كأنها نبوءة من غسان كنفاني كتبها قبل ستين عاما، محملاً بذكرى اللجوء من يافا، بهواء بساتين برتقالها، وبالمأساة التي كان على اللاجئين أن يعيشوها، قبل أن يقرروا العودة بأي ثمن، شاهراً وصيته: “لا تمت قبل أن تكون ندا”، فتحول اللاجئ والمكسور بفعل الاحتلال إلى ند للقوة العاتية، وللخذلان المستمر، وليورث روحه المتطلعة للعودة، قبل أن يموت.
هذا الميراث الفلسطيني، ليس ترفا، ولا هو بالأمل المهدور، هو في حقيقته بناء متراكم من الغيظ، والتجربة المرة، والتمسك بالارض. هو في حقيقته درس متصل من خبرات 75 عاما من اللجوء والشتات والعيش المر في ظل الاحتلال، وفي جحيم الخيانات الكثيرة. ان تكون ندا لعدوك، هو أن تكون قادرا على البقاء وحدك، وأن لا تموت قبل أن تخلق عوامل بقائك في شعبك.
لم يكن لغزة أن تعيش قيامتها لولا هذا النسيج المتصل من الرغبة بالحياة التي يهون دونها الموت، حتى ليبدو تكافؤ القوى بلا معنى ولا أهمية، لذلك فلا أفق ولا مستقبل لمخططات التهجير الجديدة، وهي تبدو استعادة للتاريخ اقرب للملهاة منها الى المأساة، فكيف يمكن تصور تكرار ما حدث عام 1948 ونحن ما زلنا نعيش تداعيات مأساته حتى هذا اليوم بعد عدة أجيال.
أدرك طبعا أن القوة الغاشمة، وفقدان كل شئ، متبوعة ببصيص أمل مصطنع، في أرض أخرى، قد يبدو مغرياً لمن يخطط له، لا سيما وأن الأمر لن يحتاج لغير رحلة مكيفة نحو الضفة الثانية من الحدود، إلى سيناء الفسيحة، لكن الواقع أكثر تعقيداً بكثير، حتى كان المخطط يبدو غبياً وحالماً، لكن المقترحات الغبية مثل هذه، لن تتطلب الإقناع، لأنه ببساطة مستحيل، بل ستحتاج للقسر، والإرغام، ستحتاج للعنف الأقصى والتجويع، والتنكيل بكل مظاهر الحياة، والقدرة على العيش، وحينها قد يجد الفلسطيني نفسه محاصراً بين الموت في أرضه أو العيش في أرض قريبة.
خطورة مخطط التهجير الجديد في غزة، ربما يكمن في تواطؤ الغرب لتنفيذه، وفي هشاشة القدرات العربية للاستمرار في مواجهته، لكن ذلك لا يعني نجاحه، ليس فقط لأنه غير قانوني وغير إنساني ومكشوف الدوافع، لكنه أيضا جاء في سياق فلسطيني مختلف تماما عن زمن النكبة، حينما حمل الهاربون من الاعتداءات والقتل مفاتيح بيوتهم، ظانين أنهم سيعودون قريبا، فلم يعد منهم أحد. هذه المرة يفرض السياق الجديد أنماطه، فهناك ميراث من الأسى، ومن التجارب المريرة، ووعي بما يجري، بل ووعي بما يمكن أن يحصل سواء جرى التهجير أو فشل.
ويتعلق الأمر ايضا بمواقف الدول المعنية، لا سيما مصر والأردن، وكلاهما لا يحتملان مسؤولية الانخراط في هذا المخطط، ولا يطيقان تداعيات تنفيذه، لكن الضغط الذي يمارس على الفلسطينيين اليوم بالقذائف والنار والموت الأعمى المتصل، وبالتجويع والحصار وقطع الأمل، كل هذا ستوازيه ضغوط كبيرة على الدول المعنية، تشمل الوعود الاقتصادية، لا سيما لمصر الغارقة في الديون، وقد تواجه أزمات اجتماعية وسياسية بسبب ذلك.
ولا يقتصر الأمر على تدمير غزة، بغرض تهجير أهلها، فلو فشل هذا المخطط الذي يكاد أن يتحول إلى نمط من الهيستريا، لن يكون مفاجئا أن يجري تفجير الحرب في ساحات أخرى، ولن يكون بعيدا ان يتحول ذلك إلى حرب إقليمية شاملة، وحينها فإن المراهنات قد تكون صفرية، ولربما يتم تنفيذ مخطط التهجير تحت غطاء الحرب الشاملة.
هل هو محض خيال؟ ربما يكون كذلك، لكن، النار الحالية في المنطقة، لم تعد وفقا لأي تحليل عصية على الامتداد، ولن يكون بمستطاع دولة عربية أو شرق اوسطية أن تبقى بعيدا عن الشظايا، في حال امتدادها إلى لبنان وسوريا، وربما العراق، أو حتى إيران، رغم أن الأخيرة ستسعى للاستفادة من ميزة الرغبة الاميركية بتجنبها، وبكفاية من يقاتل نيابة عنها من أذرع مسلحة تعمل في محورها.
المهم في كل هذه السيناريوهات، أن الوضع خطير، وأنه قد يحصل تهجير جزئي بالفعل، وذلك سيكون بحد ذاته تطوراً سيقود لمزيد من التصعيد في السنوات القادمة، ونتائجه أكثر شمولية مما حصل في تهجير بشار الاسد لنصف الشعب السوري، الذي أنتبه له الجميع، ثم اشاحوا النظر عنه.