تثير أحداث السويداء أسئلة كثيرة. صحيح أنّ التدخّل الإسرائيلي كان الأبرز في المشهد، لكنّ في المشهد أيضاً قضايا كثيرة أخرى، ومنها العلائق بين الدروز والبدو، والعشائر في سورية والأردن وإسرائيل، وقبل ذلك وبعده الخراب الذي أحدثه النظام السابق في العقول والنفوس.
مسؤوليّة السلطات الجديدة كبيرة في الحصول على ثقة الناس بدوافع السلم وإعادة الإعمار. اتّسم وليد جنبلاط بالشجاعة والحكمة في التعامل مع الأزمة، الأمر المطلوب من العقلاء المتبصّرين في سورية ولبنان.
لا يكاد أحدٌ يتذكّر أنّ أحداث الربيع العربي (2011) اشتعلت بسورية بعد تونس ومصر بأشهرٍ قليلة. وهي بشكلٍ موجز تمثّلت بعاملين:
1- خروج الفئات الوسطى في المجتمع السوري على نظام الاستبداد والطغيان.
2- الثوران الفوضويّ الكاسح لفقراء الريف السوري الشاسع.
ثمّ استجدّت عوامل أخرى فرعيّة مثل المشكلة الكرديّة، والقمع الأسطوري، وتدخّل إيران وميليشياتها، ومنها “الحزب” والشراذم المذهبية العراقية والباكستانية والأفغانية، والتطرّف الداعشيّ، فالتدخّل الروسي والأميركي والتركي… والإسرائيلي.
أظنّ أنّ الأمر كان في خريف عام 2012 حين أُتيح لي في جلسةٍ عامّة مع وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل، حضرها أيضاً شقيقه الأمير تركي الفيصل، سماع رأي الأمير سعود: كنّا نعدّ المجتمع السوري ضمن المجتمعات العربية الأكثر تماسكاً، فإذا هو لا يختلف عن المجتمع اللبناني المجاور، وإنّما الفرق الأوّل أنّ المجتمع اللبناني ينقسم عندما يتعرّض لضغوط خارجية، بينما ما يتعرّض له المجتمع السوري آتٍ في معظمه من الداخل بسبب الضغوط الهائلة للنظام السياسي السائد طوال عقود. والفرق الآخر أنّ الشعب السوري أكثر تنوّعاً بفئاته الشعبية العرقية والدينية والجهوية ممّا كنّا نعتقد، وهو يشبه في ذلك المجتمع العراقي.
لا أحد يقبل الظلم، والأكثرية في سورية كانت الأكثر معاناةً من نظام الأسدين، الذي شرذم الشعب السوري
هدوء مع الحدود الإسرائيليّة
ما تعرّضت الطائفة الدرزية في سورية لضغوطٍ شديدةٍ في سنوات الثوران الأولى على بشّار الأسد، وذلك لحرص النظام الأسديّ من جهة ووجهاء الطائفة من جهةٍ ثانية على التزام نوعٍ من الهدوء والانضباط على مقربةٍ من الحدود مع إسرائيل بعد احتلال الجولان عام 1967 وعدم تغيّر وضعه في حرب عام 1973.
إنّما في السنوات الثلاث الأخيرة من عمر النظام المتصدّع تحت وطأة القمع والتدخّلين الإسرائيلي والإيراني في الجنوب السوري بين الأردن وإسرائيل، ظهرت ميولٌ لدى الفئات الشابّة في السويداء لنوعٍ من التفرّد تجنّباً لفوضى الجنوب السوري، وبسبب ازدياد سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. لكن ظلّت مؤسّسات النظام الخدميّة والأمنيّة والشرطيّة موجودةً في الحدّ الأدنى، حتّى فرع حزب البعث.
يتحدّث الجميع الآن عن الاضطراب الدائم بين الدروز والبدو في الجوار من الناحية التاريخية. والبدو وإن كانوا من أصولٍ عربيّة لكنّهم أقلّ استقراراً من العشائر والقبائل الأخرى في سورية والأردن والسعودية التي صارت دولاً.
