لم تكن العلاقات بين موسكو وتل أبيب في أحسن حالاتها ليلة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عشية انفجار الوضع مجدداً بين إسرائيل والفلسطينيين، وانزلاقه نحو حافة «حرب إقليمية كبرى» تهدد تداعياتها المنطقة والعالم، وفقاً لتحذيرات روسية

وعلى الرغم من أن مواقف الطرفين حالياً تعكس تباعداً يُعدّ الأوسع في تاريخ العلاقات التي انطلقت في مطلع تسعينات القرن الماضي، لكن المؤكد أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لا يشكل السبب الرئيسي لهذا التدهور، بل حلقة جديدة تضاف إلى عناصر التوتر التي تراكمت بشدة خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.

تحول جدي

في سنوات سابقة، كان الكرملين يتباهى بعلاقات وثيقة مع إسرائيل. وردد الرئيس فلاديمير بوتين مرات عدة عبارات مفادها أن خُمس مواطني إسرائيل هم من أصول روسية وسوفياتية سابقة، ما يشكّل ثروة مهمة للعلاقات بين الطرفين. والأبرز من ذلك، أن مسؤولين روساً وإسرائيليين فاخروا أكثر من مرة بأن المحادثات الرسمية بين الطرفين تجري باللغة الروسية، خصوصاً في مراحل سابقة كان فيها سياسيون إسرائيليون من أمثال أفيغدور ليبرمان (من أصول مولدافية)، يشغلون مناصب حكومية بارزة.

في ذلك الوقت، لم تهتم روسيا كثيراً بحقيقة أن بعض هؤلاء من غُلاة المتطرفين الذين يدعون إلى «الحل النهائي» للمسألة الفلسطينية، ويدعمون أسوأ السياسات العنصرية تجاه الفلسطينيين.

لكن التحول الجدي في العلاقات بدأ في عام 2014، بعد اشتعال المواجهة مع الغرب، على خلفية قرار ضم شبه جزيرة القرم، واندلاع الأعمال القتالية في شرق أوكرانيا، ما وضع روسيا أمام حزم عقوبات غربية واسعة. واستكملت الحلقة الثانية من التحول في العام التالي مباشرة، في أعقاب التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا.

أسفر هذان التطوران عن تدشين مرحلة جديدة معقدة وشائكة للغاية في علاقات روسيا وإسرائيل. من جهة، واصلت أوساط روسية الرهان على إسرائيل «الصديقة الناطقة بالروسية» للعب دور مهم في تخفيف الضغوط الغربية وتكريس النفوذ اليهودي في الغرب لتقليص العقوبات. لكن من جهة أخرى باتت روسيا «جارة» لإسرائيل بعد ترسيخ الوجود الروسي على البحر الأبيض المتوسط، ونشر القواعد العسكرية الروسية على أراضي سوريا. وحمل هذا الأمر رزمة من التعقيدات المتعلقة بالدرجة الأولى بالعلاقة الوثيقة بين موسكو وطهران، وبحقيقة أن روسيا باتت لديها مصالح مباشرة في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن تجاهلها عند أي تحرك سياسي أو عسكري.

تفاهمات في سوريا

في تلك الظروف ساعدت العلاقات الوثيقة بين بوتين وبنيامين نتنياهو على ترتيب تفاهمات تضمن مصالح الطرفين، كان عنوانها الأبرز أن تل أبيب لا تعرقل تحركات روسيا في المنطقة، في مقابل أن موسكو تغض الطرف عن خطوات إسرائيل الموجهة لحماية مصالحها ومتطلباتها الأمنية.

وسرعان ما أنتجت هذه المعادلة التفاهم المتعلق بتنسيق التحركات العسكرية للطرفين. بين أبرز ملامحه، أن تضمن روسيا عدم انزلاق الوضع في منطقة الجولان في مسار يضر بالأمن الإسرائيلي. ويتذكر كثيرون كيف أن موسكو سيّرت في وقت من الأوقات دوريات على طول خط الفصل في الجولان، وتعهدت بضمان أمن إسرائيل كواحدة من أولوياتها الرئيسية في سوريا. في المقابل، قدمت تل أبيب ضمانات لموسكو بعدم استهداف القواعد العسكرية والمنشآت التي توجد فيها قوات أو مدربون روس، أو المرتبطة بمراكز صنع القرار والتحكم والإدارة للحكومة السورية التي يتم تشغيلها بمساعدة روسية، بينما احتفظت لنفسها بالحق في توجيه ضربات على مطارات ومنشآت تستخدمها إيران، أو «حزب الله»، لنقل أسلحة ومعدات إلى لبنان. هذا التفاهم عاش لسنوات غضت فيها موسكو الطرف عن الضربات الإسرائيلية داخل سوريا.

