قبل أيام من الاحتفالات بعيد رأس السنة، ظهرَ نصيف الخطابي، محافظ كربلاء، المحافظة العراقية الدينية الطابع التي تضم ضريح الإمام الحسين بن علي، وهو يتجول مساءً في بعض شوارع المحافظة. توقف الرجل، ومعه قائد الشرطة ومسؤولون آخرون، أمام محل وضع صاحبه أمامه شجرة عيد ميلاد. لامَ الخطابي صاحبَ المحل على وضعه هذه الشجرة على أساس أنها “تتنافى مع قدسية المحافظة، تتنافى مع هوية كربلاء”. المحافظ الذي أصرَّ على أن الشجرة ستتحول في ليلة رأس السنة إلى مكان لبث الموسيقى والرقص وغيرها مما يناقض “ثقافة الإسلام” على حد قوله، طَلَب من صاحب المحل إزالة الشجرة وتوعده بغلق محله لمدة شهر إذا أبقى عليها بحلول رأس السنة عند قيام المحافظ بجولة أخرى للتأكد من خلو الشوارع من أشجار الميلاد.
سواء كانَ سلوك الخطابي مُحفَّزاً برغبته بالحفاظ على منصبه عبر ظهوره متشدداً اجتماعياً ودينياً، بإزاء خصوم له في الإطار التنسيقي الحاكم يسعون لانتزاع منصب المحافظ منه بعد أدائه الجيد في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، أو كان تعبيراً حقيقياً عن إيمانات الرجل السياسية والاجتماعية، فإن ما يقوم به مخالف للدستور والقانون ويعكس سوءَ فهم عميقاً لمعنى الحقوق والحريات. اعتادت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي (ينتمي الخطابي لحزب الدعوة الاسلامية) ومعها الكثير من المحافظين الاجتماعيين والدينيين استنفارَ ثيمة قدسية المدن وهوياتها المفترضة لمنع أو تقييد سلوكيات اجتماعية مرتبطة بحريات الأفراد وحقوقهم المكفولة دستورياً، كما في سعي هذه القوى لمنع إقامة حفلات غنائية أو أنشطة فنية واجتماعية وفردية أخرى تعتبرها مناقضةً لهوية المجتمع الأخلاقية والقيم الدينية السائدة فيه. تنطوي مثل هذه الادعاءات على افتراضين مترابطين مغلوطين. الأول هو أن المجتمع العراقي، أو أي مجتمع آخر، متجانس في القيم، وليس متنوعاً ومختلفاً، وأن أي خروج على هذا التجانس المُتخيَّل، هو تهديد لأخلاق المجتمع ينبغي ردعه. الثاني هو أن هناك قوى سياسية أو دينية تتولى الإشراف الرمزي والتنفيذي على تحديد قيم المجتمع والتمييز بين “الأصيل” و”الدخيل” منها، والتشجيع على تبني القيم “الأصيلة” والوقوف ضد “الدخيلة” (كما في الحملة ضد “المحتوى الهابط” مثلاً التي تصدرها الإطار التنسيقي الشيعي عبر الحكومة). هذا النوع السائد من التفكير يمثل وصفة استبدادية بامتياز، تلغي التنوع الكبير والحقيقي في المجتمع وبين أفراده في الأذواق والأفكار والعادات والإرادات الشخصية، وتمنح جماعات معينة فيه “امتيازات” متعسفة بإلغاء هذا التنوع والمعاقبة عليه لمصلحة الفهم الفئوي لهذه الجماعات لمعنى الأخلاق والمجتمع. الأهم، والأشد خطراً في كل هذا، هو فرض هذا الفهم على المجتمع وتطبيقه في الواقع، سواء باستخدام أدوات دولتية أو ميليشيوية أو عُرفية.
أقوى الأسلحة الأخلاقية في ترسانة هذه الجماعات هو استنفار قدسية الأمكنة والمدن لمنع الأنشطة التي تخالف قناعة هذه الجماعات. في إطار هذا الاستنفار يحدث الكثير من التزييف والالتفاف على الحقائق، فالمدن التي يسكنها الناس وتمضي حياتهم فيها ليست مقدسة ولا محمية من الأخطاء والخطايا، وبضمنها محافظة كربلاء التي كان يُصرُّ المحافظُ على الدفاع عن قداستها المزعومة. القداسة هي لأمكنة محددة ومخصوصة في داخل المدن وخارجها، وهي تشمل الأضرحة والمقامات وأماكن العبادة، وليس حيث يلتقي الناس ويعيشون ويعملون ويتنافسون ويختلفون ويتخاصمون ويحبون ويغدرون ويكذب بعضهم على البعض الآخر وسواها من أفعال البشر العاديين في كل زمان ومكان.