السويداء
البدو في الغالب في بعض نواحي سورية والأردن من قاطني الخيام، ويعتمد نظام حياتهم على تربية المواشي والتنقّل بحسب أحوال الطقس والأمطار وتوافُر المراعي. ومعروفٌ من الناحية التاريخية الاضطراب شبه الدائم بين البدو والفلاحين، والدروز بمعظمهم فلّاحون في الأصل، ثمّ كبرت القرى فصارت بلداتٍ ومدناً، أهمّها السويداء بالطبع. وازداد التواصل مع المحافظات القريبة وصولاً إلى دمشق القريبة، ومع الأردن قديماً ومع قيام الدول الوطنية.
الزعيم وليد جنبلاط الذي صادقَ النظام الجديد، كان يفكّر بعظمة ما حدث بسقوط نظام الأسد وما فيه من مصالح كبرى لسورية ولبنان
الدّروز والثّورات
شاركت الطائفة الدرزية في الأحداث الوطنية ليس في ثورة سلطان باشا الأطرش على الفرنسيين عام 1925 فقط التي انطلقت من جبل الدروز، بل وفي التمرّد على عهد أديب الشيشكلي عام 1954. وكان لهم تمثيل ملحوظ في الحكومات وحتّى في الانقلابات (عام 1963 مثلاً)، ولآل أرسلان والأطرش وشقير إسهامٌ بارز في الحياة الوطنية والعسكرية بسورية، وهذا دليلٌ إضافي على التماسك بين الجماعات والمجتمعات الدرزية في سورية ولبنان والأردن وفلسطين، كما هو الشأن لدى الأقلّيات، وبالذات في أزمنة الاضطراب.
في الاضطرابات الأخيرة التي تخلّلتها مذابح مفزعة بدأ الأمر بظاهرتين: التدخّل والتداخل الإسرائيليَّين من جهة، والتجاوزات البدويّة على القرى الدرزيّة في عقد القحط وندرة المراعي في سنوات الجفاف الأخيرة، من جهة أخرى. ولا ينبغي أن ننسى أيضاً التجاوزات على أقلّيةٍ درزيّةٍ بنواحي إدلب في سنوات الثوران، وهي أحداثٌ تدخّل فيها الزعيم وليد جنبلاط أيضاً، شأنه في التدخّل الإصلاحي الحكيم اليوم. ولذلك ما كان الدروز مطمئنّين إلى العهد الجديد، وبخاصّةٍ أنّ أصله تنظيم أصوليّ معروف.
بخلاف الولايات المتّحدة، ما سلّمت إسرائيل بالنظام السوري الجديد. وما كان ذلك منتظراً لأنّ إسرائيل كانت تتدخّل في سورية بحجّة مكافحة التسلّل الإيراني باتّجاه الجولان المحتلّ، وهو الأمر الذي زال مع صعود النظام الجديد الذي أزال الإيرانيين وميليشياتهم من سورية. تدخّل الإسرائيليون بكثافة في سورية أيّام الشرع متجاوزين اتّفاقات عام 1974، ثمّ ضربوا أخيراً هيئة الأركان ووزارة الدفاع بدمشق لمنع إمكان قيام جيش سوري من جديد.
تفاقمت الإشكاليّات عندما قرّر النظام الجديد دخول السويداء بقوى جيشه الجديد. ويقول النظام إنّه قرّر ذلك للحيلولة دون تفاقم الاشتباك
فشل المفاوضات
أمّا تدخّلهم في السويداء ومحيطها فجاء، كما قالوا، لنجدة دروز الجبل استناداً إلى إلحاح الدروز بإسرائيل على إغاثة إخوانهم. أمّا هذه القسوة المشهودة فيُقال إنّ سببها فشل المفاوضات التي جرت بينهم وبين مسؤولين سوريّين بأذربيجان.
