بعد رحيل رياض الترك، اليساري السوري المعارض لنظام الأسد، عن 94 عاماً، أمضى منها نحو عقدين في السجن الانفرادي، رحل كريم مروة اليساري اللبناني، والشيوعي السابق، و”المناضل” والانتلجنسي، “وأفهَم شيوعي” بحسب الصحافي غسان تويني، والمختلف و”المعارض” لسلاح الثنائي المسيّطر على لبنان.. الترك كان صلباً ومثالياً وآتٍ من زمن فرج الله الحلو وانشقّ عن البكداشية في بداية السبعينيات، ومروة كان لفترة “دينمو” ثقافة الحزب الشيوعي في مجلة “الطريق” والندوات والمهرجانات والعلاقات مع المثقفين من الشيخ إمام إلى فيروز، ومن زياد إلى مرسيل خليفة… قبل أن يغادر الحزبية ويتفرغ في سنوات الأخيرة للكتابة.

وكريم مروة أحد “صناع” الحزب الشيوعي اللبناني في نسخته الجديدة المنبثقة عن المؤتمر الثاني 1968، وهو المولود في العام 1930 في بلدة حاريص العاملية الجنوبية، ختم القرآن وهو في عمر الثامنة، ثم تابع دراسته على شيوخ بلدته، وعندما بلغ السابعة عشر من عمره أي في العام 1947، أرسله والده الشيخ أحمد مروة إلى النجف لمتابعة دراسته فيها مع نسيبه المفكّر حسين مروة(اغتيل في شباط 1987) الذي كان قد تخلّى عن العمامة وارتدي الثياب الرسمية وأخذ يدرّس هناك بل وانتسب إلى الشيوعية، فتبعه على ذلك “أبو أحمد” أو كريم مروة الذي يقول “تحولّت منذ شبابي الباكر، في ضوء مطالعاتي في مجلة الهلال والرسالة والكاتب المصري ومجلة الطريق، وفي كتب وكتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وطه حسين وتوفيق الحكيم وجرجي زيدان وعباس محمود العقاد وكثرة من الكتّاب العرب، تحولت الى مواطن لبناني عربي وسميت نفسي قومياً عربياً. وأعطيت لقوميتي صفة مختلفة عما كان سائداً عن الكثير من القوميين العرب، صفة ابتعدت فيها عن التمييز والتمايز والقوميات الأخرى”…

وفي العام 1948 وقعت الانتفاضة في العراق ضد معاهدة بورت سموث وشارك فيها كريم مروة وأصبح يُعدّ من الشيوعيين العراقيين أو مقرّباً منهم، وقرّر أن يكون شيوعيًّا بالمعنى العام، وأول ما قرأه “البيان الشيوعي” لماركس وإنغلز. بدأ الكتابة في صحف لبنانية وعراقية منذ السادسة عشرة من عمره، وكانت له زاوية العام 1947 في مجلة “كل شيء” تحت عنوان: “خواطر من الكوخ”. وكانت كتاباته حينها أدبية…

