مازالت أهوال الحرب، ومنذ صبيحة السبت السابع من أكتوبر وإلى اليوم، تُرخي بفظاعاتها على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية، وما يزال لهيبها مستعراً ويهدد في أن تصل نيرانها إلى أكثر من منطقة في الشرق الأوسط.
فبعد غزة التي باغتت منها “كتائب القسام”، الجناح العسكري لحركة حماس الإسلامية إسرائيل في هجوم صاعق بالصواريخ وبالمشاة وعبر طائرات مُسيَّرة أعدَّت لهذا الخصوص، وأدى إلى اختراق خطوط الدفاع الإسرائيلية والسيطرة على عشرات المستوطنات المحيطة بغزة والمعسكرات المنتشرة في المنطقة المدعوة بـ”غلاف غزة”، والتي كان من نتيجتها قتل واقتياد (أسر) المئات من الجنود والمستوطنين من سكان المستوطنات المدنيين إلى غزة، ما أشاع أجواء الفزع والصدمة والارتباك في عموم مفاصل الدولة العبرية، الأمر الذي لم تشهده برأي خبراء كثر متابعين طيلة حروبها مع الدول العربية منذ نشأتها في العام 48 وإلى اليوم.
هذه الوقائع لم يكن لها وقع الصدمة على الآلة الأمنية والسياسية في إسرائيل فقط، والتي تجلت بحرب هستيرية وقصف على قطاع غزة، بكل ما فيها من بشر وحجر ومقومات حياة، بل طالت الصدمة الإدارة الأمريكية ذاتها، ما دفع الرئيس بايدن إلى اتخاذ سلسلة من المواقف والتصريحات لم تكن في جوهرها أقل حدة عن تلك التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية وحكومة الحرب أو الطوارئ التي أملتها ظروف الحرب.
وهنا من الضروري الإشارة إلى أن من بين الأسرى الذين كانوا قد وقعوا بأيدي “كتائب القسام” من هم من الرعايا الأمريكيين ورعايا بعض الدول العربية أيضاً.
الإجراءات العاجلة والتي كان على رأسها إطلاق تهديدات للأطراف الإقليمية التي يشتبه بدورها في ترتيب عملية “حماس”أو تسعى لاستغلال الوضع الناشئ، في إشارة واضحة إلى حزب الله وإيران والقوى التي تدور في فلكها، ثم بعد ذلك الإيعاز إلى أحدث حاملات الطائرات الأمريكية “جيرالد فورد” ثم “إيزنهاور” في الإبحار إلى قبالة السواحل الإسرائيلية.
وضمن استعراض ردّات الفعل التي مازالت تتوالى ويغلب عليها الطابع الانفعالي والذي لم يهدأ حتى الآن على المستويات الإسرائيلية والأمريكية والدولية، يجب التذكير بأن إسرائيل قد اتخذت قرارا بتعبئة مئات الألوف من قوات الاحتياط وصل إلى حد الثلاثمئة وستون ألفاً، في تطور لا مثيل له في سرعته، والذي أنجز خلال نحو عشرات الساعات فقط؛ كانت روسيا قد استغرقت لجمع عدد أقل منه خلال أسابيع وربما أشهر، وهذه نقطة هامة يجب ملاحظتها بدقة والتوقف عندها، لأنها ذات دلالة هامة وتجيب على كثير من الأسئلة التي تتعلق بطبيعة الدولة العبرية وبمسار الحرب، ولأنه رغم التقولات الساذجة المتفائلة بقرب انهيار الكيان الإسرائيلي بفعل الهجرة المعاكسة؛ يجب علينا أن نتخذ جانب الواقعية في معرفة عدونا، وفي تسليط الضوء على عوامل القوة التي يقوم عليها بناء الدولة في إسرائيل، ولأنها دولة ديمقراطية ومدنية ودولة قانون؛ كان الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية لا يلتحق بدبابته التي يعرف مكانها ومهامه فيها،ولا كانت الأخبار تنقل أن أسطولاً من الطائرات المدنية كان يعمل ليل نهار على نقل المدعوين إلى الخدمة الاحتياطية من عواصم العالم المختلفة المنتشرين فيها، في خطوة تسجل للنظام الديمقراطي الذي يساوي بين المواطنين، بصرف النظر عن أن هذا الكيان مصطنع ولا تتوفر له الشرعية التاريخية والأخلاقية.