بالتأكيد شهدت تلك التفاهمات مراحل مد وجزر، وكاد الوضع ينزلق أكثر من مرة نحو تفجيرها، لكن سرعة ودقة الاتصالات على أعلى المستويات ساعدتا في كل مرة في تجاوز الأزمات الطارئة.

حرب أوكرانيا

لكن الطرفين كانا أمام منعطف جديد في العلاقات بعد انفجار الحرب في أوكرانيا. الوضع الذي تزامن مع تقلبات داخلية كبرى في إسرائيل حملت يائير لبيد إلى رئاسة الوزراء. تسببت الحرب الروسية في أوكرانيا بأكبر وأعنف هزة في تاريخ العلاقات، خصوصاً مع ميل الجانب الإسرائيلي إلى توجيه انتقادات غير مسبوقة لموسكو، ترافقت مع تحرك عملي لدعم أوكرانيا من خلال إمدادها ببعض شحنات الأسلحة المحدودة، ومساعدات إنسانية واسعة، وكذلك من خلال انتقال مئات المدربين ورجال الوحدات الخاصة الذين ساعدوا كييف، وفقاً لبعض التقارير، في مواجهة هجمات الطائرات المسيّرة، والتقنيات العسكرية الأخرى الروسية أو الإيرانية الصنع.

 

لا شك أن العلاقات قبل اندلاع الحرب كانت تواجه تحديات، بينها تباين الرؤى الروسية والإسرائيلية حول التموضع الإيراني في سوريا، وحول سيناريوهات الحل النهائي للأزمة في هذا البلد.

لكن الخلافات بين موسكو وتل أبيب خرجت إلى العلن بشكل غير مسبوق مع اندلاع الحرب في أوكرانيا.

في تلك المرحلة بدا أن التوازن الدقيق الذي أقامته موسكو لسنوات في العلاقات بين تل أبيب من طرف وطهران من طرف آخر، تعرّض لتصدع كبير.

وفي مقابل التصريحات «العدائية» التي صدرت عن لبيد مثلاً تجاه موسكو، أقدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي يوصف عادة بالحِرفية والحذر في انتقاء العبارات الدبلوماسية، على تفجير قنبلة عندما لم يجد حرجاً خلال مقابلة مع إحدى الصحف الإيطالية في انتقاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والإشارة إلى أصله اليهودي، وحينها ردت عليه تل أبيب بغضب وعدت تصريحه مشيناً ولا يغتفر.

كما شكلت زيارة «الدعم» التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، إلى كييف في مطلع العام، واحدة من أشد محطات التوتر بين الدولة العبرية وموسكو، علماً أنها كانت الزيارة الأولى من نوعها لمسؤول إسرائيلي على هذا المستوى إلى أوكرانيا منذ بدء الحرب.

من جانبها، سارت موسكو خطوة جدية نحو إظهار غضبها عبر قرار إغلاق مكتب روسيا للوكالة اليهودية «سخنوت» على خلفية اتهامها بمخالفة قوانين الهجرة وتضليل الروس واعتماد آليات غير قانونية لنقل أصحاب الكفاءات إلى إسرائيل.

صحيح أن تلك الأزمة خفت وتيرتها مع عودة نتنياهو إلى مكتب رئاسة الوزراء وتعهده بإصلاح العلاقات مع موسكو، لكن تداعيات الحرب الأوكرانية كانت أكبر من أن يتم التوصل إلى تسويات سريعة بشأنها

العلاقة مع طهران

لقد شكّل تعزيز التحالف الروسي الإيراني أبرز تحد أمام محاولة إصلاح العلاقات. ويقول خبراء روس إن إسرائيل قامت بتوسيع نشاطها في إطار تزويد كييف بمعلومات استخباراتية لمكافحة الطائرات الإيرانية من دون طيار. وبدأت تدرس تزويد كييف بأنظمة صاروخية متطورة لمواجهة الهجمات الجوية. في هذا الإطار، بدا أن إسرائيل تسعى إلى فحص تداعيات «التحالف الروسي الإيراني» من جانب، والعمل، من جانب آخر، على توسيع نشاطها لفحص قدرات الطائرات الإيرانية المقدمة إلى روسيا، والأنظمة العسكرية الأخرى، التي قد يكون جزء كبير منها موجوداً أيضاً لدى «حزب الله» في لبنان.

