كان لافتاً زيادة التقارب السعودي مع روسيا والصين بعد الحرب الأوكرانية، التي هي مجابهة أميركية بالوكالة معهما، وقد كانت زيارة الرئيس الصيني للرياض قد قابلتها حميمية سعودية في الاستقبال فاقت ما قد حصل قبل أشهر قليلة لزيارة بايدن لجدة، وفي العام الماضي كان تحالف الرياض وموسكو في (منظمة أوبك- بلس) من أجل الحفاظ على أسعار النفط المرتفعة موضوع هجوم بايدن ومستشاره جاك (جيك) سوليفان، وفي العاشر من آذار/مارس الماضي كان هناك قنبلة قد انفجرت في سماء العلاقات الدولية من خلال التوقيع على اتفاق مصالحة سعودية – ايرانية في العاصمة الصينية ، وهو ماأحدث صدمة كبرى في واشنطن، وكثير من الصحف الأميركية قد اعتبرته دخولاً صينياً لأعماق منطقة الشرق الأوسط وشبهته بالدخول السوفياتي للمنطقة عام 1955 من خلال صفقة الأسلحة التشيكية التي عقدها الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وقد ظهر بتلك المقالات تخوفات من أن يحذو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حذو عبد الناصر في “الانزياح شرقاً”.
خلال التسعة أشهر الأولى من هذا العام ظهرت الكثير من التحليلات، في الصحف والفضائيات والمواقع وحتى في مراكز أبحاث، تحدثت عن “تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة”، وبعض تلك التحليلات قامت بتوسيع البيكار للحديث عن بداية اختلالات في التوازن العالمي من خلال توسع النفوذ الروسي عبر انقلابات عسكرية جرت في القارة الإفريقية بفترة 2021-2023 في مالي وبوركينافاسو والنيجر أزاحت الفرنسيين من تلك البلدان، وكان واضحاً دور (مجموعة فاغنر) بمساعدة ودعم الحكام الجدد في البلدان الثلاثة الذين بادروا إلى إنهاء الوجود العسكري الفرنسي ببلدانهم، كما أن اضطراب السودان منذ الربيع الماضي كان هناك دلائل كثيرة فيه على دعم (فاغنر) لقوات الدعم السريع المتحاربة مع الجيش السوداني.
ولكن خلال مايقرب من ثلاثة أشهر على الحرب في غزة لم يظهر حتى الآن أي دور يذكر للروس والصينيين في هذه الحرب التي هزت العالم أكثر من أي حرب نشبت في عالم مابعد عام1989عندما انتهت الحرب الباردة بانتصار الأميركان على السوفيات وبتحول الولايات المتحدة إلى القطب الواحد للعالم، والحرب في غزة كانت أكثر تأثيراً على جو العلاقات الدولية أكثر من أي حرب نشبت منذ عام1989بمافيها حرب خليج1991 وحرب كوسوفو1999 وغزو العراق2003 والحرب الجيورجية2008 وحرب القرم2014 وحتى أكثر من الحرب الأوكرانية التي تجري منذ يوم24شباط/فبراير2022 وكانت هي الأعلى تأثيراً على جو العلاقات الدولية لتأتي الحرب الغزاوية وتفوقها تأثيراً.
هنا يجب لملمة عناصر هذا التأثير، حيث كانت حرب غزة منصة لعودة أميركية صاخبة للمنطقة من خلال حاملتي طائرات وغواصة نووية، مارست من خلالهما واشنطن دبلوماسية البوارج ، وهو ما سمح للأميركان بأن يكونوا كاتب سيناريو وأيضاً مخرج الحرب وعلى مايبدو أن واشنطن هي التي ستحدد المدى الزمني للحرب وليس تل أبيب ، ويؤكد هذا زيارات وزيري الدفاع والخارجية الأميركية المتعددة للمنطقة وكذلك مستشار الأمن القومي الأميركي وأولاً زيارة الرئيس الأميركي لإسرائيل في الحرب والتي هي سابقة لم تحصل من أي رئيس أميركي سابق في حروب1967و1973و1982و2006. من جانب آخر الولايات المتحدة من خلال “دبلوماسية البوارج” استطاعت منع تمدد حرب غزة إلى حرب إقليمية عبر التكلفة المرتفعة التي أظهرها الحضور العسكري الأميركي لإيران إن مارست نظرية “وحدة الساحات” التي كان يتكلم عنها لسنوات طويلة المناصرون لماسمي ب (محور المقاومة والممانعة).
