جاءت الضربات التي وجهتها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ضد مواقع للحوثيين لتؤكد انهيار المفاوضات الأميركية – الإيرانية غير المباشرة، خصوصاً تلك التي كانت جرت في العاصمة العُمانية مسقط. وفي الرد الذي برره التحالف الذي شن الهجمات أن الحوثيين “المدعومين إيرانياً” هددوا الشحن الدولي في البحر الأحمر، في الوقت الذي تتواصل فيه الحرب الإسرائيلية في غزة، مع استمرار اشتعال جبهة جنوب لبنان، فصار مستبعداً أقله الآن التوصل إلى اتفاقات مبدئية أو التفاهم على ترتيبات إقليمية لما بعد الحرب على غزة.
توحي الأجواء الإقليمية المستجدة بأن المنطقة دخلت في مأزق جديد، أعادت الأمور إلى نقطة الصفر، فالتصعيد يدل إلى انسداد أي أفق للتوصل إلى تفاهمات، ما لم يتمكن المفاوضون من التوافق لفتح الطريق نحو تفاهمات تؤدي إلى تسوية في المنطقة، وهو أمر سينعكس حكماً على الجبهات أو الساحات المختلفة، ومن بينها لبنان الذي لم يستطع المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين ترويج خريطته للتهدئة بفصل جبهة لبنان عن غزة ولا المبادرات الدولية ولا حتى الضغوط لتطبيق القرار 1701، حيث يشترط “حزب الله” قبل أي تفاوض أو بحث، وقفاً فورياً لإطلاق النار في غزة وإنهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع.
مع تطورات اليمن، المتوقع أن يشهد تصعيداً في الأيام المقبلة في ضوء الانسداد الإقليمي، ستدخل المنطقة في مرحلة سباق جديدة بين التهدئة والحرب، وذلك بعد ثلاثة أشهر من فك الارتباط وتجنب التصعيد توّجت بسحب الولايات المتحدة الأميركية حاملة طائراتها من المتوسط أخيراً، وسبقتها تبرئة طهران من علاقتها بعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فلم تذهب الأمور إلى حرب إقليمية حيث بقيت جبهة لبنان ساحة مواجهة وعمليات منضبطة ضمن قواعد اشتباك محددة، فيما منعت واشنطن توسيع دائرة الحرب الإسرائيلية إلى جبهات أخرى، وذلك على الرغم من التهديدات التي تطلقها الحكومة الإسرائيلية يومياً بالحرب لإنهاء التهديد الأمني الذي يمثله “حزب الله” على حدودها الشمالية بالقوة.
في الأساس لم يكن متوقعاً أن تصل المفاوضات الإيرانية – الأميركية إلى تسوية الملفات الخلافية كلها والوصول إلى اتفاق يفتح الطريق نحو الملف النووي، فللإيرانيين حسابات لم تنطبق على رهاناتهم، انطلاقاً من أن ممارسة الضغط ومساندة جبهة غزة من لبنان تحديداً ثم من الجبهات الأخرى وآخرها اليمن، ستدفعان إسرائيل ومعها الولايات المتحدة إلى التراجع، فالحرب العدوانية على غزة لا تزال مستمرة، فيما تراجعت حدة التوتر على الجبهات الأخرى من العراق إلى سوريا بعد الضربات الأميركية لقواعد ميليشيات تابعة لإيران، وانتقلت إسرائيل إلى حرب الاغتيالات في الساحات المختلفة، وتطبيق استراتيجية جديدة، وبالتالي لم يعد التفاوض مجدياً بالمعنى الذي يمكن أن يحقق فيه كل طرف ما يصبو إليه من نتائج.
