“يبدو أنني مضطر لوضع هذا المنشور ، لأني لاحظت أن عدد المتابعين ينخفض، ومنشوراتي لا تظهر أمام الأصدقاء ومنشورات الأصدقاء لا تظهر أمامي”. هذه آخر ديباجة وُضِعت كاستهلال للنص الذي يُطلب أولاً التفاعلُ معه بتعليق ما، ثم نسخه ولصقه على حساب المتفاعل كي يستمتع بدوره بمزيد من التفاعل مع جهات الاتصال الخاصة به!
هذا النص الموحَّد هو الأوسع انتشاراً على حسابات سوريين على الفيسبوك خلال الأيام الأخيرة، ومنهم تحديداً الذين يواكبون الشأن العام، وإذا استخدمنا مفارقات يحلو لبعض السوريين “على الأقل” استخدامَها يمكن القول أنه الأوسع انتشاراً في الأيام ذاتها التي باشرت فيها إسرائيل قصفها الوحشي لغزة. لكن من الصعب مضاهاة الفرضية الأصلية للمؤامرة، فإلى جوار مؤامرة الخوارزميات الأصلية ستتكاثر المنشورات التي تتهم الخوارزميات بحجب أي كلام لا يحابي إسرائيل، بل بمعاقبة أصحاب هذه الحسابات الذين لا يمتثلون لمعايير المنصة.
والحديث عن هذه الخوارزميات “المشؤومة” بدأ قبل سنوات، بلغات أخرى مثل الإنكليزية والفرنسية، وهناك مختصّون فنّدوا محتواه. الظاهرة شبيهة بألعاب تعجّ بها المنصة، لو لم تُأخذ على محمل الجد من أشخاص بعيدين عن تلك الألعاب، ولو لم تُرفع إلى مصاف المؤامرة. والطريف أن المنشور السحري يأتي بثمار فورية، إذ يلقى صاحبه تفاعلاً أعلى من التفاعلات التي كان للتو يشكو من قلتها، ومن المحتمل أن يلقى لفترة ما تفاعلات أعلى مما سبق، وأن تظهر حسابات الذين تفاعلوا مع منشوره السحري في صفحته الرئيسية أكثر مما كان يحدث سابقاً.
لكي نفرغ من الجانب التقني؛ ذلك كله ليس بجديد على البرمجيات التي تتابع اهتمامات المستخدم، ومنصة الفيسبوك تتعامل مع المستخدمين كزبائن تقدَّم لهم الإعلانات الملائمة لاهتماماتهم كما تظهر من خلال تفضيلاتهم وعمليات بحثهم على المنصة أو على ما هو مرتبط بها، وهذا عنصر أساسي في العملية التسويقية وفي اجتذاب الإعلانات. المنصة، بالطريقة ذاتها، تتعامل مع تفضيلات المستخدمين فيما بينهم، ويستطيع أي واحد منهم بسهولة أن يلاحظ أن الأشخاص الأقل تفاعلاً مع منشوراته بمرور الوقت لا يظهرون في صفحته الشخصية، ما لم يكن هو مواظباً على التفاعل مع منشوراتهم. المصلحة الأساسية الأكيدة لمالكي المنصة هي أن يقضي المستخدمون مزيداً من الوقت في التصفح، وأن يتفاعلوا بكثرة مع المنشورات، بهدفٍ شديد الوضوح هو جني الأرباح من المعلِنين الذين يأخذون مجمل الإحصائيات باعتباراتهم.
لا تتوفر إحصائيات عن الأوقات التي يقضيها السوريون في التصفّح، وهي مهمة شاقّة جداً بسبب توزعهم على العديد من بلدان اللجوء. الأكيد هو نقص التفاعل فيما بينهم، والمنشور الذي يطلب التفاعل هو دلالة كافية على التراجع، وربطه بـ”مؤامرة” من إدارة الموقع فيه تجاهل متعمد أو “حسن النية” لتشرذمهم الافتراضي الذي لا يفترق عن تشرذمهم الواقعي.
