ليس مفهوماً إلى يومنا هذا لغز الموقف الأميركي المتردد من الحوثيين في اليمن، ومن العلاقة التي تربط بين هؤلاء من جهة و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران من جهة أخرى. لكن هذا اللغز لا يعود لغزاً عندما يجد المرء إدارة مثل إدارة جورج بوش الابن تشنّ في عام 2003 حرباً على العراق وتسلّمه على صحن من فضّة إلى إيران، وتأتي بالميليشيات المذهبيّة العراقية الموالية لإيران إلى بغداد… على دبابة أميركيّة. ثمّة سذاجة أميركيّة لا حدود لها كشفها سقوط العراق في يد “الجمهوريّة الإسلاميّة”، وذلك بغض النظر عن الموقف من نظام صدّام حسين الذي كان نظاماً بائساً ومتوحشاً في الوقت ذاته على الصعيد الداخلي العراقي وعلى الصعيد الإقليمي.
بالمختصر المفيد لا وجود للحوثيين بالشكل الذي صاروا موجودين عليه في اليمن من دون إيران. ما كان لهذه الحركة أن تستولي على صنعاء والحديدة ومناطق يمنيّة أخرى من دون دعم من “الجمهورية الإسلاميّة”؛ بل من دون احتضان كامل منها بدأ قبل سنوات طويلة.
ليست الاعتداءات المتكرّرة على حركة الملاحة في البحر الأحمر ومحاولة تعطيل الحركة في هذا البحر، الذي يشكّل الطريق الإجبارية إلى قناة السويس، سوى جزء لا يتجزأ من استراتيجية واضحة لطهران. تقوم هذه الاستراتيجية على الذهاب إلى أبعد حدود في استغلال حرب غزّة من منطلق أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” هي المنتصر الوحيد من هذه الحرب التي بدأتها “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأسفرت عن مأزق إسرائيلي لا سابق له منذ قيام تلك الدولة قبل خمسة وسبعين عاماً. لكنّ هذه الحرب أسفرت أيضاً عن تدمير غزّة وتشريد أهلها بعد الذي فعلته “حماس”، وبعد لجوء إسرائيل إلى ممارسة القتل والتدمير بدل الاقتناع بأنّه ليس في استطاعتها تصفية القضية الفلسطينية وإلغاء الشعب الفلسطيني.

ليست الضربات التي وجهها الأميركيون والبريطانيون إلى الحوثيين سوى تعبير عن رفض لمعرفة من هم هؤلاء الذين جاؤوا من كهوفهم في صعدة وباتوا يتحكمون بمدينة وديعة مثل صنعاء لم تقدّم يوماً سوى الخير إلى كلّ يمني أراد المكوث فيها، بغض النظر عن مذهبه أو عن المنطقة التي أتى منها.
كلّ ما في الأمر أن الموضوع اليمني أكثر تعقيداً مما يعتقده الأميركي والبريطاني. لكنه موضوع في غاية البساطة أيضاً. لا يمكن رفع الحوثيين عن لائحة الإرهاب الأميركيّة مع دخول جو بايدن “الأبيض”، ولا يمكن للرئيس الأميركي القول الآن إن الحوثيين تنظيم “إرهابي”. لا تستطيع بريطانيا عمل كلّ ما تستطيع في عام 2018 لمنع “الشرعيّة” والقوى الأخرى المتحالفة معها من إخراج الحوثيين من الحديدة، والمشاركة في 2024 بالضربات التي وجهت إلى هؤلاء من أجل منع مزيد من الاعتداءات على السفن المبحرة في البحر الأحمر… بحجة دعم غزّة.
خدع الحوثيون الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح الذي دعم صعودهم في ضوء حاجته إلى توازن داخلي مع الإخوان المسلمين والسلفيين في مرحلة ما بعد حرب 1994 التي خاضها مع الحزب الاشتراكي اليمني الذي أراد العودة عن الوحدة. انقلب السحر على الساحر عندما اكتشف علي عبد الله صالح أن الحوثيين صاروا في الجيب الإيرانيّة وذلك عندما توقف، ذات يوم، في صعدة، في طريقه براً إلى مكة لأداء فريضة الحج. كان ذلك في عام 2003. دخل الرئيس اليمني وقتذاك أحد المساجد لأداء صلاة الجمعة ففوجئ بمجموعة من الحوثيين تطلق ما يسمّى “الصرخة”، أي شعار “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام” مباشرة بعد الانتهاء من الصلاة. أدرك الرئيس اليمني وقتذاك في اللحظة ذاتها، كما روى لي الراحل الدكتور عبد الكريم الإرياني، أنّ الحوثيين “صاروا خارج السيطرة وباتوا عند إيران”.
بعيداً من اللف والدوران، لا حاجة إلى طرح أسئلة من أي نوع في ما يخص الملاحة في البحر الأحمر والخطر الذي يشكله الحوثيون الذين لديهم عنوان واحد وحيد هو طهران. أمّا في ما يتعلّق بكيفية المواجهة مع هؤلاء، وهل ستؤدي الضربات الأميركية والبريطانية إلى إضعافهم، فإن الجواب لا يقتصر على توجيه الإصبع الأميركيّة الاتهام إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
لا مفرّ من العودة أيضاً إلى الداخل اليمني، من دون أن يعني ذلك تجاهل أن الحوثيين مكوّن من مكوّنات النسيج اليمني وأنّه لا يمكن شطبهم من المعادلة الداخليّة. لكنه لا يمكن في الوقت ذاته اختزال اليمن بالحوثيين، بمقدار ما أن الحاجة إلى دعم فعلي للقوى المستعدة لمواجهة هذه الظاهرة بكلّ ما تحمله من تخلّف وبؤس ومتاجرة بالشعارات.
هناك قوى يمنية أخرجت الحوثيين من عدن، كما أخرجتهم من ميناء المخا عند باب المندب. حالت هذه القوى أيضاً دون سيطرة الحوثيين على مدينة مأرب. كذلك، لا بدّ من امتحان “الشرعيّة” الجديدة القائمة حالياً، وهي “شرعيّة” تمتلك قوات يمكن أن تقيم توازناً مع تلك التي يمتلكها الحوثيون في حال تسليحها تسليحاً جيّداً.
هل هناك من يعي في واشنطن ولندن وعواصم أخرى، بينها عواصم عربيّة، أن الحوثيين ليسوا اليمن من جهة، وأنّهم ليسوا سوى أداة إيرانيّة من جهة أخرى؟