وفيما قد يكون ذي صلة بأخلاقيات الحرب المندلعة؛ فإنه يجب لفت الانتباه إلى أنها حرب قذرة بكل معنى الكلمة، وضحاياها جلهم من الأبرياء، وقد وصل غلوها بالاستهتار بحياة المدنيين، ومن قبل كلا طرفي الحرب، إلى مستويات غير مسبوقة، على أنه من نافل التذكير أن “حماس” قد أعطت الحجة للإسرائيليين في أنها كانت البادية، ليصل التوحش الإسرائيلي إلى ارتكاب جرائم حرب لم تعرفها غير حروب النازية نفسها ضد اليهود، ثم ليصل المشهد المروّع إلى جريمة “مشفى المعمداني” في غزة والتي سقط جراءها مئات القتلى والمصابين.هذه المجزرة التي هزت ضمير العالم، وتنصلت القوات الإسرائيلية من المسؤولية فيها، مدعية أنها بفعل صاروخ أخطأ طريقه وتسببت به “حركة الجهاد الإسلامي”، وأيدت الرؤية الأمريكية الرواية الإسرائيلية إلى حد كبير عبر حديث الناطق باسم الخارجية، والذي أفاد بأنهم “مقتنعون بصحة التقارير الاسرائيلية حول المجزرة؛ لأنها مسنودة بالدلائل”،ورواية “الجهاد الإسلامي” لاتتعدى عن كونها ادعاءات لا تتمتع بأية براهين على صحتها، لكن الوقت الآن ليس مناسباً لفتح تحقيق دولي بالموضوع.
وبعيداً عن جنوح هذه الحرب عن كل الطرق والأعراف في الحروب؛ فإن ما يجب التركيز عليه هو أهداف هذه الحرب وأطرافها الحقيقيين والمستويات الجيوسياسية التي قد تبلغها، وعليه يجب ألايفوت الدارس أن ولاعة غزة لم تكن حدثاً مستجداً أو تطوراً في تفاصيل حرب تحرير قد شرع الغزاويون بخوضها بحثاً عن حقوقهم المشروعة التي لا يجادل بأحقيتها اثنان اليوم، ولا بمسوّغاتها بوجه التنكر الصهيوني الدائم لحقوق الفلسطينيين المشروعة بإقامة الدولة المستقلة وبحل الدولتين الذي أقرته القوانين الدولية، لكن الجديد في الأمر هو أن “حماس” نفسها هي من أزاحت على مستوى الساحة الفلسطينية؛ بل قتلت المئات من كوادر حركة”فتح” لاستبعاد “منظمة التحرير” من الواجهة كمنظمة تمثل الشعب الفلسطيني معترف بها وتتمتع بشرعية دولية وبحضور وتمثيل في المؤسسات الدولية. أبعدتها بقوة الدعم الإيراني والتركي في أحيان كثيرة، وضمن ما بات يتكرر في تباري كلا الدولتين في العمل على “تحرير القدس”، في تسابق واضح، وكان قد جرى الشيء نفسه في جنوب لبنان، حين نجحت إيران في تحجيم دور أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية وقوى اليسار لمصلحة حزب الله، ولتتحول المقاومة من وطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى اسم “المقاومة الإسلامية” وليتبلور في الجو شعار إزالة إسرائيل وهزيمة أمريكا وطردها من المنطقة، والذي هو سيد الموقف ومحرك الأحداث.
