ساعات فصلت بين قصف إسرائيل لمبنى هيئة الأركان العامّة وحواف القصر الرئاسي في دمشق، وإعلان الولايات المتّحدة اتّفاقاً لوقف إطلاق النار تمّ التوصّل إليه بين إسرائيل وسوريا برعاية الإدارة في واشنطن. بقي هنا السؤال الذي لن نجد له جواباً شافياً بشأن الضوء الأخضر الذي لا شكّ منحته هذه الإدارة “الحنونة” لإسرائيل لضرب رموز سياديّة للدولة الجديدة في سوريا ومقرّ رئيسها، حتّى لو أكّدت واشنطن عبر سفيرتها في مجلس الأمن أنّها لم توافق على هذا “الإثم”.
يقول المنطق إنّ رسالة أوصلتها إسرائيل بعثت بها الولايات المتّحدة إلى حليفها وصديقها في “قصر الشعب”. أفصحت الرسالة عن لغة خشنة وخبيثة لا يستخدمها صديق الرئيس دونالد ترامب ومبعوثه، توم بارّاك، الذي كان تفنّن في إطلاق المواقف المفرطة في دعم حكومة الرئيس أحمد الشرع وتوعّد “المكوّنات” السورية، وراح يلمّح إلى توفّر ظروف ما قال إنّه “عودة” لبنان إلى بلاد الشام.
قد نخطئ في الاجتهاد بشأن أسباب حاجة واشنطن إلى التلويح بما يمكن لإسرائيل أن تذهب إليه، في زمن لم ننسَ فيه قدراتها “الأسطوريّة” على التدمير، حتّى مستوى الإبادة، في قطاع غزّة، وكفايتها في تدمير مربّعات أمنيّة للإطاحة بقيادات “الحزب” والقضاء على زعيمه، انتهاء بخوضها حرب الـ12 يوماً غير المسبوقة ضدّ إيران، ودائماً بعد نيل الضوء الأخضر من واشنطن. لكن ما لن نخطئ به هو أنّ إسرائيل تقوم في سوريا، كما في المنطقة عامة، منذ عقود بـ”الأعمال القذرة” التي استحقت شكر المستشار الألماني فريدريتش ميرتس في حزيران الماضي لأنّها تفعل ذلك “نيابة عنا” حسب تصريحه.
ما لن نخطئ به هو أنّ إسرائيل تقوم في سوريا، كما في المنطقة عامة، منذ عقود بـ”الأعمال القذرة”
الحبل السُّرّيّ
من دون الوقوع السهل في نظريّات المؤامرة، أخرجت عمليّة “طوفان الأقصى” إلى العلن وقاحة كانت مشوّشة تتعلّق بذلك الحبل السُّرّي الذي ربط فكرة “الغرب” على تعدّد نسخها مع وجوديّة فكرة إسرائيل في المنطقة. صحيح أنّ عتاة منظّري القوميّة العربية ورواة “المسألة الفلسطينية” لم يوفّروا جهداً في تقديم إسرائيل بصفتها رأس جسر غربيّ في قلب “الأمّة”، غير أنّ تلك النظريّة، على صحّتها وما تستحقّه من جدل ونقاش، غرقت في قالب أيديولوجيّ كسول لم يقبل تحديثاً ولا تطوّراً.
إسرائيل
قد يسهل القول إنّ إسرائيل تنفّذ “المؤامرة الغربية” ضدّ منطقتنا من دون أيّ توصيف موضوعي علميّ دقيق لتلك المؤامرة، التي ما برحت تتحوّل كفيروس لا نهاية له. ومن تلك المؤامرات أنّ ذلك الغرب يكره وحدة العرب، فيما أكّدت نظريّات مضادّة أنّ فكرة القوميّة العربية نفسها هي مؤامرة الغرب وعمل منظّروها لمصلحته. وفيما ظهر الغرب حاضناً للإسلام السياسي ضدّ “اليسار الدولي” وحواضنه في بكين أو موسكو في مناخات “الحرب الباردة”، فإنّ مؤامرة هذا الغرب، وفق تخمينات منظّري “المؤامرة” في المنطقة، أتت بعبدالناصر في مصر وروح الله الخميني في إيران وصدّام ومعمّر وحافظ… واللائحة تطول.
