……………………………..
بداية سأقدم وصفا موجزا لتوزع الزنزانات والمهاجع في قبو فرع التحقيق العسكري، تساعد في فهم الجو العام لظروف الاعتقال. هناك ثلاثة أقسم افتراضية. قسم الزنزانات ويضم 36 زنزانة، موزعة على حارات، كل حارة تضم ست زنازين، ثلاثة مقابل ثلاثة. وقسم المهاجع الذي يضم، حسما اذكر، 14 مهجعا مختلفي المساحات. ثم القسم الشرقي، وهو قسم التخزين ويضم ” مزدوجات” اي أكبر من المنفردة بقليل. سمي قسم التخزين لانه يسجن فيه سياسيين متميزين وبشكل منفصل عن الاخرين ولمدد طويلة.
في النصف الثاني من عام 1984 كنت واربعة عشر رفيقا في المهجع رقم واحد. أخرجونا من المنفردات وجمعونا في المهجع رقم واحد وفي المهجع رقم اثنين، وبقي البعض في أماكن اخرى من القبو. المهجع رقم واحد يقابل تماما تجمع التواليتات والحمامات، اعتقد خمسة تواليتات.
يرتب السجان خروج المعتقلين في هذا الجناح، الشرقي، بالدور. يخرج المقيمين في المزدوجات بالترتيب، مزدوجة إثر اخرى، ولا يجوز أن يخرج اكثر من قاطني مزدوجة واحدة. وكان اغلب المقيمين في كل مزدوجة معتقل واحد. يعطيه الوقت الكافي لقضاء جميع حوائجه. في تلك الاوقات، اوقات خروج المعتقلين الى التواليت، كنا، نحن قاطني المهجع رقم واحد، نسمع صوت ايقاعي ” لشحاطة” وهي تضرب الارض برتم واحد لا يتغير. رتم منتظم لمشية منتظمة. وكنا نقول ” اجا الرجل العجوز صاحب الشحاطة” ونسرع الى الطاقة، طاقة الباب، ونرى من خلال ثقب فيها، الرجل ذو المشية المنتطمة وفق ايقاع الشحاطة، يحمل طشتا بيده، ويضع نظارات طبية سميكة على عينيه، ويمشي بثقة وبسرعة معتدلة الى حيث التواليت.
كنا نتسائل من هو هذا الرجل ذو الطشت ومشية الشحاطة الايقاعية، ولم نكن نهتدي الى جواب. كنا نتأسى لحالة ونتعاطف معه، لكونه رجلا عجوزا، كان اكبرنا لا يزيد عن 25 سنة في ذلك الوقت.
اصبح لصوت ايقاع الشحاطة سحرا خاصا، نسرع الى الطاقة ونتزاحم لرؤية هذا الرجل، ونحن نخترع قصصا عن حياته. ونسأل لما هو في المزدوجات، وما هي اسباب اعتقاله. كنا حصلنا على معلومات ان قاطني هذه الاماكن، المزدوجات، سياسيون خطرون على النظام. من بين النزلاء عرفنا ان الدكتور كرامي بدورة نقيب المهندسين كان من النزلاء، وأن مستشار الزعيم ياسر عرفات كان من بينهم. مقارنة بهذه المعلومة لم أستطع التخيل من يكون هذا العجوز ذو المشية اليقاعية. لأنني كنت أفترض وفق صورة مسبقة أن الرجال المهمين والمناضلين يكون لهم شكلا مختلفا. شكل يقول وفي كل لحظة: انا مناضل، انا مناضل. بينما هذا العجوز لا يقول شكله شيئا مما خزنت الذاكرة من صور عن المناضل في ادب السجون، التي كنت قرأت الكثير منها، والتي كانت مزيفة الى درجة الاقياء.
الى أن أتى يوم عرفنا من يكون هذا العجوز ذو الطشت والمشية الايقاعية. وعندما عرفنا استعت عيوننا على اخر مدى وشهقنا شقة واحدة من فرط الدهشة وصحنا دفعة واحدة:
ـــ رياض الترك!!!!!!!!!