بعد فشل الانتفاضة (الوثبة) عاد إلى لبنان في العام 1949 مقرباً من الحزب الشيوعي اللبناني، وحصل ذلك في خضم إعلان قرار تقسيم فلسطين، وتمّ تعيينه معلّما لمدة سنتين في بلدة شمسطار البقاعية. في العام 1952 دخل دار المعلمين وانتسب إلى الجامعة اللبنانية في قسم الأدب العربي. ترأس في العام نفسه وفد “الشبيبة الديموقراطية اللبنانية السورية” إلى المؤتمر العالمي لـ”اتحاد الشباب الديموقراطي”، وأصبح عضواً في اللجنة التنفيذية وفي الهيئة القيادية اليومية للإتحاد. يقول مروة: “أول مشكلة واجهتني في مطلع شبابي عندما عدت من العراق إلى لبنان العام 1949، معتبرًا نفسي شيوعيًّا، أن الحزب الشيوعي اتخذ قرارًا بإعفاء فرج الله الحلو من مهماته الأساسية، وكان رئيسًا للحزب؛ لأنه اعترض على قرار الاتحاد السوفياتي بتأييد قرار تقسيم فلسطين. اتخذ القرار من جانب خالد بكداش و”البوطة” التي معه، وكنت أسمع بفرج الله الحلو، وأكثر من ذلك وجدت أن مجموعة من المثقفين من بينهم رئيف خوري وهاشم الأمين وإميلي فارس إبراهيم وموريس كامل وقدري عرقجي، طردوا من الحزب لأنهم وقفوا إلى جانب فرج الله الحلو، فانضممت إليهم ورفضت الدخول إلى الحزب الشيوعي اللبناني، ما دام لا يستطيع أن يتحمل كلمة يختلف بها مع السوفيات، وبقيت كذلك حتى العام 1952 عندما دخلت إلى الجامعة، وانتخبت نائبًا لرئيس أول رابطة طلابية في الجامعة اللبنانية، فقال لي نديم عبدالصمد: كيف انتخبت بصفتك شيوعيًّا وأنت لست في الحزب؟ وكان ردي أنني شيوعي رغمًا عن الجميع، ولا أحد يقرر عني كيف أنتمي إلى الشيوعية، وضغطَ عليَّ فذهبت إلى رئيف خوري الذي كان مغمورًا بالشتائم من الحزب في ذلك الحين، وأنا أقدر رئيف خوري كثيرًا، فهو من الذين علَّموني أمورًا كثيرة، وعندما رويت له ما حدث، وأخبرته رفضي الدخول إلى الحزب قال: لا. هذا خطأ. أدخل واشتغل وناضل ولا تستسلم لما يحصل. أكبرت فيه قوله، وما إن دخلت الحزب حتى سلموني مسؤولية الطلاب الشيوعيين، وأرسلوني إلى اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي العام 1954، وعدت، ثم أرسلوني إلى مجلس السلم العالمي، وعشت أربع سنوات في الخارج مع منظمات عالمية”(مجلة الفيصل).

بدا مروة، وهو في بدايات شبابه، سريع الانخراط في الشيوعية وسريع الوصول الى مواقع ومراكز حزبية وشبابية وثقافية، في أواخر الخمسينيات عمل مروة في تحرير جريدة “النور” التي كان يصدرها الحزب الشيوعي في سوريا، وكان وقتها الحزب الشيوعي موحداً بين سوريا ولبنان. وعندما وقعت حرب 1958، ترك سوريا والعمل في الجريدة وتوجه إلى لبنان وشارك بالأعمال العسكرية وكان مسؤولاً عن مستودعات الأسلحة في بيروت. وعندما تأسست جريدة “النداء” اللبنانية عمل فيها حتى صار رئيساً لتحريرها.

في منتصف الستينيات، إثر انفصال الحزب الشيوعي اللبناني عن الحزب الشيوعي السوري، عُيّن عضواً مرشحاً في المكتب السياسي، ثم أصبح عضواً أصيلاً في مكتب الحزب وفي أمانته. يقال إنه تقرّر إرساله إلى موسكو لإعادة “تأهيله” في مدرسة الحزب الأممية هناك لأنه “تمرّد” على القرارات السوفياتية، وهو يقول “في العام 1966، وكنت قد أصبحت عضواً قيادياً في الحزب الشيوعي اللبناني، أطلقت مع الرفيق جورج حاوي وعدد من رفاق جيلنا في قيادة الحزب، ما اعتبرناه ثورة غير مسبوقة في الحركة الشيوعية العربية. كان الهدف منها تأكيد استقلالية حزبنا عن الاتحاد السوفياتي في تحديد السياسات المتعلقة بالشأن اللبناني وبالشأن العربي مع البقاء في الأممية الشيوعية برئاسة الحزب الشيوعي السوفياتي”.

