لم يكن بإمكان أشدّ المتفائلين في موسكو توقّع انقلاب الصورة في أوكرانيا والغرب في غضون أقلّ من عام: الهجوم الأوكرانيّ المضادّ فشِل والمساعدات العسكريّة الغربيّة عالقة والخلافات حاضرة داخل كييف نفسها. علاوة على كلّ ذلك، يمكن أن يفوز دونالد ترامب المشكّك في دعم كييف بالانتخابات الرئاسيّة المقبلة.

الأنباء الإيجابيّة لا تتوقّف عند هذا الحدّ بالنسبة إلى الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. تستعيد موسكو زمام المبادرة في بعض المحاور الأوكرانيّة والاقتصاد الروسيّ صمد نسبياً أمام العقوبات والقاعدة الصناعيّة الدفاعيّة في البلاد تستعيد توازنها. لا شكّ في أنّ شهري تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وكانون الأوّل (ديسمبر) الحاليّ هما من أفضل الأشهر التي مرّت على روسيا منذ بداية غزو أوكرانيا، إن لم يكونا الأفضل على الإطلاق. لكن هل هذا يعني أنّ اليد العليا ستكون لروسيا في 2024؟

 

ليس بالضرورة. من أبرز الدروس المستفادة من الحرب الروسية-الأوكرانيّة عدم بناء التوقّعات المستقبليّة على انطباع ومزاج اللحظة الراهنة. كتذكير سريع، قبل 24 شباط (فبراير) 2022، كان الغرب يتوقّع سقوط كييف في أربعة أيام. تبيّن خطأ ذلك. بعد دفع الجيش الروسيّ بعيداً من كييف، ساد تفاؤل غربيّ إلى حدّ ما باقتراب أوكرانيا من الانتصار. مجدّداً كان الغرب مخطئاً مع بدء تقدّم روسيا في الشرق الأوكرانيّ حتى بداية صيف 2022. بعد انتشار التشاؤم بين الحلفاء عقب السيطرة على سيفيرودونيتسك وليسيتشانسك، تمكّنت أوكرانيا من تحقيق انتصار سريع في خاركيف وخيرسون. دعم ذلك انطباعاً عاماً متجدّداً بأنّ سنة 2023 ستكون سهلة نسبياً على الهجوم الأوكرانيّ المضادّ. وهذا ما لم يحدث. إذاً، لا تسلك الحرب تطوّراً خطّياً ذا مسار أحاديّ الوجهة.

الوقت ضيّق… لكن موجود

في مقالة نشرتها ” الأسبوع الماضي، شدّد وزير الخارجيّة الأوكرانيّ دميترو كوليبا على وجود مسار للانتصار بعيداً من واقع أنّ “الجميع يريدون اختراقات سريعة على الطريقة الهوليووديّة” في الحرب. ويشير إلى أنّ الاستراتيجيّة الصحيحة لإعادة أوكرانيا إلى خطّ الانتصار تقوم على الدعم العسكريّ المناسب وتوسيع القاعدة الصناعيّة بسرعة في الولايات المتحدة وأوروبا كما في أوكرانيا. وفي مقارنة سريعة لأجواء الإحباط، لفت النظر إلى أنّ الحلفاء كانوا متشائمين بعد فترة قصيرة من إنزال النورماندي لأنّ تقدّمهم كان بطيئاً آنذاك، قبل أن يتمكّنوا من الفوز في النهاية.

يعتقد كثر أنّ الوقت لم يفت لتحقيق أوكرانيا فوزها على روسيا. لكنّه بالتأكيد يضيق. المشكلة بالنسبة إلى أوكرانيا أنّ الغرب حتى من دون المشكلات الانتخابيّة. وما من مؤشّرات إلى أنّ قسماً من الغرب والولايات المتحدة مستعدّان لتغيير هذه السياسة. صحيحٌ أنّ أوكرانيا ستحصل على بعض الدبابات والمقاتلات الأميركيّة، لكن قلّة من المراقبين تعتقد أنّ هذه الأسلحة ستكون بمثابة للمشكلات الأوكرانية بعد الاستنزاف الكبير الذي تعرّضت له الصيف الماضي. وستكون روسيا مجدّداً أمام فرصة إعادة تعزيز مواقعها في الشتاء المقبل بعدما نجحت في بناء أكبر شبكة من التحصينات منذ الحرب العالميّة الثانية قبل الهجوم الأوكرانيّ المضادّ.

 

على سبيل المثال، تحتاج أوكرانيا إلى الصواريخ الأميركيّة الطويلة المدى (أتاكمس) التي تمكّنها من ضرب الخطوط الخلفيّة للقوّات الروسيّة. بعد طول انتظار، نقلت أميركا هذه الصواريخ  إلى أوكرانيا، بينما لا تزال ألمانيا نرفض  نقل صواريخ “توروس” الشبيهة إلى كييف. وهذه مؤشّرات أوّليّة إلى أنّ الغرب لا يزال يلتزم بـ”خطوط حمراء” فرضتها روسيا، كما فرضها هو على نفسه.