تأريخياً، نشأت فكرة قدسية الأماكن في العالم القديم، لدى جماعات كثيرة كالسومريين والبابليين والمصريين القدماء والإغريق والرومان، واختصت بمعابد الآلهة في المدن (وأحياناً أخرى قليلة بأماكن مرَّ فيها أو نزل الآلهة أو فعلوا شيئاً محدداً فيها مثل بساتين أو قمم جبال معينة إلخ). في مدن العالم القديم حيث الآلهة محليون ولكل مدينة إلهها الحامي، كان معبد الإله فيها مقدساً لأنه المكان الذي يحضر فيه الإله أو يوحي للقائم على المعبد، الذي عادةً ما كان يسمى نبياً، بنبوءات معينة كي ينقلها هذا الأخير للناس، بوصفه وسيطاً بين الإله وأهل المدينة. عَنَت قدسية المعبد أموراً محددة مرتبطة كلها بالأمن والأمان والسلام، منها أنه آمن، لا يجري سفك دم أو عنف فيه، وحام للطريد واللاجئ إليه. وعند سيطرة جيوش المدن أو الممالك الأخرى الغازية التي تؤمن بآلهة أخرى على المدن المغلوبة، كان العرف أن المعبد يبقى آمناً لا يتجاوز عليه الجيش الغازي ويحفظ حرمته ويلجأ الناس الخائفون إليه.
على هذا النحو تطورت فكرة “الحَرَم” الخاص بالمعابد ومواضع الحج، بوصفها أمكنة مخصوصة مقدسة، محمية عُرفياً ودينياً من ممارسة الشؤون الدنيوية “السلبية” فيها، بما تنطوي عليه هذه الشؤون من تنافس وصراع وعيوب أخلاقية. على هذا النحو تواصل هذا العرف وتطور في ظل الديانات التوحيدية، اليهودية والمسيحية والإسلام، وصولاً إلى العالمين الوسيط (القرون الوسطى) والحديث. ففي هذه الأديان الثلاثة، تشابهت فكرة “الحَرَم” الموروثة من الأديان المتعددة الآلهة التي هيمنت في العالم القديم الذي كانت اليهودية جزءاً منه أيضاً، فضلاً عن المسيحية في تاريخها المبكر قبل أن تهيمن على أوروبا في القرون الوسطى. في إطار هذا التشابه، استبدل الأنبياء والقديسون والأئمة، وأحياناً المؤمنون الشديدو التقوى الذين تزعموا أو ألهموا فرقاً دينية، استبدلوا آلهة العالم القديم، لتصبح مدافن هؤلاء أضرحةً مقدسة تتمتع بمزايا الحَرَم، تُشيد حولها بنايات تسمح بمجيء الزائرين إلى هذه الأضرحة وتأدية طقوس دينية محددة مرتبطة بالأدعية والصلوات والتأمل، بوصفها أمكنة منقطعة للعلاقة المباشرة بالمقدس، بما يعنيه من صفاء وسلام، بعيداً من صخب الحياة الدنيوية بمشكلاتها وصراعاتها و”دنسها” التي تبدأ كلها بعد تجاوز أسوار الحرم بعد الخروج من الضريح وانتهاء الزيارة. ثم هناك بالطبع الأماكن الأكثر قدسية ذات المعاني الإيمانية المركزية لهذه الأديان التي يُحج إليها: مكة الإسلامية وكنيسة القيامة المسيحية وحائط المبكى اليهودي. باستثناء هذا العالم المقدس المحدود جداً جغرافياً المتشكل من أضرحة (وأحياناً مقامات في الأماكن التي بها المقدسون) ومواقع ذات طابع إيماني مركزي ومحلي للمؤمنين، هناك “العالم المدنس”، عالم البشر العاديين من المؤمنين والطقوسيين والمشككين وغير المؤمنين وغيرهم. هذا العالم واسع جداً ويسوده ما يسود كل المدن: الرغبات والصراعات وأنواع الإيمان المختلفة والأخطاء والخطايا والفشل والنجاح وسواها كثير. كربلاء، المدينة والمحافَظة، باستثناء الأضرحة والمقامات المقدسة فيها، جزء من هذا العالم “المدنس” وليس فوقه أو أفضل منه أو مستثناة منه.
إلحاق المدن والأضرحة والمقامات الدينية باعتبار أنها ينبغي أن تمثل امتداداً أخلاقياً أو دينياً لها على نحو استعاري ليس له أساس قانوني أو حتى جذر ديني معتبر، هو جزء من الآراء العُرفية للمؤسسات الدينية وأحد التفافات الإسلام السياسي على مبدأي المساواة والحقوق الفردية. نتجت هذه الآراء والالتفافات من رفض مُحافظ وقوي لدى الاثنين للتحولات في السلوك الاجتماعي ولصعود الفردانية التي تقود إلى تصرفات شخصية لا تتسق مع الطبيعة الدينية المحافظة للمدن التي فيها حيز صغير جغرافياً ينتمي للمقدس، لكن هذه التصرفات في الوقت نفسه ليست مخالفة للقانون وتقع ضمن الحقوق الفردية للمرء المكفولة دستورياً. كيف يحق مثلاً لعراقي في بغداد أن يضع شجرة عيد ميلاد أمام محله أو بيته وليس هناك مثل هذا الحق لعراقي آخر في كربلاء؟ ما معنى المساواة التي كفلها الدستور لكل العراقيين؟
إن خوف التنوع الذي يتحدى القيم المحافظة الراسخة في مثل هذه المدن هو الذي يجعل شجرة عيد ميلاد أمام مطعم في كربلاء مصدرَ خطر يستدعي تدخلاً حكومياً، فيما سرقة المال العام واغتيال الناشطين ومطاردتهم وتخويفهم وفساد الإدارة والفقر وانسداد الأفق، وغيرها كثير مما جرى ويجري في كربلاء، لا تُعتبر أخطاراً تحتاج انتباهاً حكومياً حقيقياً وجاداً!