“التخصيب بمعدّل 60 بالمئة في مراكز التخصيب الإيرانيّة كان دائماً وسيظلّ متّسقاً مع الاحتياجات السلميّة للبلاد وخاضعاً لرقابة كاملة من الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة”. هذا ما قاله يوم الجمعة المتحدّث باسم وزارة الخارجيّة الإيرانيّة ناصر كنعاني. لكن ثمّة تفصيل مهمّ يتعلّق بهذا التصريح.
لم يسبق لأيّ دولة غير مسلّحة نوويّاً أن خصّبت اليورانيوم بنسبة 60 في المئة. ويعدّ التخصيب بما يساوي أو يفوق عتبة 20 في المئة تخصيبا مرتفعا ومعظم المفاعلات النوويّة المدنيّة تستخدم من اليورانيوم-235 المخصّب بما نسبته 3 إلى 5 في المئة.
علاوة على كلّ ذلك، إنّ اليورانيوم المخصّب، بأيّ نسبة كان هذا التخصيب، يمكن استخدامه للتسليح النوويّ. لكن كلّما كان التخصيب بعيداً من نسبة 90 في المئة برزت الحاجة إلى جمع كمّيّة أكبر منه للوصول إلى “الكتلة الحرجة”. تهتمّ الدول المسلّحة نوويّاً بتصغير حجم هذه الكتلة كي تسهّل على أسلحتها مهمّة التسليم. تبلغ الكتلة الحرجة لليورانيوم المخصّب بنسبة 20 في المئة 143 كيلوغراماً ويصل قطرها إلى 24 سنتيمتراً. بينما تبلغ في حال كان اليورانيوم مخصّباً بنسبة 90 في المئة 12 كيلوغراماً وقطرها 10.5 سنتيمتراً.
طموح إدارة بايدن
جاء ردّ كنعاني بعدما أعربت دول غربيّة عدّة، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، عن قلقها بسبب تقرير صدر عن الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة يوم الثلاثاء حذّر من أنّ طهران سرّعت إنتاج اليورانيوم المخصّب بنسبة مرتفعة. وقالت الوكالة إنّ مفتّشيها تحقّقوا من الوتيرة المتصاعدة للإنتاج منذ نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) في نطنز وفوردو إلى نحو 9 كيلوغرامات في الشهر وهو المستوى نفسه من الإنتاج الذي حافظت عليه إيران طوال النصف الأوّل من 2023 قبل خفض الوتيرة إلى 3 كيلوغرامات شهريّاً منذ حزيران (يونيو).
تستغلّ إيران انشغال واشنطن بالحرب الإسرائيليّة على “حماس” والحرب الروسيّة على أوكرانيا من أجل تسريع إنتاج وقودها النوويّ. في هذه المرحلة، لا يحتلّ البرنامج النوويّ الإيرانيّ مرتبة متقدّمة ضمن جدول أعمال إدارة الرئيس جو بايدن. حتى من دون الحربين في الشرق الأوسط وأوروبا، بدت الولايات المتحدة أقرب إلى الاقتناع بأنّ إيران قريبة من أن تصبح دولة نوويّة. وتقوم فلسفة الاتّفاق النوويّ الذي تؤيّد الإدارة إعادة إحيائه على تأجيل مشكلة تحوّل إيران إلى دولة نوويّة بدلاً من معالجتها. بذلك، يصبح أقصى طموح يمكن أن تهدف الإدارة الحاليّة إلى تحقيقه هو إعلان أنّ إيران حقّقت “الاختراق النوويّ” في ولاية رئيس آخر. يمكن استنتاج ذلك من قبول الإدارة التفاوض مع الإيرانيّين على صيغ محتلفة شاعت في المرحلة الماضية مثل اتّفاق “الأقلّ مقابل الأقلّ” أو “تفاهم غير رسميّ”. لكن قد تعجز الإدارة حتى عن تحقيق هذا الطموح المتواضع القاضي بأن تشهد إدارة مستقبليّة ولادة إيران النوويّة.