تبقى جبهة جنوب لبنان الساحة الرئيسية التي يمكن أن تشعل الحرب الإقليمية الشاملة، إذا نفذت إسرائيل تهديداتها، فعلى الرغم من أن ما حدث في اليمن قد يؤدي إلى تصعيد واسع في البحر الأحمر، إلا أن طهران لا ترد مباشرة في منطقة على حدودها وتوازن في خياراتها، وتتجنب المواجهة المباشرة. وعلى هذا، فإن التركيز الأميركيي ينصبّ على منع التصعيد بين لبنان وإسرائيل انطلاقاً من مهمة هوكشتاين الذي زار بيروت مقدماً عروضاً تتمحور كلها حول الفصل بين غزة وجنوب لبنان، وصولاً إلى تطبيق القرار 1701 والبحث في ترسيم الحدود البرية. أما إسرائيل التي لا تزال تطلق تهديداتها بتدمير لبنان، فهي أبلغت المبعوث الأميركي بأنها تريد منطقة أمنية تبعد “حزب الله” إلى ما بعد خط الليطاني أي خارج عمل منطقة قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب (اليونيفيل).
لكن ما بات واضحاً وفقاً للوقائع، أن فك الارتباط بين جبهة غزة وجنوب لبنان، غير ممكن عملياً، ولا سياسياً، خصوصاً أن “حزب الله” أسقط ما يسمى بالمنطقة العازلة ويستمر في عملياته الضاغطة لمساندة غزة، رغم الخسائر التي تكبدها، إضافة إلى أن جبهة لبنان بالنسبة لإيران هي الوحيدة التي تؤمن حالة تواصل مباشرة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومع القضية الفلسطينية، وأي تسوية أو حل لا بد أن يرتبط بسلة تفاهمات إقليمية تحافظ فيها على تأثيرها ودورها في المنطقة.
وإذا كان لبنان انطلاقاً من جبهته الجنوبية قد أصبح على سكة التفاوض الإقليمية، وكان جزءاً من التفاوض بين واشنطن وطهران قبل أن يتوقف، فإن التطورات الأخيرة في اليمن قد جعلت الأمور أكثر صعوبة، أولاً لأن طهران لا توافق على الفصل بين غزة ولبنان، وأيضاً هي تتمسك بما تم التوصل إليه في مسقط، ولا تقبل بمسار ثان مختلف، علماً أن هناك حديثاً عن مقايضات في الشأن اللبناني بين اتفاق حول الحدود وإعادة الاستقرار وإعادة تكوين السلطة في لبنان. لكن رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي كان واضحاً في موقفه بالتماهي مع “حزب الله” من خلال كلامه الأخير بأن البحث في التهدئة على جبهة الجنوب لا يفيد، ويجب أن يكون الحل مرتبطاً بوقف إطلاق النار في غزة.
بعد ضربات اليمن لم تعد المناورات تجدي في ما يتعلق بالتفاوض بين الولايات المتحدة وإيران بعد التهدئة السابقة التي تخللتها عروض أميركية عدة لطهران، وقد أدارت هذه الأخيرة معركتها في كل الساحات من جنوب لبنان إلى اليمن والبحر الأحمر والعراق وسوريا بطريقة متقدمة لتكريس دورها في المنطقة، لكن الأمور اختلفت الآن، بعدما تبين أن الأميركيين بدأوا يغيرون آلية تعاطيهم مع طهران في محاولة لمنعها من تحقيق انتصارات، لذا جاءت الضربات ضد الحوثيين كجزء من هذه الآلية الجديدة، وقد تتوسع في غير اتجاه.
المنطقة دخلت في مرحلة جديدة، بعد ضربات اليمن، وهذا يعني أن نافذة التفاوض التي فتحت سابقاً حول الساحات الساخنة والملفات الشائكة، ومن بينها جبهة لبنان، قد أقفلت أقله مرحلياً، ويبدو أن المعركة ستبقى مفتوحة على جبهة لبنان ربطاً بغزة، وأي نقاش ومفاوضات حول ترسيم الحدود مؤجلان إلى ما بعد وقف إطلاق النار. وعلى ذلك، فإن استمرار العمليات الضاغطة نصرة لحماس بقدر ما هي بمثابة رد على الاغتيالات، فإنها في الوقت نفسه رهان من “حزب الله” وإيران على أن تكون مفتاحاً للتفاوض بعد غزة على كل الملفات الإقليمية، ومن بينها لبنان ونقاطه الحدودية المحتلة، وصولاً إلى ما يتجاوز القرار 1701.
Twitter: @ihaidar62