منذ بدأت حرب غزة، ولأسباب كثيرة، فإن فصائل “الحشد الشعبي” العراقي تجد نفسها في “حرج شديد”، ومحل انتقاد و”ابتزاز” شعبي داخلي، بسبب التناقض الهائل بين شعاراتها وأفعالها الميدانية، وتباين سلوكياتها ومواقفها مع المؤسسات الشرعية والأجهزة الرسمية في البلاد.
يحدث ذلك منذ بدأت الحرب، لأن فصائل الحشد جزء من المؤسسة العسكرية والأمنية الشرعية العراقية تنظيميا، وهي تابعة لإدارة وإرادة رئيس الوزراء، القائد العام والأعلى لمختلف القوات المسلحة في البلاد. لكنها فعليا وعقائديا مرتبطة و”تابعة” للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، تُدرج نفسها ضمن خطاب وآلية عمل ومخططات هذا الطرف، ولا تجد حرجا في التعبير العلني الواضح عن ذلك، غاضة النظر عن التعارض بين تابعيتها المؤسساتية والتزامها الواجب بخيارات الدولة والحكومة العراقية تجاه حرب غزة، وآلية نشاطها العملاني وارتباطها بالمحور الإيراني، وما قد يُفرض عليها من قِبل محور إيران من خيارات خلال هذه الحرب.
كذلك فإن “الحشد الشعبي” العراقي، بمختلف فصائله وتسمياته ودرجات ولائه لمحور “الممانعة”، حائر تماما بين فيض الشعارات والوعود التي يطلقه ويبني على أساسها جزءا واسعا من شرعيته وأسباب وجوده، وعلى رأسها عرض نفسه كفاعل ولاعب عسكري إقليمي، واستنكافه الميداني وتواضع قدراته على فعل أي شيء خلال “حرب غزة” الحالية؛ فالحشد لا يمكنه الانخراط في معارك ومواجهات مع دول وقوى تملك أنظمة دفاع جوي وقدرات لوجستية تفوق ما لدى الجيش العراقي نفسه.
“الحشد الشعبي” لا يمكنه الانخراط في معارك ومواجهات مع دول وقوى تملك أنظمة دفاع جوي وقدرات لوجستية تفوق ما لدى الجيش العراقي نفسه.
ضمن هذه الأجواء الضاغطة، مارست فصائل “الحشد الشعبي” مجموعة من السلوكيات، التي حاولت من خلالها خلق توازن بين تلك التناقضات؛ إذ أصدرت بيانا أعلنت فيه “دعمها الكامل للمقاومة في فلسطين”، مضيفة في البيان نفسه: “إن عملية طوفان الأقصى هي الرد الحاسم والصوت الرافض لكل اعتداءات الاحتلال الصهيوني على المسجد الأقصى وأهلنا في القدس المحتلة… إننا في هذه اللحظة التاريخية نعلن عن دعمنا الكامل لإخواننا المقاومين الأبطال، ونشد على أيديهم وندعو لهم بالصمود والثبات، كما ندعو كل شعوب العالم وأحراره إلى مساندة الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة ودفاعه عن أرضه ومقدساته”.
وهو ما كان مختلفا بوضوح عما صدر عن المتحدث الرسمي باسم الحكومة العراقية باسم العوادي، الذي قال: “إن العراق يؤكد موقفه الثابت، شعبا وحكومة، تجاه القضية الفلسطينية، ووقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني في تحقيق تطلعاته ونيل كامل حقوقه المشروعة، وأن الظلم واغتصاب هذه الحقوق لا يمكن أن يُنتج سلاما مستداما”، محذرا مما سماه “استمرار التصعيد داخل الأراضي الفلسطينية”؛ لأنه “سينعكس على استقرار المنطقة”، داعيا جامعة الدول العربية إلى الانعقاد بصورة عاجلة لبحث تطورات الأوضاع الخطيرة في الأراضي الفلسطينية.
كذلك أصر رئيس هيئة الحشد فالح الفياض على “أن بلاده ستقوم بكل الواجبات تجاه الفلسطينيين، سواء على صعيد المساعدات أو على المستوى العسكري.. لقد أظهرت عملية طوفان الأقصى أن كيان الاحتلال مهزوز. وأن أميركا شريك أساسي للاحتلال”.
أما رئيس منظمة بدر، التنظيم الرئيس ضمن “الحشد الشعبي”، فقد هدد الولايات المتحدة الأميركية بشكل علني، في حال تدخلها لصالح إسرائيل في هذه الحرب، قائلا: “إن تدخلت أميركا في فلسطين سنتدخل، ولن نتردد في الاستهداف، يجب أن نكون مهيئين للدفاع عن القضية الفلسطينية الشرعية”.
