لم تكن يوماً بين مناطق نفوذ الدروز وتلك التي توجد فيها عشائر البدو حدودٌ واضحة. تداخلت المناطق بعضها ببعض بعدما ترك البدو الترحال في الصحاري وباتت لديهم رغبة مستجدّة في الاستقرار، فنشأت منازعات وتفاقمت المشاكل بين الطرفين.
تعود جذور الخلافات التاريخية إلى النزاع على ملكيّة الأراضي والزراعة والريّ والرعي وتربية المواشي وتجارة الخيول وصولاً لعلاقات المصاهرة والزواج. لكنّ أنظمة الحكم المتعاقبة زادت الشرخ بفعل عدم سنّ قوانين واضحة وصالحة وعامّة وعادلة لحلّ مسألة ملكيّة الأراضي والعقارات، التي بقيت أحد أهمّ الأسباب في تفاقم النزاع بين الدروز والبدو.
لعبت السلطات المحلّية والمركزيّة في إدارة النزاعات على الأراضي دوراً سلبيّاً على مدار قرون. وما زاد في الطّين بلّة إنشاء كيان ذاتي للدروز خلال الانتداب الفرنسي، واستمرار حكم آل الاسد (الأب والابن) في طمس أسباب النزاع الحقيقية، وقمع أيّ تحرّك بقوّة السلاح وفرض حلول لم تكن عادلة ومنصفة.
مرحلة ما بعد الأسد
بعد سقوط نظام الأسد، وكما حصل في الشمال الشرقي مع المكوّن الكردي، وفي منطقة الساحل مع المكوّن العلويّ، طفت مشاكل الأقلّية الدرزية ونزاعاتها مع البدو والعشائر. لكنّ ما زاد من حدّة هذه الخلافات الأسباب التالية:
– مع شحّ الأمطار وجفاف المراعي وبور الأراضي وتحويل مجاري المياه، ازدادت البطالة ولجأ الأفراد إلى التنظيمات المسلّحة.
– أتاح ضعف السلطة المركزية للميليشيات على أنواعها محاولة فرض سيطرتها بالقوّة.
– زيادة عدد التنظيمات المسلّحة لدى الطرفين، وانقسامها بين مؤيّد للتغيير الحاصل في دمشق وبين رافض له.
– رفض الميليشيات حلّ تنظيماتها وتسليم السلاح إلى السلطة المركزية.
– عدم وضوح خطّة السلطة الجديدة لكيفية التعاطي مع المكوّنات الاجتماعية، لا بل تسرّعها أحياناً واتّخاذ بعض القرارات باعتباطيّة وتسرّع.
أمام الواقع المتفاقم في محافظات الجنوب، تتطلّع الدول المجاورة إلى الحفاظ على مصالحها أو توسيعها باستغلال ما استجدّ من وقائع
الصّورة الإقليميّة
ليست أحداث الجنوب السوري بمعزل عن التحوّلات العميقة التي تعصف بالمشهد السوري العامّ، والتي تلقي بظلّها على السلم الأهليّ والتعايش في بلد غنيّ بالتنوّع الديني والعرقي والاجتماعي والثقافي.
بينما تحاول السلطة المركزية في دمشق بسط نفوذها على كامل التراب السوري تتجدّد تطلّعات المكوّنات المحلّية المطالبة بخصوصيّتها، فظهرت معادلة صعبة استغلّتها جهات خارجية لتؤثّر على محافظة حسّاسة واستراتيجيّة تقع بين إسرائيل والأردن والعراق.
أمام الواقع المتفاقم في محافظات الجنوب، تتطلّع الدول المجاورة إلى الحفاظ على مصالحها أو توسيعها باستغلال ما استجدّ من وقائع.
استغلت إسرائيل سقوط نظام الأسد لضرب قدرات الجيش السوري المركزي، واحتلّت جبل الشيخ الاستراتيجي، وتوسّعت لتحتلّ المنطقة العازلة بحجّة تأمين سكانها وحدودها ومنع التنظيمات من الاقتراب من أراضيها وبناء قدرات وبنى تحتية عسكرية. فيما تتطلّع تل أبيب إلى معاهدة سلام وتطبيع مع دمشق، تجد في تدخّلها لدعم الدروز نافذة للضغط على نظام أحمد الشرع.
