كلّ عام والسوريون... بانتظار الفجر

15/1/1983-2023:

إلى ليلى أبو شامة (1948-1983)

***
والعالَمُ حينَ يرفَعُ قدمَهُ الثَقيلة

مُتظاهرًا بأنَّهُ يخطو

من عامٍ إلى عام

مَن يحسَبُ نفسَهُ يخدَع؟

إنَّهُ يهبِطُ بها

في ذاتِ المكان…

6/2/2023:

يا لها من بداية للسنة الجديدة، ولو متأخرة قليلًا، وكأن هذا ما ينقص سورية، وكأن هذا ما نحتاجه نحن السوريين! زلزال بقوة 7.5 من الرعب والموت! الساعة الواحدة والنصف ليلًا، يضرب بعنف المنطقة الشمالية الغربية من سورية، نزلنا مع كل سكان البناية ركضًا وصراخًا، وهمنا على وجوهنا في الشوارع المظلمة لا ندري إلى أين نلتجئ.

8/2/2023:

تأكد الخبر، صديقي الأعز د. فايز عطّاف وزوجته هالة سعيد من عداد الموتى في بناية الأطباء في جبلة.

12/2/2023:

لمجرّد أنها كلمات، ننظر إليها كزخرفات مبهمة، حتى وإن كانت تحمل معنى ما، نراها لا أكثر من خطوط تدور وتلفّ وتمتد وتتقاطع، ولا شيء أكثر! ولكن ماذا عمّن قال يومًا:

[كلمات. ليست سوى كلمات

نخطئ، إذ نظن أنها ذاهبة

كما أخطأ، قبلنا، آخرون،

فذهبوا،

وبقيت كلماتهم].

ذلك الشاعر الذي أمضى أيامه الأخيرة، ينظر بعينه الوحيدة، التي كان يغطيها ليل نهار بنظارة سوداء كتيمة! متوهمًا أن الناس الذين نزلوا إلى الشوارع، وراحوا يهتفون بتلك الشعارات البراقة، للشعب الواحد الحر، وللوطن الواحد الحر، وللـه الواحد الحر، يقومون بتمثيل فصول مسرحية كان قد كتبها منذ سنين عديدة ماضية، وها هي ذي مخطوطتها أمامه على الطاولة، إذا أردت أن تتأكد، ذلك أنهم: “صدق، منذر، يرددون كلماتي حرفيًّا!”.

صديقي، ليست كلماتك التي ليست سوى كلمات، باقية فحسب، بل أيضًا حلمك الذي كنت تقصّه لي في كل مرة أزورك، في بيتك القريب من المعهد الذي كانت تدرس فيه زوجتي، فنقضي معًا ساعة ونصف الساعة، تستغرب سرعة انقضائها، وأودعك وأنا أشعر أنها آخر مرة أراك بها!

عصر 12/2/2013 وصلتني رسالة هاتفية من فيصل خليل بالذات، تردّدت في فتحها: “مات فيصل”.

17/4/2023:

آخر مقابلتي في موقع المدن، أجبت طلب رامي غدير بالتعليق على بعض الأسماء:

مرام مصري: أختي العاطفة.

غازي أبو عقل: لن تعجبه المقابلة.

ماهر أبو ميالة: سأتصل به بعد قليل.

خالد خليفة: أخاف أن يموت قبلي.

عبد الله هوشة: ما زال ينتظرني، واقفًا يدخن سيجارته عند زاوية الشارع، أسفل بيته، يسقطها أرضًا بنزق ثم يدوسها بحذائه، ثم يطلق تنهيدة وهو يهمّ بالصعود إلى السيارة بجانبي. غالبًا ما كنت أتأخر، التأخير أحد صفاتي البغيضة، هذه المرة تأخرت عليه أكثر من عادتي”.

4/5/2023:

أحتفظ بشمعدانين معدنيين صغيرين أهداني إياهما لقمان ديركي في إحدى زياراته لبيتي منذ لا أقل من ثلاثة عقود. عندما ذكرته اليوم بهذا، اندهش أشد الاندهاش وقال: “لكني لا أذكر أني أهديت أحدًا شيئًا طوال حياتي!”.

