–
في وقت تختصر الناشطة السورية زينة شهلا وزملاؤها، بتفاعلهم الإيجابي مع الأحداث الجارية في السويداء، صفحات كثيرة من الدراسات، والنقاشات الحامية، في محدّدات السلم الأهلي، برفعهم شعارات مثل “وقف إطلاق النار”، “دم السوري على السوري حرام”، “نرفض التدخّلات الإسرائيلية”، فيعاد التركيز على ضرورة العودة إلى الحوار الوطني الجامع، والتلاقي لكسر صمت الهزيمة أمام الفتنة والحرب… في الوقت نفسه، يتصدّر، في الجانب الآخر من هذا الصمت الإيجابي، مشهد آخر لنجوم “الميديا” ونشطائها وهم يتنافسون في تبادل الاتهامات حول مسؤولية كلّ طرف عن الصراعات والحرب الطائفية، ويدفعون نحو “تهويش” يتجاوز حدود سورية، كما يهدّد استقرارها من الداخل.
تتماهى بعض النُّخب الثقافية والإعلامية مع مبدأ “الجمهور عاوز كدا”، متناسية دورها في إنتاج معرفة مسؤولة تساهم في رأب الصدع لا تعميقه
وفيما تستهدف بعض هذه الدعوات المزيد من تفتيت هُويَّة السوريين، يُفاجأ المتابع بالأدوار الجديدة لإعلام بلا هُويَّة، إذ تُقدّم بعض شاشات القنوات التلفزيونية المتنوّعة تغطياتها الأحداث الجارية وفق منطق “السبق الصحافي”، من دون تحرّ أو تدقيق، أو متابعة لما ينفي أو يؤكّد الخبر، بل وتجد في المجادلات والتكهنات والتحريض، والتحريض المضادّ، أدواتٍ جاذبة للمشاهدين، بغضّ النظر عن المهنية أو الاستناد إلى أدلّة واضحة، خصوصاً حين تصدُر هذه السرديات من بعض نجوم “السوشيال ميديا”، الذين يطلقون على أنفسهم صفات مثل “محلّل سياسي” أو “إعلامي”، أو حتى مقرّب من السلطات.
ولا يقتصر الأمر على سيل التخيّلات التي تبثّ، بل يتعدّاه إلى المبالغة والتجرّؤ على الواقع، وبثّ البغضاء، والتلويح بحرب لا هوادة فيها، وأحياناً، تحويل الأمنيات الشخصية إلى “حقائق” يروّجون لها، وكأنها مسارات حتمية، وفق بروشور يدّعون امتلاكه حصراً دون غيرهم، بل إن بعضهم (إعلاميين) لا يجد حرجاً في التبشير بتسوياتٍ وخرائطَ نفوذ جديدة، أو في التهديد بنهايات وشيكة لحكومات وزعامات قائمة، كما لا يتأخّرون في دعم الاقتتال الطائفي والترويج لأسبابه، ودعم مخرجاته، في تخلّ واضح عن مضمون رسالة الإعلام ومبادئ العمل الحيادي.
ولعلّ من المؤسف أن ذلك كلّه يُروَّج تحت مسمّياتٍ مضلِّلة، من قبيل “تحليل الواقع” أو “قراءة الميدان”، بينما في جوهره لا يعدو خطاباً تعبوياً يعيد تدوير الكراهية ويستثمر في انقسامات السوريين، لا لشيء، إلا لزيادة المتابعين أو تلميع موقع سياسي ما، أو طائفي. تعكس هذه الظاهرة الإعلامية التي تنشط غالباً في فترات التوتر أو الانسداد السياسي فشلاً عميقاً في بناء سردية وطنية مشتركة، وتؤكّد غياب أدوات النقد الموضوعي لصالح اجترار خطاب الاصطفاف أو المداهنة، أو الوصولية.
الخطورة في هذا المشهد حالة الجمهور المستسلم والمتلقّي مثل هذه الظواهر، ما جعل بعض النُّخب الثقافية والإعلامية تتماهى مع هذا النمط، على مبدأ “الجمهور عاوز كدا”، متناسية دورها في إنتاج معرفة مسؤولة تساهم في رأب الصدع لا تعميقه، وتبتعد من المحاسبة المهنية لصالح استعراضات فردية، ومزاودات على مواقف الآخرين، ما يترك السوريين العاديين (ممّن دفعوا الثمن الأكبر) بلا منصّات تحترم معاناتهم، وتقدّم لهم وعياً بديلاً من هذه السوق الصاخبة.
يجب أن يتحول دور الإعلام من الترويج الأعمى والتهويل والتخدير إلى التفكيك والتفسير
في مثل هذا السياق، تصبح الحاجة ماسّة إلى إعلام ينحاز للعقل، لا للغرائز، ويطرح الأسئلة الجوهرية، ما السبيل إلى التماسك الوطني؟ وكيف نوقف إعادة إنتاج أسباب الانفجار السوري؟ ومن المستفيد من بقاء الخطاب الطائفي حيّاً؟ وما دور الإعلام في بناء مصالحة لا تتجاهل العدالة والمحاسبة من دون التخلّي عن ثقافة التسامح وبناء الثقة بالمستقبل؟ وهل يمكن للإعلام أن يسلّط الضوء على المشتركات لا الفواصل، وعلى فرص النجاة لا انتقامات الماضي؟
الإعلام السوري (اليوم) أمام اختبار أخلاقي لا يقلّ أهمية عن التحدّيات السياسية: إمّا أن يكون أداة لصناعة المستقبل، أو ظلّاً باهتاً لصراعات ماضٍ لم يعد يحتمل البقاء ولا يصلح لأن يلبس من جديد. فسورية، التي تعيش واحدة من أسوأ أحداثها المجتمعية، هي فعلياً مقبلة على تحوّلات، ليس آخرها سقوط نظام الأسد ومدّ يد الغرب لها وانفتاحها على جوارها الإقليمي، فهذه تحوّلات لا تُبنى على أسماء بعينها، بل على مؤسّساتٍ وشرعياتٍ جديدة، تُنتجها تسويات محلّية هي بأهمية التسويات الدولية المُعقَّدة ذاتها. لهذا، فإن دور الإعلام يجب أن يتحوّل من الترويج الأعمى والتهويل والتخدير، وبالأحرى من التبصير، إلى التفكيك والتفسير، لا من أجل اصطفاف جديد، بل من أجل إنتاج وعي قادرٍ على التعامل مع المستقبل بواقعية ومسؤولية، ويتطلّع إلى سورية تتسع لنا جميعاً بمكوناتنا ومرجعياتنا ولغاتنا كلّها.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News