
في يوم 21 يناير/كانون الثّاني 1950، أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) خبر وفاة الروائي وكاتب المقالات والناقد الإنكليزي جورج أورويل عن عمر يناهز 46 عاما. رحل أورويل، مؤلف روايتي «مزرعة الحيوانات» و»1984» الشهيرتين، مخلّفا بصمة لا تُمحى في سجلّ الأدب والخطاب السياسي. وما زال صدى فكره إلى يومنا هذا يتردد في الأفق، مؤثرا في فهمنا للنظام السياسي والسلطة، والنفوذ والاستبداد في الحكم، والقمع في العالم. إحياء ذكرى وفاته اليوم فرصة مناسبة لتأمل سيرة وأعمال ومبادئ وتأثير إحدى الشخصيات الأدبية المؤثرة في القرن العشرين.
سجلٌ حافل بالإبداعات
استهل جورج أورويل – واسمه الحقيقي إريك آرثر بلير – مسيرته الكتابية في أواخر عشرينيات القرن الماضي. عمل في بداية مشوار حياته صحافيا وكاتب مقالات لدى منشورات مختلفة على منوال «ذو نيو أدلفي» ولم يحقق شهرته الأدبية إلاّ في ثلاثينيات القرن العشرين. أصدر أورويل كتابه الأول بعنوان «متشردا في باريس ولندن» عام 1933، وهو مذكرات تقع في جزئين، صوّر من خلالها معاناته مع الفقر والتشرد. تبعت ذلك أعمال بارزة أخرى مثل «أيام بورمية» (1934) تقع أحداث القصة في مدينة كيوكتادا الخيالية، في ما كان يُعرف آنذاك باسم (بورما) خلال حقبة الاستعمار البريطاني. وألّف رواية «ابنة القس» (1935) تدور أحداثها في الريف الإنكليزي وتصوّر حياة دوروثي ابنة رئيس جامعة تُصاب بنوبة فقدان الذاكرة، فتنقلب حياتها إلى جحيم. تسلط الرواية الضوء على ثيمات وجودية كالاغتراب الذاتي ونضال المرء في سبيل الحرية والاستقلال الذاتي، فضلا عن قضايا عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية. ونشر أيضا رواية «دع الدريقة تطير» (1936) ورواية «ألف وتسعمئة وأربعة وثمانون» (1949) التي تُعدّ من أبرز مؤلفاته.
«1984»: هل الحرب سبيل السلام؟
تدور أحداث رواية «1984» في مجتمع شمولي يحكمه «الحزب» برئاسة الشخصية الغامضة المعروفة باسم «الأخ الكبير». تتمحور القصة حول بطل الرواية وينستون سميث، الذي يعمل في «وزارة الحقيقة» والذي لا يتردد لحظة في تغيير السجلات التاريخية خدمة لمصالح الحزب وتعزيزا للحملة الدعائية له وتشبثا بالسلطة. يشرع البطل ونستون في التمرد على النظام القمعي، ويشارك في نشاطات الاحتجاج والتحدي ويمضي في طريق تقصي الحقائق والبحث عن الحرية والعدل.
يلتقي وينسون بجوليا، زميلته في الحزب، فيعيشان علاقة غرامية سرية ويلتحقان بحركة مقاومة سرية مناهضة للحزب. وقد كان تمرد وينستون وجوليا منذ البداية مسلكا محفوفا بالمخاطر، حيث خضعا معا لمراقبة أجهزة الأمن التابعة للحزب. لم يُخَلّف جورج أورويل أعمالا روائية ومقالات ورسائل فحسب، بل أيضا أقوالا مأثورة ما فتئت تتردد على ألسنة الجماهير في أنحاء عالمنا، نذكر من جملتها اقتباسه الشهير والمثير للجدل «الحرب هي السلام» المسجل في رواية «ألف وتسعمئة وأربعة وثمانون». الاقتباس يثور على ما هو مألوف ومسلّم به في المجتمعات من أن الحرب نقيض السلام تماما مثل الاضطراب نقيض السكون، والضجيج نقيض الهدوء، والظلام نقيض النور. فما المقصود إذن من عبارة «الحرب هي السلام»؟
في رواية «1984» تُعدّ عبارة «الحرب هي السلام» شعارا للحزب الحاكم، يستخدمه للتلاعب بعقول المواطنين والتحكم في حياتهم، فالحرب الدائمة ضرورية للحفاظ على السلام والاستقرار في أوقيانوسيا. والحرب وسيلة لتوحد الناس وتكتيك لصرف انتباه الجماهير عن المشاكل الداخلية والقضايا الجوهرية، وتوجيهه نحو الأعداء الخارجيين والأخطار الأجنبية. وباستمرار الحرب، يحتفظ الحزب بسلطته، ويبرر إجراءاته التعسفية، وأفعاله القمعية، وبقاءه الطويل في الحكم.