أمضى كريم مروة عقوداً في الحزب الشيوعي، ولم يخرج منه إلا حين لم يبق فيه غير الأطلال، هو انتسب إلى الحزب الشيوعي في المرحلة البكداشية الستالينية، وخرج منه مرحلة العام 2005، كان لبنان دخل في مرحلة انقسامٍ مذهبي وسياسي حاد، وكان مروة أقرب إلى قوى 14 آذار، قبل أن يخرج من الأطر السياسية مهتماً بالكتابة فحسب…

ولا تبتعد مقاربات مروة الثقافية والفكرية عن طيف التحولات التي تحصل في لبنان والعالم… ففي العام 1985 أصدر كتاب “المقاومة.. أفكار للنقاش”، وفيه شيء من توثيق لعمليات “جمول”، وبعض النصوص الماركسية والثورية عن حرب العصابات. ومع انهيار النظام الشيوعي السوفياتي أصدر “حوارات حول الاشتراكية والديموقراطية والقومية والدين”(1990)، كان أثرها الكثير من المقالات والردود والنقاشات والسجالات التي لا تنتهي وتدور في حلقة مفرغة عن أزمة اليسار، واليسار إلى أين؟ وسقوط الشيوعية، وهل الأزمة في النظرية الاشتراكية أم في الممارسات؟.. ومنذ تلك المرحلة، وربّما من قبل، بدأت تظهر في الكتابات النقدية، سقطات السياسة السوفياتية التي جعلت الشيوعيين الآخرين في العالم العربي مجرد أتباع، سواء في الخمسينيات وقضية فرج الله الحلو الذي رفض تقسيم فلسطين، أو مرحلة الانفصال بين الشيوعي اللبناني والسوري في منتصف الستينيات، أو مرحلة بروز جورج حاوي واتهامه بالعمالة العام 1968، أو مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية والحركة الوطنية. ومع انطلاق مفاوضات السلام بين الاسرائيليين والعرب، أصدر مروة “جدل الصراع مع إسرائيل وجدل السلام معها”(1994)، وكتاب “الوطن الصعب والدولة المستحيلة – حوار بين كريم مروة وكريم بقرادوني”(1996)…

وفي مرحلة التحرّر من الحزب والحزبية، كان كريم مروة الأكثر جموحاً في تدوين مقالات وكتب عن الذاكرة، فركّز على “الشخصيّة اللبنانية” ونشر كتباً عن “ملامح الشخصيّة اللبنانيّة في سير وإبداعات المثقفين اللبنانيين” و”الروّاد اللبنانيّون في مصر: في الصحافة والفكر والأدب والفن”.. كأنه تأثر أخيراً برفيق دربه الناقد الراحل، محمد دكروب الذي كان يكتب غالباً عن شخصيات ثقافية…

وكريم مروة الذي نظّر كثيراً للشيوعية والماركسية والثورات، وكان من ضمن حزب شارك بقوة في الحرب الأهلية، وبعد التجربة والتجارب، صار في سنوات الأخيرة ضد العنف بشكل عام وضد السلاح غير الشرعيّ، يقول: “يؤلمني جدًّا كلبناني أن يبقى حزب الله يلعب بالسلاح؛ لأن حزب الله مكون من أبناء شعبي وبلدي، وأنا حريص ألا يموتوا وألا يقتلوا سواهم”. واعتبر أن “الاشتراكية كانتْ كذبة”(مجلة الفيصل)، و”الشيوعية انتهت فابحثوا عن شيء آخر”(نداء الواطن).

وغداة رحيل مروة، قيل إنه أصدر كتاب “الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث”، ويقصد فرج الله الحلو، نقولا الشاوي، جورج حاوي، وفؤاد الشمالي، وها هو ينضم إليهم، فباتوا الخمسة الكبار.

increaseحجم الخطdecrease