منذ بدء الحرب على غزة، قدّمت الدول الغربية دعمًا غير محدود تقريبًا للهجوم العسكري الإسرائيلي. وما يثير الصدمة بالقدر نفسه هو تجاهل هذه الدول لقيَمها التي يُفترَض أنها مقدّسة، حينما يعتبر القادة أن هذه القيَم لا تخدم مصالحهم. وعلى وجه الخصوص، ضربت الولايات المتحدة عرض الحائط بقدسيّة القانون الدولي، لا بل أيضًا بحرّية الصحافة: فقد أفادت تقارير أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن طلب  من رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، خلال زيارته الدوحة في 13 تشرين الأول/أكتوبر، “تخفيف حدّة” تغطية قناة الجزيرة لأحداث غزة.

هذا الطلب الأميركي الفاضح بممارسة الرقابة على الإعلام ليس حالة معزولة في التعاطي مع قناة الجزيرة وتغطيتها للشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع. ففي أعقاب الاجتياح الأميركي للعراق في عام 2003، مارست إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، على ما يُزعَم، ضغوطًا على قطر  وقدّم وزير الخارجية في إدارة بوش، كولن باول، إلى وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم، بشأن تغطية قناة الجزيرة للحرب. وكذلك، أثار نائب وزير الدفاع الأميركي آنذاك بول وولفوفيتز جدلًا حين  قناة الجزيرة في تموز/يوليو 2003 بالتحيّز في تغطيتها الإخبارية ما تسبب بأعمال عنف ضد القوات الأميركية.  مدير مكتب القناة في بغداد على وولفوفيتز مشيرًا إلى أنهم “تعرّضوا للقصف بإطلاق النار، وللتهديدات بالقتل، ومصادرة المعدّات الإخبارية، والتوقيف والاعتقال مرات عدة، على أيدي الجنود الأميركيين”.

حتى قبل اجتياح العراق، تعرّضت قناة الجزيرة للعنف العسكري الأميركي في بداية الحرب في أفغانستان. فقد شنّت إدارة بوش على مكتب القناة في كابول في تشرين الثاني/نوفمبر 2001، علمًا بأن البنتاغون في البداية مسؤوليته عن الهجوم. واستنادًا إلى محادثة غير منشورة بين بوش ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ربما أراد بوش مقرّ الجزيرة في الدوحة وأماكن أخرى. ولكن بلير أقنعه بالعدول عن ذلك، محذِّرًا من خطر حدوث رد فعل إقليمي أوسع نطاقًا.

لم تستخدم إدارة بايدن القوة العسكرية ضد القناة، ولكنها غضّت النظر عن قتل إسرائيل لصحافيين في قناة الجزيرة وأفراد من عائلاتهم. في 25 تشرين الأول/أكتوبر، فقدَ مراسل الجزيرة وائل الدحدوح من بينهم زوجته وابنته وابنه وحفيده، في هجوم جوّي إسرائيلي. ثم أُصيب الدحدوح بعد أقل من شهرَين في  في خان يونس أسفر عن مقتل زميله المصوّر سامر أبو دقة. بعد الحادثتَين،  المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، على أن إسرائيل تعمّدت استهداف الصحافيين. وعندما قُتل حمزة الدحدوح، الصحفي وابن وائل الدحدوح، في غارة إسرائيلية في 7 يناير/كانون الثاني، قدم بلينكن  لكنه امتنع عن إدانة الهجوم.

بهذا المعنى، وعلى الرغم من انتماء إدارة بايدن إلى الحزب الديمقراطي، الفارق ضئيل جدًّا مع الإدارات السابقة في السياسة المتّبعة حيال المسألة الإسرائيلية-الفلسطينية. والحال هو أن بوشعلى الدعم غير المشروط الذي يقدّمه بايدن لإسرائيل في أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر.

تُعد قناة الجزيرة من الوسائل الإعلامية القليلة التي تملك ، ولذلك يمكنها بثّ تقارير ميدانية عن الآثار المدمّرة للقصف الإسرائيلي المكثّف. لهذا السبب، حاولت إسرائيل مرارًا وتكرارًا وقف التغطية التي تقوم بها القناة. وبعد السابقة التي أرستها إدارة بوش، إسرائيل مكاتب الجزيرة في برج الجلاء في مدينة غزة في أيار/مايو 2021. وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، شنّ وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو قارعي حملة لإغلاق قناة الجزيرة من خلال إقرار تنظيمات حكومية، متذرِّعًا بتهديدات “للأمن القومي”. ولكن نظرًا إلى اعتماد إسرائيل على قطر للاضطلاع في المفاوضات مع حماس،  هذه الجهود لاحقًا.

إذن، يجب أن تُفهَم محاولة بلينكن لقمع التغطية الإخبارية لقناة الجزيرة في هذا السياق الأوسع. ونظرًا لنسبة المشاهدة الواسعة التي تحظى بها القناة في العالم العربي، فإن إدارة بايدن تُعرّض نفسها لخطر حدوث مزيد من التراجع في الأفضلية التي تتمتع بها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبلدان الجنوب عمومًا. ولكن لعل الأسوأ من ذلك هو الضرر الذي ألحقه طلب بلينكن بقدسيّة حرية الصحافة، والذي قد تستخدمه الحكومات الأخرى ذريعة لممارسة القمع في الداخل.

حمدالله بيكار حائز على شهادة دكتوراه من معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر البريطانية. تركّز أعماله على سياسة الهوية في الخليج والعلاقات الدولية.