ولم تفلح التدابير «العقابية» الروسية لإسرائيل في مواجهة الوضع الجديد، بما في ذلك على صعيد إطلاق يد السوريين في استخدام أنظمة الدفاع الجوي الروسية ضد الهجمات الإسرائيلية، وإغلاق الأجواء السورية في وجه الطائرات الحربية الإسرائيلية، وتفعيل أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات الموجودة لدى دمشق.

كل هذه الإجراءات لم تقلّص من حجم وحدة الهجمات الإسرائيلية في سوريا، حيث إنها اتخذت بُعداً ينتهك كل التفاهمات السابقة بما في ذلك استهداف المطارات والبنى التحتية العسكرية للحكومة السورية.

على هذه الخلفية، جاء انفجار الوضع حول غزة، ليضيف عنصراً جديداً للتوتر يفاقم الأزمة ويوسّع الهوة بشكل غير مسبوق بين موسكو وتل أبيب.

وصحيح أن موسكو تجنّبت إدانة تصرفات إسرائيل، وسعت بالدرجة الأولى إلى تأكيد أن روابطها الوثيقة مع كل الأطراف يمكن أن تسهم في لعب دور الوسيط المقبول لتخفيف حدة الصراع، لكن تل أبيب لم تغفر للكرملين إصراره على تأكيد رفض الحل النهائي الذي تطرحه إسرائيل للقضية الفلسطينية، وتأكيده التزام حل الدولتين، وأن «لا تسوية ممكنة من دون قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية»، وفقاً لتأكيدات بوتين.

فوائد روسية

يقول خبراء إن السبب الرئيسي وراء موقف موسكو أنها تستفيد حالياً من صرف الانتباه عن الحرب في أوكرانيا.

وانطلاقاً من ذلك، يركّز العالم كله على إسرائيل وقطاع غزة، ما يعني أن روسيا الآن تتمتع بحرية التصرف إلى حد كبير، كما يقول الخبير نيكولاي كوزانوف. ويستشهد، كمثال، بحقيقة أن روسيا تمكنت من التخلي عن معاهدة حظر التجارب النووية بهدوء نسبي – حيث اعتمد مجلس الدوما قانوناً بهذا الشأن هذا الأسبوع.

ويشير خبراء أيضاً إلى أن الأحداث على الجبهات الأوكرانية تلاشت من الصفحات الأولى في العالم، وبدأ النقاش في الغرب حول كيفية توزيع المساعدات على إسرائيل وأوكرانيا – وكل هذا مفيد لروسيا.

بالإضافة إلى ذلك، حصلت روسيا على فرصة التحدث مع المجتمع الدولي وتقويض محاولات عزلها.

وصحيح أنه من الصعب تصوّر أن تقبل إسرائيل بوساطة روسية في الحرب الجارية، لكن هذا لا يمنع موسكو من مراكمة فوائد بسبب الوضع الحالي. وهذا يفسّر تحركها في مجلس الأمن، وتأكيداتها المتواصلة حول رؤيتها لتسوية الصراع بشكل ينسجم أيضاً مع التوافقات الروسية والصينية على رؤية ملامح النظام الدولي الجديد.

لكن تركيز بعض الخبراء على فكرة «الفوائد الروسية» من الصراع المتفاقم، لا يعكس وحده مستوى الانزلاق الذي وصلت إليه العلاقات بين موسكو وتل أبيب. وهنا يدخل عاملان رئيسيان على خط السجالات. أولهما، العلاقة الروسية – الإيرانية التي وصلت إلى مستويات من التنسيق والتحالف، جعلت محللين إسرائيليين يتحدثون عن مواجهة «محور يضم روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وبلداناً أخرى كثيرة». وهنا من المهم الإشارة إلى أن موسكو انتقلت من تجاهل الاتهامات الموجهة لإيران بأنها تقف خلف التصعيد الحالي، إلى الدفاع المباشر عن طهران وتأكيد رفضها «إلقاء اللوم» على الإيرانيين الذين، كما قال الوزير سيرغي لافروف، «يتبنون موقفاً متوازناً للغاية ويسعون مع بلدان المنطقة إلى تقليص حدة التوتر ومنع الانزلاق نحو مواجهة إقليمية كبرى».

