كان مجرد جندي بسيط بعيد من الجبهة ورئيسه اليهودي منحه الصليب الحديدي تقديراً لخدمات شخصية

 

في كتابه الشهير كفاحي  الذي يجمع المؤرخون على أنه لم يكتبه بالصيغة التي نعرفها إلا حين كان سجيناً في زنزانة مفردة بتهمة محاولة القيام بانقلاب عسكري في ميونيخ، يمعن الزعيم النازي هتلر في الحديث عن “بطولاته” كجندي “مميز وشجاع” خلال الحرب العالمية الأولى التي خاضها “بقوة واندفاع” ليقال لاحقاً إنها هي وأداءه فيها ما صنعاه، تماماً كما أن الثورة الروسية الأولى (ثورة 1905) كانت هي ما صنع نظيره ستالين بالمقارنة معه، وفي الأقل في كتاب المؤرخ الإنجليزي الكبير آلان بولوك “هتلر وستالين”، الذي يقارن بين حياة الديكتاتورين ومسيرتهما إلى السلطة في صعودهما المدوي خلال الفترة الزمنية نفسها.

والحقيقة أن تلك الصورة التي رسمها هتلر  لنفسه وهو قابع في زنزانته ستبقى لزمن طويل الصورة المعتمدة وحتى في نسختها المضخمة التي سيمعن المؤرخون النازيون في تجميلها خلال حياة هتلر وزعامته ودائماً نقلاً عما صوره الزعيم النازي بنفسه في كتابه الذي إذا كان أنصاره قد حملوه قدراً كبيراً من التحسينات، فإن أعداءه لم يبالوا بتاريخ صاحبه شاباً ليركزوا على مراحله التالية. والحقيقة أن بولوك الذي سيكون دائماً من أكثر مؤرخي القرن الـ20 صدقية لن يشذ عن تلك القاعدة هو الذي كاد همه ينحصر في كتابه في المقاربة بين الزعيم البلشفي ونظيره النازي، إذ يبدو أن تلك كانت غايته الرئيسة.

حرب هتلر الأولى

لكن كتاباً أكثر حداثة بكثير وضعه مؤرخ إنجليزي آخر هو توماس فيبير ونشر عند نهاية العقد الأول من القرن الجديد، أي قبل عقد ونصف العقد من الآن فالتقطه المترجمون إلى لغات عدة أخرى ليصدر مترجماً إلى تلك اللغات، جاء لينسف تماماً تلك الصورة الزاهية التي بناها هتلر لنفسه. عنوان الكتاب هو “حرب هتلر الأولى”. واللافت فيه أكثر من أي شيء آخر هو أنه أنفق صفحاته التي تزيد قليلاً على 500 صفحة على تلك السنوات القليلة التي يفيدنا الكتاب بأن التاريخ قد غض نظره عنها تاركاً لصاحب الشأن أن يصفها ويصف تصرفاته وسلوكه وأداءه فيها كما يشاء. والحال أن “كما يشاء” هذه لم يكن معناها سوى أن هتلر ومؤرخي حياته، النازيين منهم في الأقل، قلبوا الأكاذيب “حقائق” معيدين اختراع صورة وتاريخ للرجل لا علاقة لهما بالواقع على الإطلاق. فبالنسبة إلى فيبر، أبداً لم يكن هتلر ذلك البطل الشجاع الذي خاض الحرب يافعاً على الجبهة الأمامية، ولم يكن البطل المغوار الذي أمضى معظم وقته في الخنادق، بل إنه لم يكن حتى، ذلك الملاحظ الدقيق الذي كان يتعمد التجوال على الجبهة خلال ساعات القصف العنيف ليرصد تصرفات رفاقه الجنود.

اختراعات السجن

بالنسبة إلى فيبير، كل ذلك اخترعه هتلر وهو يكتب نصه في زنزانته بعد 10 سنوات من انقضاء تلك المرحلة من حياته. فكيف توصل المؤرخ الشاب إلى استنتاجاته تلك وكيف تمكن من أن يجعلها قادرة على إقناع قرائه بحيث إن كتابه قد غير تماماً تلك الصورة المعهودة؟ إنه وبكل بساطة اشتغل على نصه بطريقة المؤرخين المحدثين: لم يكتف بقراءة والتدقيق في النصوص التي تناولت تاريخ هتلر بخاصة تلك التي كتبها هو عن نفسه… بل رجع إلى عشرات التقارير المحفوظة في أرشيفات الحرب الأولى ولا سيما منها ما يتعلق بالتقارير اليومية الباقية مما كان متداولاً داخل الكتيبة التي كان هتلر واحداً من أفرادها، ليجد التقارير تتحدث عن أن العدد الأكبر من المهام التي تسند له كانت تنقله بعيداً من الجبهة لكآبته الدائمة وشخصيته الانطوائية وجبنه، من ثم لم تسجل له أية مأثرة قتالية. وهو كان نادراً ما يشاهد عند الخطوط الأمامية، فإن شوهد فإن ذلك كان يحدث في فترات يغيب فيها القصف، بل إن ثمة تقارير اطلع عليها المؤرخ تشير إلى أن المجند النمسوي الشاب هتلر كان يلقب بـ”الفنان” لأن معظم حديثه مع رفاقه، كان يتحلق من حول رغباته الفنية واستعجاله انتهاء الحرب ليمارس الرسم.