صحيح أنّ الرئيس السوري أعلن مراراً أنّ دمشق لا تتطلّع إلى حرب مع إسرائيل، وأمر بالاشتراك في مفاوضات باكو (عاصمة أذربيجان)، غير أنّه لا يستطيع التخلّي عن هضبة الجولان على الرغم من نيّته إجراء اتّفاق مع تل أبيب. في المقابل، تصرّ إسرائيل على الحصول على المزيد من التنازلات فراحت تمارس ضغوطات أكبر على سوريا من خلال “البوّابة الدرزية”. وسواء توصّلت مفاوضات باكو لنتائج ايجابية أم لا، ستستمرّ تل أبيب بالضغط على الحكم في دمشق لنيل المزيد من التنازلات.
الدروز
الأردن معنيّ أيضاً بما يجري على حدوده الشمالية، ويتطلّع إلى تجفيف التهريب البرّي والجوّي بواسطة الدرونز، ووقف نزيف قوّاته الحدودية المستنزَفة على طول الحدود، حتّى إنّ الطائرات الأردنية شنّت غارات على معامل الكبتاغون والمخدّرات واستهدفت أحد زعماء البدو.
لم تكن يوماً بين مناطق نفوذ الدروز وتلك التي توجد فيها عشائر البدو حدودٌ واضحة
توازياً، تحاول إيران زعزعة استقرار الحكم الجديد من خلال دعمها لبقايا الفرقة الرابعة وفلول نظام الأسد وبعض العشائر العربية الموجودة على الحدود مع العراق، واستغلال الفرص لتقويض الاستقرار وللقول لبعض المكوّنات من الأقليّات إنّ حمايتهم من حكم الأغلبيّة تتمّ من خلال حكم الأقليّة للأكثريّة. وشجّعت إيران بعض عشائر البدو، ودفعت بتنظيم “داعش” إلى تفجير مقرّات وكنائس والتعدّي على رموز دينية.
أمام هذه اللوحة تتطلّع كلّ من المملكة العربية السعودية وتركيا إلى مساعدة حكم أحمد الشرع على الاستقرار وتحقيق وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
من جانبها، ضغطت واشنطن على تل أبيب لوقف غاراتها على سوريا، وتطمح الولايات المتّحدة إلى احتضان سوريا الجديدة ومنعها من الوقوع مرّة أخرى بالحضن الروسيّ والإيراني.
دروز لبنان
لدروز لبنان مصلحة عميقة في وقف التعدّيات والمجازر المتبادلة، وفرض وقف إطلاق نار واستتباب الأمن. وهذا التوجّه عبّرت عنه قيادة الدروز المدنية على لسان الزعيم وليد جنبلاط، وعلى لسان القائد الروحي شيخ عقل الدروز في لبنان سامي أبي المنى.
في المقابل، أتى تصريح نشاز من وئام وهّاب ليؤجّج التوجّهات الطائفية البغيضة مع سنّة لبنان، استدركها وليد جنبلاط بالتنسيق مع رئاسة الحكومة وما أعقبها من كلام على لسان نوّاف سلام وأد ما رغب بتأجيجه وهّاب. لكنّ هذا “النشاز” يعكس خلافاً بوجهات النظر بين مشايخ عقل الدروز في السويداء (حكمت الهجري، ويوسف الجربوع، وحمود حناوي). لكلّ مصلحته، ومع تزايد عدد اللاعبين المؤثّرين إقليمياً ودولياً، يرى كلّ منهم فرصة في هذه المرحلة الانتقالية لحجز مكانٍ أو تحقيق مكاسب منها.
ما حدث في السويداء استغلال لمشاكل تراكميّة، والهدف منها واضح بالنسبة لكلّ من اللاعبين
تبقى المرحلة الانتقالية في سوريا دقيقة وخطرة، وأبرز نقاط ضعفها “الأقلّيات” التي يعمد أصحاب أجندات من الداخل والخارج إلى تحريكها والعمل على إقناعها بأنّ ما سينامون عليه في هذه المرحلة سيفيقون عليه في سوريا الجديدة، وإذا كان هدف السلطات الجديدة وحدة سوريا واستقرارها فكلّ من يريد تحقيق مكاسب سياسية من الشرع سيواصل العمل على تهديده بالأقليّات والتقسيم ونسف الاستقرار.
إقرأ أيضاً: في حضرة السّؤال المؤجّل: ما هي سوريا وكيف تكون؟
ما حدث في السويداء استغلال لمشاكل تراكميّة، والهدف منها واضح بالنسبة لكلّ من اللاعبين.