لم تبدأ أحداث السويداء بخطف تاجر خضار درزيّ عند حاجز نصَبه البدو على طريق دمشق، بل بالحاجز الدبلوماسي- الأمنيّ الذي نصَبته إسرائيل في باكو.
أظهرت المباحثات التي أجراها الوفدان السوري والإسرائيلي في العاصمة الأذربيجانيّة أنّ ما تطلبه إسرائيل أكبر بكثير ممّا يمكن لأيّ حكمٍ في دمشق أن يقدّمه. وقد كان مشهد قصف مبنى رئاسة الأركان السوريّة، ثمّ محيط قصر الشعب، ردّاً مباشراً على ما سمعه الوفد الإسرائيلي هناك.
عرض السوريّون نموذجاً مخفّفاً للسلام مع إسرائيل يتضمّن العودة إلى اتّفاق فصل القوّات عام 1974 وتأجيل الخلاف على الجولان الذي لا سبيل لحلّه، وعقد اتّفاق أمنيّ تضمّن ألّا تكون سوريا مصدر تهديدٍ لأمن عسكريّ.
إلّا أنّ العقيدة الاستراتيجيّة لإسرائيل قفزت إلى مستويات جديدة بعد سحق غزّة وضرب إيران وأذرعها. بات ما تطلبه يتجاوز الصمت عن احتلال الجولان، إلى حدّ الاعتراف الصريح بضمّه إلى إسرائيل، والصمت عن احتلال جبل الشيخ والنقاط التي قضمتها بعد سقوط نظام الأسد، وتحويل جنوب سوريا بأكمله إلى منطقةٍ منزوعةٍ من السلاح الثقيل والمتوسّط.
لم يكن من قبيل المصادفة اندلاع المواجهات بين الدروز والبدو فور عودة الوفدين من باكو. اشتبه الأمر على كثيرين حين تحرّكت قوّات وزارة الدفاع والأمن العامّ السورية باتّجاه السويداء، بأنّ دمشق ربّما تلقّت ضوءاً أخضر أميركيّاً- إسرائيليّاً في منطقة كانت إسرائيل تحظر أيّ تحرّكٍ فيها.
ضغطت واشنطن على إسرائيل للتوصّل إلى اتّفاقٍ لوقف إطلاق النار في سوريا لا تزال بنوده غير واضحة تماماً
بيان الهجري يقلب المشهد
تعزّز هذا الاعتقاد حين صدر بيان مشايخ العقل ووجهاء السويداء صباح 15 تمّوز بالترحيب “بدخول قوّات وزارتَي الداخلية والدفاع لبسط السيطرة على المراكز الأمنيّة والعسكرية وتأمين المحافظة”. لكنّ المشهد انقلب تماماً بعد ساعة واحدة عندما خرج الشيخ حكمت الهجري في بيان مصوّر انقلب فيه على البيان وأعلن الحرب على الحكومة باسم “يا غيرة الدين”.
في اليوم التالي أتى التدخّل الإسرائيلي الكبير بقصف مبنى رئاسة الأركان السوريّة ومحيط قصر الشعب وقوّات الأمن العامّ ووزارة الدفاع المنتشرة في السويداء ومحيطها، فوافقت دمشق خلال دقائق على وقف إطلاق النار وسحب قوّاتها من المنطقة وتسليمها لقوّات الهجري، وخرج الرئيس السوري في كلمة مسجّلة تمّ بثّها في الثالثة فجراً ليعلن أنّه اختار الواقعيّة على الحرب.
تباين أميركيّ – إسرائيليّ؟
أعطت واشنطن في ذلك الحين إشارات واضحة إلى عدم علمها بالهجوم الإسرائيلي وعدم موافقتها عليه، وهذا ما يتّفق إلى حدّ كبير مع الخطّ العامّ للسياسات التي يشرحها المبعوث الأميركي توم بارّاك بإسهاب، لجهةِ دعم واشنطن قيام دولة مركزية قويّة، وعدم مساندة أيّ نزعة استقلاليّة، سواء لدى العلويّين أو الأكراد أو الدروز. وهذا ما يحيل إلى افتراض وجود تباين جدّي بين الاستراتيجيتين الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
في الساعات التالية للقصف الإسرائيلي تسرّب فيديو لشيخ عقل الدروز في إسرائيل موفّق طريف وهو يؤنّب جنرالات الجيش الإسرائيلي ضاغطاً باتّجاه قصف القوّات السورية، وربّما هدفت إسرائيل من التسريب إلى تبرير التدخّل أمام الأميركيّين بشكل خاصّ. غير أنّ العامل الدرزي الداخلي ليس إلّا تفصيلاً بالنسبة لإسرائيل، ولم يكن يوماً ذا ثقلٍ في رسم السياسات.