سر الحصول على الوسام

لم تكن الحرب جزءاً من اهتماماته، فكيف حصل إذاً على وسام “الصليب الحديدي” الذي لا يتوقف في كتابه “كفاحي” عن إبداء فخره بالحصول عليه معتبراً إياه دليلاً على خوضه الحرب، وبروزه فيها؟ الجواب بسيط بالنسبة إلى المؤرخ: فمن ناحية كان من أسهل الأمور حينها الحصول على ذلك الوسام التنويهي الذي كان مسؤولو الكتائب والفرق يمنحونه لأي جندي من رجالهم يقدم لهم خدمات شخصية، وكان من حظ الجندي الخجول الشاب أن مسؤوله في كتيبته كان ضابطاً يهودياً غير جاحد، حيث إنه مقابل خدمات عديدة ومتفانية لم يتردد في منح هتلر وسام الصليب. والحقيقة أن فيبير لم يأت بهذه الحقيقة من عنده أو حتى من استنتاجات منطقية توصل إليها، بل من مراجعته التقرير الذي يطلب فيه الضابط من القيادة المسؤولة منح مرؤوسه الوسام مفنداً الأسباب التي تشير بوضوح إلى مسألة الخدمات الشخصية بعيداً من الجبهة، بل تشير أكثر من ذلك إلى تفاني المجند في الولاء لرئيسه على رغم معرفته بأنه يهودي، علماً أن الكتيبة التي ينتمي هتلر إليها كانت بروسية وكان البروسيون في ذلك الحين من أقل الألمان مناهضة للسامية. وكان رئيس هتلر الضابط هوغو غوتمان – وهو الموقع على طلب الوسام – يقدر حيادية المجند الشاب من الناحية السياسية والطائفية إلى درجة أنه لم يؤثر عنه أي حديث مناهض للسامية من النوع الذي كان منتشراً في الكتائب والفرق الأخرى! ولعل هذا الأمر يبدو هنا أكثر لفتاً للنظر وإثارة للتساؤلات من أي أمر آخر بالمقارنة بين ما يقوله ذلك التقرير بكل هذا الوضوح، وما يذكره هتلر نفسه في إشاراته التي ستملأ لاحقاً صفحات وصفحات من “كفاحي”، حين يكشف كيف أن اليهود كانوا منذ بدايات الحرب خونة للأمة الألمانية يخوض معظمهم الحرب متمنين انتصار الفرنسيين مما أوجد، في رأيه، رد الفعل الألماني الذي كان هو واحداً من أشرس متبنيه أي مناهضة السامية، وجعله ودائماً بحسب ما يذكر في كتابه، واحداً من المنافحين عن رد الفعل ذاك، وفحواه الشك في كل يهودي شكاً لم يبارحه في أية لحظة من لحظات الحرب.

 

مشاعر مبكرة!

يقيناً أن ذلك الواقع الذي رصده المؤرخ الشاب انطلاقاً من تقرير الضابط غوتمان المتناقض كلياً مع المزاعم التي عبر عنها هتلر بكل وضوح في “كفاحي”، مشيراً إلى عدائه لليهود منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى حتى يتناقض جذرياً مع المواقف التي عرفت عنه بشهادة قائده الضابط اليهودي الذي كان وراء الوسام الوحيد الذي ناله خلال حرب، زاعماً أنها ولدت لديه تلك المشاعر المعادية لليهود، مشاعر لم تنتظر انخراطه في الفكر النازي لتولد لديه.

وهكذا، وعلى غرار تمعنه الموثق بحكاية الوسام والضابط اليهودي والخدمات الشخصية ورصد هتلر في استنكافه عن خوض أي حديث سياسي على الإطلاق، نجد توماس فيبير يكشف في كتابه مستنداً إلى أكبر عدد من الوثائق، كثيراً من الحقائق التي يخبرنا كيف أن أجهزة الدعاية النازية أخفتها غير دارية بأن ثمة زمناً سيأتي تنكشف فيه مئات الوثائق الدامغة، مؤكداً أن ثمة ألوفاً أخرى من الوثائق لا تزال ضائعة حتى اليوم ومعظمها يعود إلى تقارير استخباراتية وبوليسية ربما سيكون من شأنها إن وجدت يوماً أن تمعن في الكشف أكثر وأكثر عن حقائق من حياة الديكتاتور النازي قد تقلب سيرته رأساً على عقب، بل ثمة ما لا يبدو أن له علاقة بتاريخه ويمكنه أن يقلب النظرة إلى تاريخ مراحل وشخصيات أخرى، ليقول إن الحقائق التاريخية الدامغة يمكنها حينذاك أن تبدو وكأنها تؤكد لنا أن معظم التواريخ التي نعتقد أننا نعرفها ولا تحتاج إلى إعادة نظر – غالباً ما يمكنها أن تكون من ذلك النوع الذي يؤكد دائماً ما قاله المفكر الفرنسي غوستاف لوبون من أنه “لو كانت الحجارة تنطق لأصبح التاريخ كله كذبة كبرى”.