27/5/2023:

وصلت اليوم، لعمر الرابعة والسبعين، من يصدق؟ الجميع يصدق، لماذا أنا لا؟ لا ريب أن اللـه جلّ جلاله، قد قام بتنفيذ المهمة التي أوكلته بها جدتي فاطمة روشن على أفضل وجه! أقول هذا بكل جدية. لأن ما أنجاني منه خلال تلك السنين ليس بالقليل أبدًا. حتى إني أعترف، بأنه جنّبني تحمّل عواقب وخيمة (تعذبت حتى وجدت الصفة المطلوبة)، وأعفاني من دفع أثمان مستحقة، لذنوب وأوزار لا تحصى، يصل بعضها لمرتبة الجرائم، تورطت بها، عن قصد وغير قصد. إلّا أني وقعت على اكتشاف، وربما منذ أول طوق نجاة ألقاه لي وأنا أصارع في اللجّة، أن النجاة ليست كل شيء! لكن ما عاب هذا مباشرة هو حقيقة أن لا شيء وحده كل شيء! ما عدا الحبّ، يجب أن أستدرك، بعدها سرعان ما عاد وتكشّف لي ما هو أكثر جذرية وأكثر حقيقية، أنه في حالتي، حالتنا، طامتنا، هنا في الحفرة السعيدة! النجاة ليست شيئًا على الإطلاق.

28/6/2023:

بولس: هل الوطن حالة غير مشروطة؟

منذريوس: لا أسهل من أن أقول لك “لا”.

5/7/2023:

بولس: السؤال الأبدي الذي يسأله اللوادقة: “أتفضل السباحة على الشاطئ الصخري أم الرملي؟”.

منذريوس: أفضل الرملي.

بولس: لهذا لم تغادر.

1/8/2023:

كذلك شاعرٌ آخر مصاب بالأعراض ذاتها، يحلو له أن يأخذَ صوره، وهو يرتدي قمصانِ داخليةِ من دونَ أكمام، لتبدو خلفَه خمس سكاكينَ معلقةً مع أغمادها على الحائطِ بترتيبٍ زكزاكي. كلّ سكين، يقول عنها، أحضرتها من هذا المكانٍ أو ذاك المكان في العالم، ولكلِّ سكين، ذِكرى خاصة، منها ما طعنني الآخرون به في ظهري، طعنة أو طعنتين، ثم قدموه لي كهدية، ومنها ما استطعت نزعه أنا بنفسي من كَتِفي. من أنا حتّى أحتقر أي شيء له نصل؟

19/9/2023:

– ها قد عدت. سافرت مع زوجتي إلى دبي، قبلة السوريين الجديدة، لمدة أسبوعين، حضرنا فيها حفلة زواج ابني الأصغر، وزرنا أقارب وأصدقاء كثرًا هناك. وكالعادة في دبي مصطفى هو المتكفل باصطحابي وأخذي إلى هذا المكان وذاك، ولا يخلو الأمر من أصدقاء آخرين. لو تعلمون كم يسعدني أن أذكرهم واحدًا واحدًا. جميعهم طلب مني البقاء أكثر: “ماذا يحملك لسرعة العودة لذلك المكان الذي تدعوه أنت بعظمة لسانك (الحفرة). كنت متهورًا في مقالك الأخير. انتظر ريثما تتأكد بأن لا شيء قد طرأ بخصوصك”! ولكني، كما في كل مرة أعود، دائمًا أعود. أي سفر إلى أي مكان، مجرد ذهاب. أما إلى سورية فهو مآب.

30/9/2023:

في المرة الواحدة بعد الألف، لم يخطئ (خالد) الموت، ولم يفلت كزئبق من راحته. كعادته، في الساعات الضائعة من النهار، كان خالد في بيته وحيدًا، عندما دخل هذا الضيف الخفيف الشفاف كظل، لا من باب ولا من نافذة، فهو لا يحتاج لإحدى نسخ مفتاح ذلك البيت في أعلى مساكن برزة مسبقة الصنع، المطل على جامع (أحد)، التي يوزعها خالد على كل من يقول له، أنا ذاهب إلى دمشق لقضاء عدة أيام. هذه المرة، دون إنذار، سبق وأنذره كثيرًا، أمسك الزائر الأخير بقبضته الحجرية قلب خالد الواجف، وراح يشد عليه، ويعصره. عرف خالد أنّها المرة الأخيرة. فوضع يده على قبضة الموت، لا لشيء، مجرد لمسة تودّد ليد آخر ضيوفه، وأغمض عينه وابتسم.