تفاقمت الإشكاليّات عندما قرّر النظام الجديد دخول السويداء بقوى جيشه الجديد. ويقول النظام إنّه قرّر ذلك للحيلولة دون تفاقم الاشتباك بين البدو والسويداء وقراها. ويبدو أنّ الأميركيّين ما كانوا ضدّ التدخّل بهذه الحدود. ويقال إنّ الأردنيّين وعرباً آخرين يؤيّدون النظام الجديد نصحوا بعدم التدخّل إلى حين انجلاء المشكلة مع الأكراد في محاولات النظام لإعادة توحيد سورية.
التدخّل الإسرائيلي حتّى في السويداء كان حاصلاً، لكنّ دخول قوّات النظام أعطاهم حجّةً جديدةً وظاهرة، وبخاصّةٍ أنّه بعد يومٍ واحدٍ تصاعدت الصرخات بأنّ قوى النظام لا تقف بين البدو والدروز بل تقاتل مسلَّحي الدروز، لا سيما كما يقال أنّ بعض مسلَّحي البدو دخلوا معها! ما كان أصدقاء إسرائيل ودروزها كثيرين ضمن دروز السويداء وقراها. بل وفي الجانب المحتلّ من الجولان أكثر من نصف الدروز ما قبلوا الجنسيّة الإسرائيلية.
شروط نجاح الاتّفاق
لقد توقّفت الاشتباكات الآن وجرى توقيع اتّفاق بين السلطة والفريق الذي يقوده الشيخ يوسف الجربوع. لكنّ فريقاً كبيراً من دروز الجبل والجولان ولبنان صاروا الآن ضدّ النظام، الذي كان الزعيم وليد جنبلاط أوّل زوّاره من لبنان بعد الاستيلاء على دمشق وهروب الأسد.
هل ينجح الاتّفاق أو يستمرّ؟ هذا وقفٌ ليس على العرب وأميركا الذين تضامنوا جميعاً مع النظام، بل هو وقفٌ أيضاً على استعادة الثقة بين الطرفين. ومن شروط نجاحه إبعاد البدو عن قرى السويداء، وشجاعة “شيوخ العقل” في التصدّي للاختراق الإسرائيلي.
الزعيم وليد جنبلاط الذي صادقَ النظام الجديد، كان يفكّر بعظمة ما حدث بسقوط نظام الأسد وما فيه من مصالح كبرى لسورية ولبنان ومنطقة بلاد الشام كلّها. والأمل الآن وفي المستقبل أن تقترن شجاعة شيوخ الطائفة بالحكمة والبصيرة، اللتين يتمتّع بهما الزعيم الجنبلاطيّ وبنو معروف بل بنو المعروف.
كلّ الناس يبصرون، وأمّا بصيرة السلم والنظر في المآلات فلا تتمتّع بها غير قلّةٍ من الناس. نحن في لبنان ينبغي أن نكون أعرف الناس بذلك بسبب تجاربنا الزاخرة.
لا أحد يقبل الظلم، والأكثرية في سورية كانت الأكثر معاناةً من نظام الأسدين، الذي شرذم الشعب السوري، وجعل الجميع أقليّات وأكثريّة يبحثون عن الحماية. ليس الحكم مسألة أكثريّة أو أقليّة بل قوامه التأهّل والكفاية والصبر، وهي سماتٌ ما كانت متوافرةً طوال عقود لدى الأنظمة في سورية ولبنان والعراق. شجاعة المبادرة وحكمة السلم خصلتان من فضائل أفلاطون الأربع.
إقرأ أيضاً: سوريا ودورها اللّبنانيّ: برودة سنّيّة وذعر أقلّويّ (2-2)
إنّ تداعيات الدمار الذي أحدثه نظام بشار في العمران وأكثر في العقول والنفوس تتجلّى وستتجلّى قبل أن تقوى أذرع النظام الجديد. ومن ذلك الدمار خوف كلّ فئةٍ من الأخرى، والخوف الناجم عن القتل والتجويع والهلاك في السجون والمقابر الجماعية. وهي الأمور التي على النظام مكافحتها للخروج منها. وأوّل ما يجب تجنّبه القتل ثمّ القتل ثمّ القتل.