نعم إنه ببساطة رياض الترك. الذي امضى كل فترة اعتقاله 18 عاما في تلك المزدوجة وبعض من حبات العدس، التي كانت يصرف جل وقته في عد حبات العدس، وتشكيل واعادة تشكيها وفق تصورات معينة.
قررنا أن نلتقي به في مكان التواليت. وكان اللقاء به يحمل مخاطر جمة لنا وله، ولكن حماسنا، ومحاولة أن نقوم بأي عمل له قيمة في تلك الظروف جعلتنا لا نرى مخاطر تلك الخطوة. رسمنا خطة ونفذناها. والتقينا به في ذلك المكان، وعرضنا عليه المساعدة، نقودا او موادا اخرى وكان رده:
ـــ شكرا لكم، شكرا لكم لست بحاجة لشيء.
بعد أن عرفنا من هو هذا العجوز، لم يعد عجوزا ولم نعد نراه موضوع للشفقة، بل تحول ان رجل شامخ، مصدر اعتزاز لنا جميعا. اصبحت مشية الشحاطة الايقاعية موسيقا تصويرية لقصة نضال رجل قوام كل صنوف القهر بأنفة ذلك الاعرابي الذي رفض أن ينحني لابعاد الثعبان الذي عضه من كعب قدمه، فأودى السم بحياته.
قال رياض الترك للسجان الذي حاول ان يصادر ملعقة الامنيوم، التي سمح له باقتنائها، عندما حاول السجان الجديد ان يصادرها، لانه ممنوع على السجين اقتناء ملقعة من المعدن:
ــــ هذه الملعقة من عمرك.
عندها اصيب السجان بدهشة تعادل دهشتنا عندما علمنا من يكون صاحب الطشت والمشية الايقاعية.
وفي زيارة لضابطين من الفرع لمهجعنا بعد ان تم تجميعنا في مهجع واحد، وكنا وقتها 40 معتقلا. قال الرائد للملازم الاول الذي اتى معه، الذي تكلم عن رياض الترك:
ـــ لمعلمك موشايفه، ولا شايلو من ارضه
يقصد أن رياض الترك، المعتز بنفسه وصاحب الانفة الكبيرة لا ير رئيس الفرع ولا يتنازل حتى الحديث معه.
تمت اكثر من محاولة من قبل النظام لاخراج رياض الترك ولكن تحت شروط راها رياض بأنها غير جديرة حتى بالنقاش. كان رافضا لاية مساومة مهما كانت صغيرة مقابل اخراجه من السجن.
رياض الترك رجل من طراز مانديلا، بل اعتقد اذا ما أخذ بعين الاعتبار ظروف السجن في البلدين، وقسوة الشروط في المكانين، وفظاعة النظام السوري حتى بالمقارنة مع نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا، ارى أن ظروف اعتقال رياض الترك اقسى بكثير من شروط اعتقال نيلسون مانديلا.
رياض الترك هو نوع خاص ومميز من الناس. نوع تأسره القيم، وينظر الى الحياة بعمومها وحياته خاصة من خلال مجموعة من الصفات القيمية. قائد يختصر القيادة في شخصه، وزعيم يقف على أعلى القيم الهرمي في التضحية بالنفس مقابل قناعاته.
أكتب هذه الكلمات من موقع الشاهد والمنصف لشخصية من هذا الطراز، رغم أنني غادرت الايديولوجيا التي يؤمن بها وكنت ايضا من صفوفها. ولكن ليست مجرد كلمات أن يقضي 18 سنة في المنفردة ولوحده، ي اعتقاله الاول الذي اتحدث عنه.
هو ولا أحد غيره من قال ” الان مات الديكتاتور” عندما مات حافظ الاسد. وقتها كانت سوريا كلها ترتجف من الخوف.
رحل رياض الترك وترك ذلك الاثر الطيب والنبيل لحياة يمكن الحديث عنها كثيرا.