ترى ماذا قال الموت في سره حين شعر بتلك اللمسة ورأى تلك الابتسامة؟

6/10/2023:

أخيرًا صدر كتابي (دفتر هلال) المتضمن قصائد الدفتر الأسود الذي تركه عندي هلال كامل بدر، منذ ما يقارب النصف قرن، أرجوكم لا تستغربوا أي شيء! عن دار الأدهم القاهرية، مستهلًا مقدمتي عنه بهاتين الفكرتين:

– لطالما صدّقت أن الشعراء الذين لم يُطبع لهم كتاب، وربّما، لم تُنشر لهم قصيدة، هم أجمل الشعراء الذين عرفتهم في حياتي.

– هلال بدر… لم يمت باكرًا، لم يُقتل، لم ينتحر… ذاب في الناس فحسب.

7/10/2023:

– طوفان الأقصى غمرني. لكني قلت لمن حولي: “فقط لو حاولوا أن يعطوا العالم ذلك الدرس كما في الحرب في الإنسانية! فقط لو أنهم عفوا عن الأطفال والنساء وكبار السن”. أجابوني: “وهل تظن أنك تستطيع فعل ذلك لو كنت محلّهم؟”.

– أمّا عن سؤال، ما إذا كانت حماس قد تشاورت، أو أعلمت، أيًّا من أطراف محور الممانعة عن عملية طوفان الأقصى، فجوابي هو: “لو حدث ذلك لوصل إسرائيل الخبر بعد خمس دقائق!”. الغريب أن لا أحد غيري خطرت له هذه الإجابة!

19/10/2023:

سؤال موجه للسوريين فحسب، وأتمنى أن يجيبوا عليه من دون مكابرة: “لماذا لا تحوز القضية السورية ولو جزءًا ضئيلًا من التأييد الشعبي والنخبوي الذي تحوزه القضية الفلسطينية؟”.

6/11/2023:

ولدت لوسي، قطة البناية، في حملها الثاني هذه السنة خمس قطيطات. وكما في حملها الأول تمامًا. إحداها دهستها سيارة، وهذا أمر لا بد منه كل مرة، والثانية عضّها كلب الحارة الشارد، والثالثة تسممت، والرابعة سرقت… الخامسة تنتظر مصيرها.

7/11/2023:

سنة مرت على وفاة عادل محمود. وما زالت تتردّد على لساني الجملة القصيرة المؤلفة من كلمتين فحسب، التي خطرت لي منذ أول أيام مرضه وخبأتها له، وكأنها لقية، حتى لحظة وفاته: “عش تبك”.

28/11/2023:

في نهاية مقابلتي مع هاني نديم، في موقع (نص خبر)، بدل أن يسألني أنا سألته: ترى لماذا قال رياض الصالح الحسين: “يا سورية التعيسة كعظمة بين أسنان كلب” ولم يقل: “أنياب؟” أهي قلة حرص منه: “الفانتازيا المؤسسة على وهم الكلمات” كما يأخذ عليه سعدي يوسف في مقدمته لمجموعة رياض الثالثة (بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس) دار جرمق– دمشق- 1982. أم كان له فيها مآرب أخرى؟

4/12/2023:

ما فاتني ذكره في مقالي (ماذا يفعل أهل الحفرة؟ يحفرون) المنشور اليوم في موقع ضفة ثالثة، أن الحفرة التي أتكلم عنها تحتوي في داخلها حفرًا صغيرة وكبيرة على حد سواء، هي بمثابة أم لهم جميعهم، وهم أبناؤها. ذلك أن القاطن- القانط فيها، لا بد له، إذا ما أحب التجوال، أو مجرد الذهاب من مكان لمكان، لا بد له وأن يأخذ حذره من هذه الحفر! خذوها مني، المنتشرة في كل مكان في قاع الحفرة! البارحة أخي ماهاريشي ماهر، وقع في حفرة عميقة موحلة وسط الرصيف، خدعه أنها مموهة بطبقة من الوحل. تطوع الناس الذين شاهدوه يتخبط فيها محاولًا عبثًا الخروج، برفعه وحمله للمشفى الوطني القريب بحالة إسعافية سريعة!