السعودية وتركيا فلها مصلحة واضحة في استقرار سوريا ووحدتها، ليس فقط لموازنة ثقل إيران، بل لموازنة ثقل إسرائيل المنتشية بمنجزاتها العسكرية في العامين الماضيين
وجدت إسرائيل في الدروز صاعقاً لتفجير الوضع في سوريا برمّته، من منطلق قراءة استراتيجيّة ترى في قيام دولةٍ مركزيّةٍ قويّة تهديداً لأمنها القومي وربّما لسيطرتها على الجولان المستمرّة منذ نصف قرن ونيّف.
لذلك هدفها المعلن في هذه المرحلة هو ضرب الحكم المركزيّ وتفتيت الكيان السوري ورعاية النزعات الانفصالية لدى الأقلّيات. وفي سبيل هذا الهدف توظّف إسرائيل كلّ المسوّغات لضرب حكم الرئيس أحمد الشرع وإظهاره بمظهر الحاكم العاجز عن طمأنة الأقلّيات والإمساك بخيوط الحكم.
التقاء إسرائيليّ – إيرانيّ
المفارقة الكبرى أنّ الرؤية الاستراتيجيّة الإسرائيليّة للملفّ السوريّ تختلف عن الرؤى الأميركية والعربية والتركيّة، لكنّها تلتقي موضوعيّاً مع ما تعمل عليه إيران. ولذلك يظهر هذا الدعم العجيب من جماعة إيران في لبنان للهجري المدعوم من إسرائيل!
أمّا الولايات المتّحدة، فمن الواضح أنّ موقفها مختلف، لكن من الصعب الركون إليه. فاللحظة الأميركية في شرق المتوسّط في 2025 تشبه تماماً اللحظة البريطانية في الخليج العربي عام 1969. حين قرّرت بريطانيا العظمى سحب قوّاتها من المنطقة لتقليص النفقات والتخفيف من الأعباء العسكرية كان لا بدّ من إرساء توازنات جديدة في المنطقة، على الرغم من تحالف الغرب مع شاه إيران محمد رضا بهلوي، الذي كان يطمح إلى ملء الفراغ الاستراتيجيّ وحده.
توازنات ما بعد الوجود الأميركيّ
اليوم، تريد الولايات المتّحدة سحب قوّاتها من المنطقة، وحين تغيب القوّات لا بدّ أن تقوم التوازنات. وفي تقويم توم بارّاك أنّ من غير الممكن موازنة الثقل الإيراني في شرق المتوسّط من دون قيام دولة مركزية قويّة في سوريا.
أمّا السعودية وتركيا فلها مصلحة واضحة في استقرار سوريا ووحدتها، ليس فقط لموازنة ثقل إيران، بل لموازنة ثقل إسرائيل المنتشية بمنجزاتها العسكرية في العامين الماضيين.
، تدرك دمشق أنّ مواجهة التحدّي الإسرائيلي تتطلّب تفاهمات داخلية وبناء الثقة وتنفيس الاحتقانات الطائفية
ضغطت واشنطن على إسرائيل للتوصّل إلى اتّفاقٍ لوقف إطلاق النار في سوريا لا تزال بنوده غير واضحة تماماً، لكنّه في خطوطه العريضة يتضمّن سماحاً مقيّداً بانتشار القوّات السورية في السويداء (يتمسّك الهجري حتّى الآن ببقائها خارج الحدود الإدارية للمحافظة)، وإدخال المساعدات الإنسانية، ونزع السلاح وإدماج الفصائل في الجيش والأمن العامّ. لكنّ التجارب مع إسرائيل في غزّة تثبت أنّ ما توافق عليه على الورق لا يساوي الحبر الذي يُكتب به ما لم تثبّته موازين القوى.
الهجري ورقة إسرائيليّة
من اللافت أنّ هذا الاتّفاق هو بين دمشق وتل أبيب، والهجري ليس طرفاً فيه. وليس أدلّ على ذلك من أنّه كان بعيداً عن أجوائه حين أعلنه توم بارّاك أوّلاً عبر منصّة “إكس”. بهذا المعنى بات الهجري أسير الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا وورقة من أوراقها، ولا يملك الكثير ليقوله في المراسلات الجارية بين العواصم.
إقرأ أيضاً: سوريا بين غارات إسرائيل والانفتاح الأميركيّ
في هذه الأيّام الدقيقة، تتحرّك السعودية مع دول المنطقة لإيجاد شيء من التوازن في وجه العمل الإسرائيلي الصريح لإسقاط الشرع وسوريا. وقد تمّ التعبير عن ذلك في البيان المشترك الذي أصدرته الخارجية السعودية في 17 تمّوز نيابة عن وزراء خارجية الأردن والإمارات والبحرين وتركيا والعراق وعُمان وقطر والكويت ولبنان ومصر.
عند هذا الحدّ، تدرك دمشق أنّ مواجهة التحدّي الإسرائيلي تتطلّب تفاهمات داخلية وبناء الثقة وتنفيس الاحتقانات الطائفية، لئلّا تتحوّل شاحنة التاجر الدرزي إلى بوسطة عين الرمّانة السوريّة.