احتمال “انهيار” الجيش الروسيّ

بالرغم من كلّ الأجواء السائدة، لم يستبعد خبير مكافحة التمرّد وأستاذ دراسات الحرب في الكلّية الحربيّة التابعة للجيش الأميركيّ جون نايغل وجود إمكانيّة في أن ينهار الجيش الروسيّ سنة 2024 لو تمّ تقديم كلّ ما تحتاج إليه أوكرانيا. فروسيا تواصل القتال من دون استراتيجيّة ومع خسائر بشريّة كبيرة كما أنّها متمرّسة فقط في الحرب الدفاعيّة وسط مساعدة من الشتاء القارس بحسب رأيه. ويضيف  في مقابلة مع “مجلّة نيويورك” أنّ احتمال حدوث سيناريو انهيار الجيش الروسيّ في 2024 يتراوح ما بين 5 و25 في المئة. لكنّه مع ذلك أشار إلى أنّه بمجرّد عدم الخسارة، تكون روسيا قد كسبت الحرب.

مع تحقيقها بعض التقدّم، تخسر روسيا الكثير من الجنود في أوكرانيا. يقارن البعض اليوم معركة أفديفكا بمعارك باخموت. وأرقام القتلى الروس التي تقدّمها أوكرانيا كبيرة. في بعض الأحيان، خسرت روسيا أكثر من ألف قتيل يومياً على الجبهة، معظمهم حول بلدة أفديفكا (نحو 29 كيلومتراً مربّعاً). صحيح أنّ الموارد البشريّة الروسيّة أكبر ممّا هي لدى أوكرانيا بثلاثة إلى أربعة أمثال، لكنّ موسكو بحاجة إلى موازنة عمليّات التعبئة بما لا يغضب المواطنين الروس أو ينشر مشاهد الهلع كما حصل خلال التعبئة الجزئيّة في أيلول 2022. ومن المستبعد أن تعلن روسيا عن أيّ خطوة مماثلة قبل الانتخابات الرئاسيّة في آذار (مارس) 2024. ربّما يكون الاستيلاء على أفديفكا، إن حصل، جزءاً من الدعاية الانتخابيّة لبوتين، لكنّ كلفته ستكون باهظة. بالمقابل، تبحث أوكرانيا مقترح تعبئة 450 إلى 500 ألف شخص في الجيش، وهو أمر لن يكون سهلاً بحسب الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي نفسه  إلى الحاجة لستة مدنيّين من أجل تمويل كلّ جنديّ.

وليس بعيداً من موضوع الخسائر البشريّة، ذكر تقرير  أميركيّ حديث أنّ روسيا فقدت ما يقرب من 90 في المئة (315 ألفاً) من إجمالي القوات البريّة الروسيّة العاملة (بين قتيل وجريح) قبل شنّ الحرب على أوكرانيا، إلى جانب خسارة ثلثي دبّاباتها. مثّل ذلك انتكاسة للتحديث العسكريّ الروسيّ يساوي 18 عاماً بحسب ما نقلته “رويترز” عن أحد المصادر. وفي حديث إلى “سي ان ان ، قالت الناطقة باسم مجلس الأمن القوميّ أدريان واتسون إنّ روسيا فقدت 13 ألف عنصر في الهجوم على محور أفديفكا وحده منذ انطلاق العمليّة في تشرين الأوّل (أكتوبر). يبيّن كلّ ذلك أنّ قضيّة الخسائر الروسيّة ليست تفصيلاً في كيفيّة مواصلة خوض الحرب السنة المقبلة. بحسب البعض، ربّما يكون ذلك “عقب أخيل” روسيا في ربيع وصيف 2024.

“الرقم السحريّ”

في تقرير صدر الأسبوع الماضي، تعتقد وزارة الدفاع الإستونيّة أنّ كلّ ما على أوكرانيا فعله  هو قتل أو إعطاب نحو 100 ألف جنديّ روسيّ، أو بصورة أدقّ 50 ألف جنديّ كلّ 6 أشهر. الحسابات هي هذه: تستطيع روسيا تدريب 130 ألف جنديّ كلّ ستّة أشهر ودمجهم في وحدات وتشكيلات متجانسة لشنّ عمليّات. كلّما كانت وتيرة التحييد أسرع، تضاءلت إمكانيّة التدريب وبالتالي يتمّ إرسال مقاتلين عديمي الخبرة إلى الميدان ليُقتلوا بوتيرة أسرع ضمن حلقة مفرغة. بحسب التقرير، إذا توفّرت هذه الشروط سيتحقّق الاستنزاف في 2024 لتنطلق المعارك الفعليّة في 2025 ويتحقّق الانتصار “في 2026 على أبعد (تقدير)”، وكلّ ذلك بكلفة 0.25 في المئة من الموازنات الدفاعيّة الغربيّة.