8/12/2023:

لا أعرف يا علي، أنا ابن مدينة وحارات، الطبيعة ليست بيئتي، الأشجار التي أعرفها، تنمو في أحواض ترابية صغيرة على أطراف الأرصفة، تشرئب بأغصانها نحو سماء ضيقة محشورة بين جدران الأبنية أعلى من رؤوسها بقليل، وهي تظنّ الشارع أمامها نهرًا، والناس والسيارات العابرة ماء يجري!

22/12/2023:

لا أدري كيف خطر لي الإعلان عن مسابقة شعرية، جائزتها الطبعة الأولى، التي على ندرتها الشديدة يتوفر لدي منها نسختان، لمجموعة الشاعر توفيق الصايغ الثانية: (القصيدة ك) 1960. وسريعًا ما بدأت تصلني قصائد، أعادت لي ذلك الإيمان، الذي كثيرًا ما بتّ أفتقده، بأن الشعر كالأمل لا يموت. ولكني تداركت الإعلان بمنشور: “صديقتي، رجاء لا تشاركي بهذه المسابقة، لا داعي لإحراجي، لأني وقتها سأضطر حتمًا أن أخصّك بجائزتها الأولى!”.

25/12/2023:

يبدو أن موت ميشيل كيلو لن يمنعني من أن أراه في مناماتي، عائدًا، كما في كل مرة، إلى سورية، وهو الآن في اللاذقية، أرافقه في زياراتنا لهذا ولذاك من الأصدقاء. أو في جلسة من جلساتنا الثلاثية مع الياس مرقص، لا يدع لأي منا مجالًا لقول كلمة، في أحد مقاهي الرصيف بشارع الثامن من آذار. والناس ينظرون لنا مندهشين ومرتابين! أذكر، مرة، انتشرت على الإنترنت صورة له وهو في سوق الحرة في اللاذقية، كتب أسفلها: “ميشيل كيلو يبتاع الويسكي من السوق الحرة بالأموال التي قبضها من وليد حمادة!” المشكلة، أني كنت أقف في الصورة بجانبه! ولكن، أشهد لهم بالأمانة، لم يشملوني معه بهذه التهمة. أمّأ حلم البارحة فيتلخّص بأني كنت أمشي خلف ميشيل وصديق آخر راحل أيضًا، لا أدري كيف دخل في حلمي! ونحن في طريقنا لأكل السمك في أحد مطاعم ساحة الشيخ ضاهر. وكان ميشيل أثناء سيره ينزع بأصابعه أحشاء السمكة الكبيرة التي كنا ننوي شواءها وأكلها. إلّا أنهما فجأة استدارا عائدين بخطوات سريعة! فقد وصلهما خبر أن هناك من ينتظر ميشيل في الساحة! حتى أحلامي يعوزها النهايات الجميلة!

31/12/1983-2023:

إلى مصطفى عنتابلي

***

ما بالكَ في ليلةِ رأسِ السنة

تجلِسُ ساهِمًا مُكتئبًا

وكأنَّهُ حقًّا يعني لكَ شيئًا

وَداعُ عام

واستقبالُ عام.

/

قُم افعل كما يفعلُ الآخرون

وهُم يفعلون

كما

يفعلُ الآخرون..

29/12/2023:

عام آخر مضى، جاع فيه السوريون وأذلّوا. عام آخر مضى، صبر فيه السوريون على الفاقة والمهانة والعيش دون أمل ودون أمان ودون غد. عام آخر مضى، كافح فيه السوريون لأجل البقاء على قيد ربطة الخبز وحبة الزيتون وعلبة الدواء. إلّا أنهم باقون باقون، أعدكم، في انتظار الفجر!