العنصر الثاني، يتعلق بتبلور رؤية روسية جديدة للتحالفات على خلفية الصراع المتفاقم مع الغرب، ما يعني أن موسكو بدأت تدريجياً تفقد اهتمامها بإقامة توازنات صعبة مثل تلك التي أقامتها منذ حلول قواتها العسكرية في سوريا.تحذير من حرب إقليمية

عموماً، يشير خبراء إلى أن التحذيرات الروسية من خطر «الحرب الإقليمية» هي في الواقع تعبير مباشر عن مواقف مشتركة مع إيران، التي لا ترغب أيضاً في الانخراط في مواجهة واسعة وشاملة، لكنها قد تكون مضطرة لها إذا سارت إسرائيل نحو تقويض مراكز نفوذها الإقليمية.

يفسّر هذا، في جانب منه، درجة الغضب في إسرائيل تجاه روسيا، رغم أن الأخيرة لم تعلن رسمياً دعم مواقف «حماس».

يورد خبراء إسرائيليون بعض المؤشرات إلى أن الموقف الروسي «الحذر» يخفي في الواقع سياسات معادية لإسرائيل حالياً، من ذلك أن بوتين يعدّ واحداً من الزعماء العالميين القلائل جداً الذين لم يتصلوا بنتنياهو للتعزية بالقتلى الإسرائيليين في السابع في أكتوبر. احتاج بوتين لمرور ثمانية أيام بعد ذلك ليتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي ضمن سلسلة اتصالات أجراها مع زعماء إقليميين لمواجهة احتمال اتساع الصراع.

أظهر ذلك، وفقاً لخبراء، أنه لم يعد من الممكن النظر إلى أي إجراءات تتخذها روسيا في الشرق الأوسط بمعزل عن الحرب في أوكرانيا وعلاقات روسيا العسكرية مع إيران.

يقول خبير إسرائيلي إنه «في إسرائيل بشكل عام، أصبحت التوقعات الآن متواضعة للغاية، وفي ترجمة مباشرة من العبرية أقول إننا لا نحتاج إلى المساعدة – الشيء الرئيسي هو أنهم (الروس) لا يسببون سوى أقل قدر ممكن من الضرر. أعتقد أن هذا اليوم هو الموقف الأكثر دقة للرأي العام والسياسيين تجاه ما يحدث، وموقف روسيا مما يحدث».

حرق الجسور

هذا الكلام الحذر للغاية تجاه موسكو انعكس بطريقة أخرى لدى حزب «ليكود» الحاكم في إسرائيل، الذي كان إلى وقت قريب أهم أصدقاء روسيا. وأعلن أحد أبرز زعماء الحزب أمير ويتمان، أن روسيا «باتت عدواً» وتعهد بمعاقبتها بعد انتهاء المعركة مع «حماس». قال: «روسيا ستدفع الفواتير. صدقوني (..) روسيا تدعم أعداء إسرائيل، تدعم النازيين الذين يريدون ارتكاب إبادة جماعية» للشعب الإسرائيلي.

وأضاف ويتمان أنه بعد المعركة الحالية لن تتردد إسرائيل في «إرسال قواتها إلى أوكرانيا لمعاقبة روسيا».

بعض أصحاب نظريات المؤامرة في روسيا وجدوا في تدمير الكنيسة الأرثوذكسية في غزة أخيراً، رسالة موجهة إلى موسكو بصفتها «حامية العالم الأرثوذكسي».

كان لافتاً أن استهداف كنيسة القديس بورفيري التابعة لبطريركية القدس ما أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص فيها، استدعى تدخل الكنيسة الروسية بشكل قوي، بعدما حافظت على حياد كامل تجاه الحرب. قالت الكنيسة في بيان: «إن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تتعاطف مع الكهنة وأبناء الرعية الشجعان من الطائفة الأرثوذكسية في قطاع غزة، وتتعاطف مع الضحايا وتصلي من أجل أن يقوّى الرب شعب فلسطين في مواجهة المحنة الحالية».

ودعمت الكنيسة الروسية في بيانها رسالة بطريركية القدس التي وصفت الغارات الجوية الإسرائيلية على المؤسسات الإنسانية في قطاع غزة بأنها «جريمة حرب لا يمكن تجاهلها».

شكّل هذا مؤشراً جديداً إلى أن حرب غزة قد تسفر عن إحراق آخر الجسور بين موسكو وتل أبيب.