“بحلول رأس السنة”
لا تطوي إدارة بايدن آخر صفحات 2023 في وضع مريح. “تجد واشنطن نفسها في الوقت البدل عن ضائع وهي تخسر” على ما يكتب الاقتصاديّ مارك توث والعقيد المتقاعد من الجيش الأميركيّ جوناثان سويت في صحيفة “ذا هيل” يوم الخميس. ويشيران إلى أنّ إيران خصّبت ما لا يقلّ عن 128.3 كيلوغراماً من اليورانيوم بنسبة 60 في المئة و567 كيلوغراماً بنسبة 20 في المئة. بناء على حسابات “مشروع ويسكونسن للحدّ من الأسلحة النوويّة”، يستنتج الكاتبان أنّ إيران قادرة على جمع ما يكفي من اليورانيوم المخصّب بنسبة 90 في المئة، لثلاث قنابل نوويّة، في غضون أقلّ من أسبوع. لهذا السبب، إنّ إيران في وضع يمكّنها من تحقيق اختراق نوويّ في وقت قريب جداً “قد يكون بحلول يوم رأس السنة”
والأسوأ أنّها سنة انتخابيّة بالنسبة إلى بايدن. توجيه إيران إشارة إلى أنّها تسرّع تخصيب اليورانيوم في هذا التوقيت يبدو مقصوداً لإحراج الرئيس. لقد كانت الخطوة دعوة غير مباشرة لبايدن كي يعقد محادثات جديدة مع طهران شبيهة بتلك التي عقدت قبل التوصّل إلى تفاهم حزيران، لكن هذه المرّة في ظلّ ظروف ضاغطة جدّاً. صحيحٌ أنّ الاختراق النوويّ لا يعني تلقائيّاً قدرة إيران على تسليم قنبلتها عبر أسلحة مخصّصة – فهذا قد يحتاج إلى ما بين 18 و 24 شهراً – لكنّ تصنيع الصواريخ مهمّة سهلة نسبيّاً وسط ازدياد تعاون الإيرانيّين مع الروس. يأتي ذلك كوريا الجنوبيّة بأنّ روسيا ساعدت كوريا الشماليّة على وضع قمر اصطناعيّ تجسّسيّ في الفضاء الشهر الماضي، بعدما فشلت مرّتين في ذلك سابقاً.
عودة إلى السؤال الأساسيّ
هل يعني كلّ هذا أنّ إيران ستجتاز العتبة النوويّة في الأيّام الأولى من سنة 2024؟ لن يكون الأمر مفاجئاً إن حصل. في الواقع ربّما اجتازت إيران تلك العتبة منذ فترة طويلة. في حزيران، أشار “معهد العلوم والأمن الدوليّ” الذي يرأسه المفتّش الأسبق في الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة ديفيد أولبرايت إلى أنّ الجدول الزمنيّ لتحقيق إيران فترة الاختراق النوويّ أصبح “صفراً“. وكان التقرير أشدّ تشاؤماً من مقال سويت وتوث إذ لفت النظر إلى أنّ إيران قادرة على اختبار متفجّر نوويّ تحت الأرض خلال ستّة أشهر “بشكل مؤكّد”.
(منشأة نطنز النووية – أب)
وفي 2021 و 2016، حذّر خبراء من احتمال أن تكون إيران قد امتلكت فعلاً أسلحة نوويّة وأنّها ربّما اجتازت العتبة النوويّة قبل 2003. وأشاروا إلى أنّ الأميركيّين ومفتّشي الأمم المتّحدة فشلوا في كشف برنامج إيران النوويّ (كشفته المعارضة سنة 2002) كما برامج أسلحة الدمار الشامل في كوريا الشماليّة وباكستان والهند والعراق وليبيا. ربّما يكون السؤال الفعليّ في نهاية المطاف عمّا إذا كانت إيران ستعلن أنّها حقّقت الاختراق النوويّ المنتظر في 2024.
قد يثير هذا الإعلان لحظة فخر في إيران لتمكّنها من اجتياز فترة طويلة من الضغوط والانتكاسات في مسعاها الدؤوب نحو هذه اللحظة، لكنّه قد يحرمها من قوّة انتزاع من إدارة كانت دوماً “” في تعاطيها مع المطالب الإيرانيّة. على أيّ حال، لن تستطيع الجبهات المتوتّرة أو المشتعلة حول العالم حجب أخبار برنامج إيران النوويّ السنة المقبلة. واقعٌ لن يريح على الأرجح ديموقراطيّي واشنطن.