
بعد الغارات الإسرائيلية الأعنف والأخطر على سوريا التي استهدفت قوّات وزارتَي الدفاع والداخلية، وأدّت إلى تدمير مبنى هيئة الأركان في دمشق، في أعقاب التطوّرات المأسويّة في محافظة السويداء، وجّه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تحذيراً غاضباً لتل أبيب بالقول: “لقد نفد صبرنا، هذا كلّ ما سنتحدّث عنه مع إسرائيل، فهي لا تريد السلام”. وطالب الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي ودول المنطقة بإظهار حساسيّة بالغة ووضع حدّ للتصرّفات الإسرائيلية، وإلّا “فمن المؤكّد أنّ عواقب وخيمة ستظهر في المنطقة”، وحذّر من أنّ ذلك سيؤدّي إلى إلقاء “الجميع في النار”. وأعقب الوزير التركي هذا التصريح بلقاء خاصّ مع المبعوث الأميركي إلى سوريا السفير لدى أنقرة توم بارّاك، ناقش فيه “تداعيات العدوان الإسرائيلي على سوريا وضرورة وقفه”.
بعد الغارات الإسرائيلية الأعنف والأخطر على سوريا التي استهدفت قوّات وزارتَي الدفاع والداخلية، وأدّت إلى تدمير مبنى هيئة الأركان في دمشق
عكست هذه التصريحات تحوّلاً في التفكير التركي في شأن مكانة إسرائيل، فبعدما كانت حليفاً، ثمّ منافساً، يُنظر إليها الآن بشكل متزايد على أنّها خصم صريح. ومبعث القلق التركي له ما يبرّره، ذلك أنّ التمادي في الغيّ الإسرائيلي في الإقليم يشير إلى مخاطر جمّة ليست فقط على سوريا بل على مجمل دول المنطقة، لا سيما تركيا أحد أبرز رعاة الحكم الجديد في دمشق. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن كيفيّة تعامل الإدارة التركية مع هذه التهديدات الجدّية؟ هل تكتفي بالتنديد الإعلامي وتصريحات التحذير وسلوك الدروب الدبلوماسية؟ أم تبادر إلى اتّخاذ إجراءات لمواجهة تداعيات التغوّل الإسرائيلي في الشرق الأوسط الذي بلغ ذروته بعد توجيه ضربات قاسية لإيران ومحورها ونفوذها الإقليمي؟
من تبادل الفوائد الاستراتيجيّة إلى التّنافر
حتّى الآن تبادلت كلّ من تركيا وإسرائيل الفوائد الاستراتيجية في الإقليم. حصدت أنقرة إلى حدّ كبير حصيلة العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي قوّض القدرات العسكرية لـ”الحزب” الحليف الأبرز لبشّار الأسد، إذ استغلّت انحسار دوره لتعزيز دعمها لحليفتها “هيئة تحرير الشام” وإطاحة النظام البعثيّ بعد انتظار دام 14 سنة. في المقابل حصدت إسرائيل ثمار التحوّل الكبير في سوريا الذي أسهمت تركيا في صنعه، وتجلّى بإخراج إيران من الساحة السوريّة وإبعاد ألدّ أعدائها عن جبهتها الشمالية وفتح الأجواء السوريّة، الأمر الذي مكّنها من توجيه ضربات مؤلمة في الداخل الإيراني.
لكنّ التقاطع في نقاط لا يحجب التباعد في نقاط أخرى، ذلك أنّ لكلّ من تركيا وإسرائيل رؤى مختلفة لمستقبل سوريا، مدفوعتين بمصالحهما الوطنيّة ومخاوفهما الأمنيّة. في سنوات الأزمة، انتعشت “وحدات حماية الشعب” الكرديّة من حالة الفوضى والاضطراب التي شهدتها سوريا، وشكّلت كياناً شبه مستقّل خاصّاً بها، الأمر الذي اعتبرته أنقرة تهديداً خطيراً لأمنها القومي. يفرض وجود نحو أربعة ملايين لاجئ سوري في تركيا ضغوطاً داخلية متزايدة بفعل تنامي الخطاب المعادي للمهاجرين بين شرائح تركيّة واسعة. لذلك تطمح الإدارة التركيّة إلى تثبيت الحكم الجديد في سوريا والاستقرار فيها والقضاء على النزعات الانفصالية لدى بعض مكوّناتها حتّى لا تتفشّى عدواها في الداخل التركي المكوّن بدوره من فسيفساء إتنيّة، وتحويل سوريا من جار مثير للمشكلات والقلق إلى شريك إقليميّ. وذلك على عكس إسرائيل التي تخشى من إعادة إحياء النظام المركزي في دمشق ومن توسّع دور الحركات الإسلامية أيّاً كان انتماؤها ومهما أظهرت من مرونة في البداية، وتنظر إلى أيّ تحالف طويل الأمد بين سوريا وتركيا مصدرَ تهديد استراتيجيّ لها، وتفضّل سوريا مفكّكة ومنزوعة السلاح وينخرها التفتّت والنزعات الانفصالية، لا سوريا مستقرّة وحيويّة ذات تأثير إقليميّ.