ربّما الأجدى أن لا نستهلك كثيراً من الطاقة لفهم العالم ومؤامراته. الأمر متاهة نحن داخلها وليست بالضرورة تستهدفنا بل تقتات من خدماتنا. والأجدى أن نقرأ العالم جيّداً من خلال اليقين أنّ الظاهرة الإسرائيلية، حتّى في جدلها الأيديولوجي الديني والسياسي الذاتي المتطوّر، هي واجهة لحضارة لها جذورها وامتداداتها وأدواتها وكان وعد صاموئيل هنتنغتون بعدائها لحضارتنا، وفق مقاله الشهير “صدام الحضارات” عام 1993 (تحوّل إلى كتاب ضخم عام 1996).
تقوم إسرائيل بأقذر الأعمال بتمويل وتسليح ودعم لا يكلّ من قبل ذلك الغرب بقيادة الولايات المتّحدة
مصالح متداخلة معقّدة
تقوم إسرائيل بأقذر الأعمال بتمويل وتسليح ودعم لا يكلّ من قبل ذلك الغرب بقيادة الولايات المتّحدة. وفيما يُرسم عالم اليوم وحركة صراعاته الحديثة، خصوصاً تلك المندلعة بين الولايات المتّحدة والصين، بناء على مصالح متداخلة معقّدة، فإنّ في ما تقترفه إسرائيل من كبائر ما لا يحيد قيد أنملة عن حسابات أولئك الكبار وما يخطَّط له في عواصمهم.
تكفي مراقبة تلك الحساسيّة التي تقيس بها دول كبرى مثل روسيا والصين والهند ودول أخرى علاقاتها بالمنطقة عندنا من خلال معايير العلاقة مع إسرائيل وديمومتها وأهمّيتها وحتّى نهائيّتها في الإطار الاستراتيجيّ.
يسهل هنا استنتاج أنّ تلك “الأعمال القذرة” لا تجري أبداً بشكل انفعالي أو ثأري دائماً كما قد يخيّل لنا، بل إنّها تنفّذ في مواقيت وإيقاعات لا تخرج عن خريطة تتنافس داخلها “الممرّات” الاستراتيجيّة. والظاهر أنّ تلك القذارات التي أوحت للرئيس الأميركي دونالد ترامب بتحويل غزّة إلى “ريفييرا” الشرق الأوسط، لم تستفزّ خصوم واشنطن الكبار. فلطالما كانت محسوبة بدقّة من قبل من ينفّذ تلك القذارات التي تحظى بتشجيع الرئيس في واشنطن وبامتنان المستشار في برلين وتبرّم منضبط في أوروبا وبضجيج يقترب من الصمت في موسكو وبرلين.
إقرأ أيضاً: السويداء: “سوء تفاهم” يفضح ورش الممرّات
نفّذت إسرائيل وجبة من “الأعمال القذرة” ضدّ دمشق وسوريا ودولتها الجديدة. تركت تلك القذارات ندوباً داخل الجسم الوطنيّ السوري وزرعت بذور شقاق وشكوكاً وفتنة قد يصعب طيّ صفحتها بسهولة. زعمت واشنطن العمل على إزالة آثار القذارة ورشّ عطور تخفي روائح الخطيئة. سرّبت لـ “أكسيوس” أنّ “صبر ترامب يوشك أن ينفد تجاه نتنياهو الذي بات خارج السيطرة”. أعادت مبعوثها توم بارّاك مرّة أخرى ليحصد في ورشة جديدة ثمار بذور تدفع سوريا ومكوّناتها أثمانها، تماماً كما تدفعها غزّة وغيرها في زمن إسرائيليّ يصفّق له مستشار برلين تمهيداً لتكليف إسرائيل بمهمّات جديدة.