رئيس منظمة بدر، التنظيم الرئيس ضمن “الحشد الشعبي”، فقد هدد الولايات المتحدة الأميركية بشكل علني، في حال تدخلها لصالح إسرائيل في هذه الحرب، قائلا: “إن تدخلت أميركا في فلسطين سنتدخل، ولن نتردد في الاستهداف، يجب أن نكون مهيئين للدفاع عن القضية الفلسطينية الشرعية”.
يأتي هذا التصريح على الرغم من كونه مسؤولا برلمانيا وحكوميا، ورئيسا للجنة تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي. وقد وافقه زعيم فصيل عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، الذي هدد بالتدخل مباشرة، قائلا: “سنبقى نراقب الأحداث عن قرب مستعدين غير متفرجين”.
قادة “الحشد الشعبي” كانوا مخالفين تماما لما حدده رئيس الوزراء محمد شياع السوداني كاستراتيجية عراقية للتعامل مع الحرب الحالية، أثناء لقائه مع أمين عام جامعة الدول العربية، حين أكد على “موقف العراق الثابت والمبدئي من الحق الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على التراب الوطني، ووجوب حماية المقدسات في الأراضي الفلسطينية من محاولات طمس الهوية التاريخية، وعمليات الاستحواذ والاستيطان التي يمارسها الكيان الصهيوني الغاصب”.
ومع تلك المواقف والتعليقات التي لم تتجاوز بعدها الإعلامي، نفذت الاستطالات السياسية والشعبية لفصائل الحشد الشعبي تجمعات جماهيرية ومهرجانات خطابية ومسيرات عامة ووقفات تضامنية، كانت تدعو وتنادي بالكثير من الشعارات السياسية، أقلها فتح الجهاد وتوحيد الساحات والزحف نحو فلسطين؛ لكنها لم تفعل أي شيء عمليا. حتى الحملة الشعبية لجمع التبرعات والمساعدات الإنسانية وفتح المراكز لصالح سكان قطاع غزة، والتي دعت إليها الحكومة العراقية، لم تلقَ استجابة من فصائل الحشد الشعبي، أو جهدا شعبيا مماثلا من قِبلها.
التقارير الإعلامية التي نقلتها وسائل إعلام محلية وإقليمية عن مصادر “مطلعة من داخل فصائل الحشد الشعبي”، التي أكدت انخراط الحشد في “غرفة عمليات مشتركة” مع ميليشيا “حزب الله” اللبناني وحركة “حماس”، ونشرت صور للقيادي الحشدي في فصيل “كتائب سيد الشهداء” أبو آلاء الولائي، قيل إنها على الحدود بين لبنان وإسرائيل، والحديث عن انتقال عدة آلاف من مقاتلي “الحشد” إلى كُل من سوريا ولبنان، كلها معلومات لم تجد لنفسها إثباتات على أرض الواقع، وإن حدثت فعلا، فإنها لا تعني أن الحشد قد نفذ أي جهد عسكري فعلي مباشر.
معلقون على وسائل التواصل الاجتماعي، ومثلهم الكثير من قادة الرأي وصُناع المحتوى العراقيون، أثاروا هذه التناقضات في وجه “الحشد الشعبي”، مذكرين إياهم بـ”ترسانة الخطابات” التي بقوا يطلقونها طوال عقد كامل مضى، في وقتٍ أثبتت الأحداث عدم قدرتهم على فعل أي شيء عمليا، وارتهان إرادتهم السياسية بيد طرف خارجي؛ مشبهين فصائله بعشرات “الجيوش” والعناوين الرنانة التي أسسها النظام العراقي السابق، ولم يسعَ أو يحقق، أو ينخرط أي منها في الصراع ضد إسرائيل.
المنخرطون العراقيون في الجدال مع فصائل “الحشد الشعبي”، أشاروا إلى التناغم بين تحركات ومواقف فصائل الحشد الشعبي بما يوازيها ويناظرها إيرانيا، في إشارة إلى تلقيها لحزمة من التوجيهات اليومية المباشرة من هذه الأخيرة.
فبعد تهدئة دامت لأكثر من أسبوع، متوائمة مع السكون الإيراني تجاه غزة، ارتفعت وتيرة خطابات قادة الحشد، بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان للعاصمة بغداد، ولقائه عددا من قادة فصائل الحشد الشعبي، وتحذيره من “اتساع جبهات الحرب”، في حال استمرت وتيرة الحرب على ما هي عليه، الأمر الذي فسره الخبراء باعتباره تهديدا باستخدام ورقتي “حزب الله” اللبناني والحشد الشعبي العراقي، لأنها أعقبت تصريحات إيرانية بعدم التدخل مباشرة، في حال امتناع إسرائيل عن استهداف الجيش أو المصالح الاقتصادية والحيوية الإيرانية.