وهنا يجب ملاحظة أنه وفي سياق التطورات والمواقف التي رافقت هذه الحرب،أو كانت العلة في إيقاظها، أنها حرب لم تكن محض فلسطينية إسرائيلية؛ بل هي حرب تدور بين محاور تشكلت على مستوى المنطقة وعلى نطاق العالم، ولم تكن غزة غير البداية أو الحجة، والمدخل لصراع إقليمي وعالمي أشد شراسة وعمقاً بين خطابين متناقضين يدوران ويريدان تشكيل المنطقة كل بحسب مذهبه ومصالحه.
الأول إيراني روسي تركي ومن يدور في أفلاكهم من قوى ومنظمات جلها إسلامي أو يساري راديكالي، وقد تكون للصين دور في الخلفية، وما بين محور أمريكا إسرائيل ودول الغرب في الناتو ومن يتوافق معها، يدخل في هذا التوصيف أو يعززه على الضفة الإسرائيلية،وفي اليوم الأول للحرب، كلام نتنياهو بأن “إسرائيل في حالة حرب”، و”سنقضي على “حماس” ووجهتنا تغيير وجه الشرق الأوسط برمته”، ما يعني أن شرق أوسط جديد صار على الأجندة الإسرائيلية والأمريكية.
يعزز هذا الاصرار الانخراط الأمريكي النشط وانخراط قادة دول عديدة في الناتو بالمعركة،إلى جانب إسرائيل، ولا أدل على ذلك أكثر من زيارة الرئيس الأمريكي بايدن لإسرائيل،ومشاركته المباشرة في أعمال غرفة عمليات الحرب الجارية مع قادة إسرائيل المعنيين. هذه الزيارة لإسرائيل والمنطقة وإن سجلت في بعض جوانبها فشلاً وقتياً، تجلى بمقاطعة زعماء مصر والأردن، بالإضافة إلى رئيس السلطةالفلسطينية للقاء المزمع عقده معه في عمان، جرياً مع المزاج العام الذي احتدَّ مع جريمة مشفى “المعمداني”،فالزيارة بحد ذاتها تبقى في معانيها.
ما يؤكد أن هذه الحرب ذات دوافع وحسابات تتجاوز حدود المنطقة،أو تحاول أن تدخل معطى جديداً تضيفه على خارطة الصراع المستمر في أوكرانيا بين الناتو وروسيا،أو تضيف مزيداً من التوتر على قضية تايوان مع الصين، فإن هذا الصراع الذي قد يكون دخل عتبة استحقاقات اقتصادية وأمنية حرجة وجديدة، مع انطلاق مشروع الخط البحري والبري الجديد الذي يربط ما بين الهند ودول الخليج العربي فإسرائيل، ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبي، متجنباً تركيا وإيران.
ولأن الخط الرابط الجديد سيترافق حتماً مع خطوط لنقل الغاز وحوامل الطاقة؛ فهذا يعني وصول الغاز والنفط من دول الخليج إلى أوروبا، وهو ما سيضر كثيراً بمصالح روسيا وسيوفر بديلاً للدول الأوروبية عن الغاز الروسي الذي طالما كان محل ابتزاز من الروس، وكما سيضر أيضاً بالصين وتركيا وغيرها من الدول التي ستكون معزولة عنه، لذلك نشهد مع تصاعد الحشد العسكري في شرق المتوسط والخليج، تنامي حالة الاستقطاب وتزايد عوامل الارتباك والقلق في صف محور روسيا–إيران– تركيا، ويسرّع تحت ضغط المعطيات الجديدة الرئيس الروسي بوتين بإجراء زيارة إلى الصين، ثم تتواتر تصريحات أردوغان المتذمرة من ولوج حاملات الطائرات الأمريكية مياه شرق المتوسط، وكما هو الحال في طهران التي زعم مرشدها بأن صبر المقاومة كاد ينفد وبأن عملاً استباقياً قد تقوم به، ما يعني أن منطقتنا على حافة مواجهة متدرجة كبرى، ليست حرب غزة غير الفاتحة فيها.