هذا الكلام سهل نظرياً، لأنّه على أوكرانيا أن تحدّ من خسائرها أيضاً. لذلك، يشير التقرير إلى أنّ على الغرب أيضاً أن يطيل فترة تدريب الأوكرانيّين من 5 أسابيع إلى نحو عشرة. ويعتقد الجنرال البريطانيّ السابق ريتشارد بارونز أنّ بإمكان أوكرانيا أن تفوز على المدى الطويل، في 2024 أو 2025. واشترط عدم دفع القوّات الأوكرانيّة إلى المعركة قبل أن يتمّ إعدادها بفعّالية (منتصف 2024) مع قوّة جوّيّة وكاسحات الألغام، كما أن تتقدّم على طريقة “القضم والسيطرة” أي التقدّم بقفزات قصيرة مع البقاء ضمن الغطاء الدفاعيّ الناريّ.

أسئلة عن الرقم

حتى مع افتراض السيناريوهات الأكثر تفاؤلاً ثمّة أسئلة تفرض نفسها. إذا فاز الرئيس الأميركيّ جو بايدن (وحزبه) بانتخابات 2024 الرئاسيّة والتشريعيّة فهل تظلّ شهيّة الولايات المتحدة مفتوحة على مواصلة دعم أوكرانيا حتى سنة 2026، خصوصاً إذا عرض بوتين عقد محادثات بعد أشهر من الانتخابات الأميركيّة؟ وإذا رفضت أوكرانيا المفاوضات، فهل تستطيع أن تصمد لعامين مقبلين وهي تخوض حرباً هجوميّة منهكة مع عودة روسيا إلى الدفاع؟

الآفاق البعيدة المدى غامضة. والصورة في المدى المنظور ليست أوضح بكثير. على سبيل المثال، إن كانت أرقام الخسائر البشرية الروسيّة في محور أفديفكا بحسب التقييم الأميركيّ صحيحة فهذا يعني أنّ روسيا تخسر نحو 6500 جنديّ في الشهر. وهو معدّل على أوكرانيا المحافظة عليه (بل زيادته) طوال الأشهر الستة المقبلة مع افتراض أنّ روسيا ستحتفظ بزخم الهجوم المباشر نفسه وأنّ أوكرانيا لن تضطر إلى تقنين قذائفها ريثما تُحلّ قضيّة عرقلة المساعدات. وفي تشرين الأوّل، ذكر “معهد دراسة الحرب” في واشنطن أنّدوسيا فقدت  ما بين 150 و190 ألف “خسارة دائمة” بسبب الحرب، علماً أنّ الدعم الغربيّ كان في ذروته خلال معظم مراحل تلك الفترة.

يبيّن كلّ ذلك أنّه حتى ولو كان تحييد 100 ألف مقاتل روسيّ في عام واحد كافياً لقلب مسار الحرب لمصلحة أوكرانيا، يظلّ هدفاً صعب المنال إلّا إذا صحّت الأرقام التي يبلغ عنها الأوكرانيون. في تشرين الثاني مثلاً، ذكرت صحيفة كييف ” نقلاً عن شركة “راغنار غودموندسون” لأبحاث الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة أنّ روسيا تكبّدت في الشهر نفسه 25 ألف إصابة بين قتيل وجريح. وبحسب “معهد هَدسون”، احتلّت روسيا مساحة تقرب من 4 أميال مربّعة (10 كيلومترات مربّعة) في محور أفديفكا لكنّها تكبّدت 3 آلاف قتيل مقابل كلّ ميل منها.

لكنّ النجاح في تحييد عشرات الآلاف من المقاتلين الروس في نصف عام قد لا يُترجم مباشرة باستعادة أوكرانيا للمبادرة. في تشرين الثاني أيضاً، اعترف قائد القوات الأوكرانيّة الجنرال فاليري زالوجني بأنّ الأوكرانيّين توقّعوا أن يدفع العدد الهائل من القتلى، 150 ألفاً بحسب تقديره، المسؤولين الروس إلى التراجع عن حربهم وهذا ما لم يحصل. فلدى روسيا قدرة كبيرة على تحمّل عدد هائل من الخسائر. بطبيعة الحال، هي ليست قدرة غير محدودة. قد يكون أحد أهمّ العناوين الميدانيّة في 2024 معرفة ما إذا كانت أوكرانيا قادرة على استنزاف هذه القدرة بشكل لا عودة عنه، إن كانت فعلاً مهتمّة مع حلفائها باتّباع استراتيجيا كهذه.