ثلاثة عوامل
وفي حديث مع “المجلة”، يشرح المحلل والباحث الأمني، رضوان مجكاني، كيف أن ثلاثة عوامل مركبة تدفع “الحشد الشعبي” لأن يكون متحفظا وساكنا تماما، على الرغم من الحرج الشعبي والسياسي الكبير الذي يصيبه، “أولا: لأن القادة العسكريين ضمن فصائل الحشد يعرفون القدرات العسكرية الميدانية الحقيقية للحشد، ومدى تواضعها وعدم قدرتها على خوض أي نوع من الحروب التقليدية، بالذات تلك التي في مواجهة الدول والقوى الكبرى. فالحشد في المحصلة مجموعة من الفصائل المسلحة المتناثرة، كانت قادرة على مواجهة تنظيمات مثل داعش، أو الضغط على البيشمركة الكردية، وفي أفضل الأحوال مشاغبة المصالح الحيوية والسياسية الأميركية في العراق. لكن انتشارها الواسع في البراري العراقية والسورية الوسيعة، وانكشافها الجوي التام، عامل ضعف جوهري، قد يعرضها لـ(إبادة) ميدانية، لو دخلت في مواجهة مفتوحة مع أية دولة”.
ويضيف مجكاني في حديثه: “العامل التنظيمي ضمن محور من يسمون أنفسهم (المقاومة والممانعة) محدد رئيس آخر ضمن هذا السياق. فمثلما تُكلف إيران حزب الله اللبناني بخلق ضغوط وأنواع من التحرش بإسرائيل، وبعض الفصائل اليمنية ضد دول الخليج العربي، فإن الحشد الشعبي العراقي موكل بمهام عسكرية وأمنية مختلفة تماما، تمتد من الضغط على الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية داخل العراق، ولا تنتهي بتعكير الوجود العسكري التركي في العراق وإزعاج إقليم كردستان والتمدد لمواجهة فصائل المعارضة السورية شرقي سوريا؛ فالحشد الشعبي العراقي غير موكل بأي شكل لأن يكون جزءا من الاشتباك مع إسرائيل، وإن كان مثله مثل باقي الاستطالات الإيرانية يستخدم خطاب القضية والمظلومية الفلسطينية كأداة لتثبيت شرعيته”.
“الحشد الشعبي” العراقي موكل بمهام عسكرية وأمنية مختلفة تماما، تمتد من الضغط على الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية داخل العراق، ولا تنتهي بتعكير الوجود العسكري التركي في العراق وإزعاج إقليم كردستان والتمدد لمواجهة فصائل المعارضة السورية شرقي سوريا؛ فالحشد الشعبي العراقي غير موكل بأي شكل لأن يكون جزءا من الاشتباك مع إسرائيل
أخيرا، يصف المحلل الأمني مجكاني بنية “الحشد الشعبي” باعتباره “كيانا سياسيا حاكما”، يملك ضمن أجندته حسابات خاصة بالبقاء في السلطة في العراق بأي ثمن، سواء هو أو الأحزاب السياسية “الشيعية” التي يستند إليها. فدخوله في مواجهة عسكرية استراتيجية، وتمدده إلى ذلك الحد خارج العراق، وإمكانية تعرضه لنكسة أو هزيمة، قد تؤثر تماما على موقعه في سُدة الحُكم. خصوصا وأن الفضاء السياسي في العراق لا يشبه البلدان الأخرى، فالعراق ليس دولة مركزية ممسوكة بالقوة والعنف، بل كيان سياسي قائم على توازن دقيق بين الفاعلين، بالذات ضمن “البيئة الشيعية”، التي تضج بالمتنافسين الذين ينتظر كل واحد منهم تضعضع إمكانيات الطرف الآخر.
مصدر سياسي عراقي رفيع، التقته “المجلة”، قال إن “الحشد الشعبي” مستعد لتحمل الضغوط وأنواع الابتزاز الداخلي، لكنه لن يغامر بالدخول في أية مواجهة كبرى دون حسابات دقيقة، تؤكد نجاته العسكرية والسياسية في المحصلة. المصدر أوضح أن “الحشد” سيُبقي على زخم خطاباته وأنواع تعبئته الجماهيرية راهنا، وفي حال توسع المواجهة العسكرية، خصوصا مع دخول “حزب الله” اللبناني إليها، فإن فصائل “الحشد” ستمارس أنواعا من التحركات الرمزية، مثل مهاجمة المصالح الأميركية أو قصف معسكراتها داخل سوريا، مع الإيحاء بإرسال الأسلحة والمقاتلين لصالح “حزب الله”، وعبر تغطية من الحكومة المركزية العراقية، وبنوع من التفاهم الضمني مع الولايات المتحدة نفسها.