باستخدام مفردات من المنشور إياه، نستطيع القول أن كثرة التفاعلات السابقة تعود إلى خوارزميات الثورة، بينما تعود قلّتها الحالية إلى خوارزميات الهزيمة، من دون إهمال عوامل أخرى متصلة بالتواجد المتزايد على منصات غير الفيسبوك. ففي الأصل أتى دخول السوريين الكثيف إلى هذه المنصة مع انطلاق الثورة، وكانت بين طليعة الوسائط الإعلامية الأساسية لتبادل المعلومات والخبرات فيما بينهم، وأيضاً لبناء مواقف جماعية من الحدث السوري. وربما يكون الحال مشابهاً لبلدان أخرى في المنطقة، شهدت الطفرة ثم الانكفاء ذاته.
على أرضية الحدث السوري نفسه، كان الفيسبوك وسيلة لتعارف فائض عن المألوف بين السوريين، ومن شبه المؤكد أن المشاعر الإيجابية بين أبناء “الخندق” الواحد لعبت دوراً في نسج صداقات واقعية، أو الإيحاء بأنها واقعية رغم بقائها في الحيّز الافتراضي، وبما تعدّى في الحالتين المشترَكات التي تُبنى عليها الصداقات عادة. ومن المنطقي أن انحسار المشترك السياسي سيؤدي إلى بروز التباينات والاختلافات التي غابت مؤقتاً، ولن يكون مفاجئاً جداً أن تقفز إلى الواجهة الخلافات التي كانت مقصية، فيذهب معها وهم الصداقة ووهم “الزمن الجميل” للفيسبوك.
ومثلما شجّعت خوارزميات الثورة النوازع الإيجابية، على صعيد الجماعات والأفراد، فقد أبرزت خوارزميات الهزيمة الأسوأ لديهما. والأسوأ لم يكن بالضرورة كامناً وراء تلك المشاعر الإيجابية، بل إن الهزيمة كفيلة بغرس ما هو سلبي وتنميته ليطغى على ما عداه. لدينا مثلاً حدثٌ راهن لم يتساءل خلاله السوريون عن الخوارزميات التي لم يُلاحظ لها تأثير “خبيث”، الحدث هو انتفاضة السويداء التي أعادت نسبة ملحوظة منهم إلى التصفّح والتفاعل فيما بينهم كتعبير عن الرغبة في استعادة المناخ العام الإيجابي، وتغليبه على الانقطاع والنفور المستفحلين.
فقدت انتفاضة السويداء صدارة الاهتمام، وذهبت معها فورة التفاعل الإيجابي، ليطلّ ذلك المنشور الذي يشكو من الخوارزميات. ومن السهل الانتباه إلى أن تداوله يكشف عن حاجة واسعة، مفهومة ومشروعة، إلى اهتمام الآخرين المعبَّر عنه بتفاعل فيسبوكي، بل لعل التفاعل المطلوب له الأولوية على القراءة ووصول مضمون المنشور الذي لا يعدو في كثير من الأحيان كونه مناسبة للتفاعل ليس إلا. في الوقت نفسه يسهل استنتاج أن أولئك المحتاجين إلى اهتمام وتفاعل الآخرين لا يبادرون من جهتهم إلى التفاعل معهم، وربما هم حقاً غير قادرين عليه بنفس درجة تطلبّهم.
لا شك في أن نسبة ما ساهمت في ترويج المنشور انسياقاً مع المجموع، إلا أن كثرة انتشاره في الأيام الأخيرة ذات دلالة على الأحوال الواقعية للسوريين، وعلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي عليهم، التأثير غير المفكَّر فيه أو غير المصرَّح به. سخرية البعض من المساهمين في نشره تختزل الأمر بالمعرفة التقنية، بينما الخوارزميات الحقيقية التي يجدر التحدث فيها هي مجموعة من ركام الهزائم، تسهل فيها العداوات على خلفية الاتهامات المتبادلة بالمسؤولية عن الهزيمة بالمقارنة مع التكاره المعمم، والذي يتوسل كثر الخلاصَ من وطأته بـ”لايك” أو قلب افتراضي. ربما، بخلاف ما يتوارد إلى الأذهان في هذه الظروف، يكون منطقياً جداً التعبير عن الحاجة إلى الآخرين ولو افتراضياً؛ ربما لأن ما تتعرض له غزة ينكأ جراحاً سوريةً لم تُغلق بعد.