حصدت أنقرة إلى حدّ كبير حصيلة العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي قوّض القدرات العسكرية لـ”الحزب” الحليف الأبرز لبشّار الأسد
يجعل هذا الاختلاف الجوهريّ العلاقة هشّة بين الطرفين، لا سيما مع تمادي إسرائيل في توجيه الضربات تحت الحزام للحكم السوري الجديد وتشجيع الأكراد والدروز على العصيان مستفيدة من حال التعثّر والإرباك وطغيان التطرّف لدى أجنحة وجماعات تشارك في السلطة أو تتغطّى بها. وعلى الرغم من العلاقة الوثيقة التي تجمع الرئيس دونالد ترامب مع كلّ من الرئيس رجب طيّب إردوغان وبنيامين نتنياهو، لم ينجح تدخّله الشخصيّ أو عبر مبعوثيه، الذي تُوّج بقرار رفع العقوبات عن سوريا بوساطة سعودية ودعم تركي، في لجم الانتهاكات الإسرائيلية التي زادت وتيرتها على عكس الأنباء عن سعي إلى تفاهمات أمنيّة سوريّة إسرائيلية، ولا في دمج الأكراد والدروز وسائر الأقليّات في إطار حكومة مركزية سوريّة، ولا في خفض المنسوب العالي للنزاعات الانفصالية.
مخاوف إردوغان والاستفزاز الإسرائيليّ
يدرك إردوغان أنّ انفراط عقد الدولة السوريّة الحاليّة قد يرتدّ وبالاً على الأمن القوميّ التركي، وأنّ نشوء أيّ كيان انفصالي في سوريا من شأنه أن يتسبّب بعدوى قد لا تصيب أكراد سوريا فقط بل أكراد تركيا مجدّداً، وأن يُعيد ملفّ سلاح حزب العمّال الكردستاني إلى المربّع الأوّل. عبّر هو نفسه مراراً عن خشيته من أن تمتدّ النيران المندلعة في المنطقة منذ “طوفان الأقصى” إلى بلاده، واتّهم حليفه القومي دولت بهتشلي إسرائيل بمحاولة “محاصرة الأناضول” وزعزعة استقرار تركيا. وكان هذا التخوّف سبباً رئيساً في إطلاق بهتشلي مبادرته لجعل تركيا خالية من الإرهاب، التي تُوّجت بإعلان حزب العمّال حلّ نفسه والبدء بتسليم أسلحته، وذلك من أجل توحيد الجبهة الداخلية.
في المقابل تنظر أطراف في المؤسّسة الأمنيّة بشكل متزايد إلى النفوذ الإقليمي التركي على أنّه تهديد طويل الأمد “أخطر من إيران”، ذلك أنّ تركيا دولة أطلسيّة قويّة عسكريّاً وتحظى بامتداد ثقافي كبير على امتداد مساحة جغرافيّة شاسعة وأكثر قبولاً في الأوساط السنّية العربية. لذا تواصل تل أبيب إضعاف الدور التركي في جنوب سوريا واستفزاز أنقرة شمالاً بمحاولة الاقتراب من حدودها من خلال أكراد “قسد” لفرض أمر واقع استراتيجيّ جديد.
إقرأ أيضاً: السويداء بين لعنة الجغرافيا وهشاشة الوطنية
لكنّ الرئيس التركي الذي ينطق لغة شعبويّة ويمارس في الوقت نفسه براغماتيّة صرفة، لا يبحث الآن عن صدام في وقت حسّاس وصعب. يعرف أنّ أيّ اشتباك مع إسرائيل ولو كان محدوداً قد يجرّه إلى خلاف شخصي مع ترامب ويثبّت العقوبات الأميركية على بلاده أو يزيدها في ظلّ أزمة اقتصاديّة خانقة، ومن شأنه أيضاً إلغاء برنامج طائرات “إف-35”.
لكن إذا ما أتت الرياح التدميريّة لنتنياهو بعكس ما تشتهي السفن البراغماتيّة لإردوغان، وواصلت استفزاز تركيا في سوريا، فهل تكفي المواقف الشعبوية لردع محدلة العدوان الإسرائيلي المتواصل الذي لا يميّز بين عدوّ أو صديق وبين ممانع أو ممالق؟ ومن يضمن أنّ الصلف والجنون الإسرائيليّ المهووس بشرق أوسط على مقاسه قد يقفان عند حدود في ظلّ رئيس أميركي يظنّ نفسه نصف إله؟