هذه العودة الأميركية للمنطقة هي قطع لمسار انسحابي أميركي من المنطقة أعلنه الرئيس الأميركي باراك أوباما بخريف2011 بالتزامن مع الإنسحاب العسكري الأميركي من العراق ومع اتجاه أعلنته واشنطن آنذاك نحو التركيز على منطقة الشرق الأقصى من أجل مجابهة العملاق الصيني النامي والذي أصبح الرقم الثاني في الاقتصاد العالمي بعام 2010. هذا الاتجاه الانسحابي الأميركي كانت ترجماته الشرق الأوسطية الأساسية هي الاتفاق النووي مع إيران (14تموز/يوليو2015)، والذي عنى مقايضة تفكك فيها إيران برنامجها النووي مقابل القبول الأميركي بالنفوذ الايراني بالمنطقة، ثم الاتفاق الأميركي- الروسي على التواجد العسكري الروسي في سوريا (منذ يوم 30 أيلول/سبتمبر2015) والذي ظهرت مفاعلاته السياسية من خلال اتفاق واشنطن وموسكو بعد شهرين ونصف على القرار2254 ومن ثم الرعاية الأميركية-الروسية لمؤتمر جنيف3 بين السلطة و(هيئة المفاوضات) المنبثقة عن مؤتمر الرياض للمعارضة السورية والذي أفشله رياض حجاب من خلال قراره بسحب وفد المعارضة من المؤتمر بايعاز من أنقرة التي كانت في ربيع2016 في حالة تجابه مع واشنطن وموسكو معاً.
في يوم 7أيار/مايو الماضي أشار موقع “أكسيوس” الأميركي إلى زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان للرياض بالكلام التالي: “لم يقل أحد ذلك بصوت عالٍ، لكن الأمر يتعلق بالصين منذ اليوم الأول”، وفي ما نشره الموقع الأميركي المذكور يومذاك تمت الاشارة لأول مرة إلى (مشروع الكوريدور الهندي- الشرق الأوسطي- الأوروبي)، الذي تم التوقيع عليه بعد أربعة أشهر من زيارة سوليفان تلك في نيودلهي أثناء قمة العشرين برعاية الرئيس الأميركي. هنا يجب الربط بين زيارة سوليفان وماجرى قبل شهرين بالعاصمة الصينية بين السعوديين والإيرانيين من اتفاق، وأن تلك الزيارة هي محاولة لسد الطريق على الصينيين للدخول من الباب السعودي عبر ذلك الاتفاق إلى المنطقة وفي الوقت نفسه وضع السعودية في قلب مشروع الكوريدور، الذي هو منافس ومحاولة لتقويض مشروع (الحزام والطريق) المطروح من الصين منذ عام2013، و جعل الهند منافساً مستديماً للصين، كما أن (الكوريدور) سيؤمن بديلاً للأوروبيين عن الطاقة الروسية بفرعيها النفطي والغازي.
إذا نظرنا لمشروع (الكوريدور)، والذي تفصل أربعة أسابيع عملية التوقيع عليه عن هجوم حركة حماس على منطقة غلاف غزة في يوم7أوكتوبر، نجد ذلك الهجوم محاولة لتقويض عملية التطبيع السعودية- الاسرائيلية، والتي هي من مترتبات (الكوريدور) السياسية، والتي أوحت مقابلة ولي العهد السعودي مع محطة (فوكس نيوز) بتاريخ 20أيلول/سبتمبر بأنها قريبة، ومحاولة لتبيان أن الكوريدور غير آمن وهو الذي كان سيمر بغلاف غزة، وبغض النظر، عمّا إذا كانت حركة حماس قد تصرفت لوحدها في يوم 7 أكتوبر من دون التشاور مع الحلفاء، فإن المتضررون من (الكوريدور) يمتدون من الصين إلى روسيا وإيران وصولاً إلى تركيا التي سيحرمها (الكوريدور) من أن تكون الملتقى الإقليمي لأنابيب الطاقة ولخطوط الترانزيت.
يلفت النظر هنا،أن واشنطن قد سارعت إلى جعل حرب غزة ممراً نحو ماقاله وزير الخارجية الأميركية كولن باول قبيل غزو العراق بقليل:” الهدف إعادة صياغة المنطقة “، وهو مالم ينجح فيه الأميركان عبر البوابة البغدادية ، ويبدو أن الهدف الأميركي الآن من “إعادة صياغة المنطقة” عبر بوابة (الكوريدور) ، بمايتضمنه من محاولة فرض هيمنة أميركية على المنطقة مثلما فكر هنري كيسنجر أواسط السبعينيات ضد السوفيات للتعويض عن الهزيمة الأميركية في فييتنام ،هو تعديل التوازن العالمي الذي اهتز لغير صالح القطب الواحد الأميركي للعالم مع الحرب الأوكرانية التي أبرزت في ستة أشهر من بدئها تحالفاً روسياً- صينياً انضمت له ايران بعد انهيار مفاوضات احياء الاتفاق النووي الايراني في فيينا بشهر آب\اغسطس2022،هذا الاهتزاز الذي سمح لدول متعددة بالعالم بحرية حركة ، نتيجة الانشغال الأميركي بأوكرانيا ، بين معسكري الحرب تلك، أي حلف الأطلسي- اليابان- كوريا الجنوبية- أستراليا والحلف الروسي- الصيني المضاد، وبالتأكيد كان هذا وراء تفشيل طهران لمفاوضات فيينا، وحرية حركة بين المعسكرين المذكوران رأتها أمامها دول مثل الهند وتركيا والسعودية ومصر وجنوب إفريقيا والبرازيل.
كتكثيف: مآلات حرب غزة هي التي ستحدد نجاح أو فشل واشنطن في المنطقة، وذلك في سعيها نحو تعديل التوازن العالمي في مرحلة يبدو أن هناك الآن مؤشرات كثيرة على هزيمة عسكرية قريبة للأوكران أمام الروس.