مورد ثمين لتعلم اللغة الإنكليزية
تقول الكاتبة والمترجمة السويدية الكندية ماريا هاسكينز في إحدى مقالاتها، «إذا كنتَ مثلي قد درست اللغة الإنكليزية لغةً ثانية في الأصل، فإنك بلا ريب قد صادفت كتاب أورويل «مزرعة الحيوانات» ولو مرة واحدة في مشوار دراستك، وربما أكثر من مرة». لم تخطئ هاسكينز فغالبا ما تُستخدم مؤلفات جورج أورويل لتعليم اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي لطبيعة اللغة المميزة والثيمات المثيرة للتفكير، كالشمولية والمراقبة والفساد السياسي، التي توفر مادة غنية للمناقشات والتحليلات في الفصول الدراسية. وهكذا تُدرج روايتا «مزرعة الحيوان» و«1984» على وجه الخصوص في مناهج المدارس الثانوية والكليات لتعليم الطلاب التحليل الأدبي وتفكيك الرمزية السياسية وفنون الكتابة الراقية، وقد كان لكتاباته عميق الأثر في تطور اللغة الإنكليزية، حيث أدخلت أعماله العديد من المصطلحات والمفاهيم في الاستخدام الشائع، مثل «الأخ الكبير» و»جريمة الفكر» – وهي مصطلحات نجدها في روايته «1984». ورواية «مزرعة الحيوانات» تبقى في مقدمة الروايات المستخدمة لتعلم اللغة الإنكليزية، لأنها تمتاز بتوسع مفرداتها، وجمال عباراتها، ومتانة أسلوبها الذي يطبعه استخدام الرمز. وتشمل الرواية ما لا يحصى من أسماء الحيوانات والمصطلحات المتعلقة بالمزرعة والمفاهيم السياسية والموضوعات الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، توفر الرواية فرصا لممارسة قواعد اللغة ومهارات الفهم والوعي الثقافي.
نُشر كتاب «مزرعة الحيوانات» عام 1945، وهو تصوير استعاري لاذع للثورة الروسية وأنظمتها الشمولية اللاحقة. يستخدم أورويل حيوانات المزرعة بمهارة لتمثيل الشخصيات والأيديولوجيات والأحداث التاريخية الرئيسية، مما يخلق سردا مثيرا يمتد إلى ما هو أبعد من سياقه الظاهري. تتبع القصة حياة مجموعة من حيوانات المزرعة التي تتعرض لسوء المعاملة فتتحد وتثور على المزارِع البشري المستبد، وتفلح في الإطاحة به. لكن مع مرور الوقت، تنهار أحلامها تدريجيا، وهي تحيا تحت سلطة خنزير متعطش للحكم والنفوذ يُدعى نابليون، في إشارة إلى نظام ستالين الاستبدادي. من خلال تصويرٍ حي وصادقٍ لفساد السلطة ومخاطر الشمولية، رواية «مزرعة الحيوانات» نبراس دائم عابر للزمن، يكشف للأجيال المتتالية التكتيكات الشائنة التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية للبقاء في الحكم وتنذر بخطر تآكل الديمقراطية.
نشر الوعي السياسي ومقاومة الشمولية
تستمر كتابات جورج أورويل اليوم في جذب القراء من خلال رؤى عميقة حول الحالة الإنسانية. أورويل لا يستخدم الأدب وسيلة للتعبير عن المشاعر ونقل التجارب فحسب، بل أيضا أداة للوعي السياسي والنقد الاجتماعي، وهو ما يتجلّى في كتابه «تحية إلى كاتالونيا» (1938). ففي أواخر عام 1936، سافر أورويل إلى إسبانيا، حيث جُنّد للقتال لمصلحة حزب العمال للتوحيد الماركسي، وهو حزب شيوعي مناهض للستالينية. وأثناء المعارك، أصيب برصاصة في رقبته، فأجبر على الفرار من البلاد، لاسيما بعد إعلان حزب العمال الماركسي منظمة غير قانونية. كان من نتائج تلك التجارب القاسية، أن ثار أورويل على الشيوعية السوفييتية، وهو ما انعكس في كتاباته المنتقدة للشيوعيين.
يكمن أثر أورويل العابر للحدود والزمان في التزامه الثابت بالدفاع عن الحقوق الفردية والحرية وثورته الباسلة على الشمولية. ولعل أفضل نموذج لهذه المقاومة روايته «أيام بورمية» التي صوّر من خلالها الطبيعة القمعية للحكم الاستعماري البريطاني في بورما (المعروفة حاليا باسم ميانمار). يدين أورويل عبر صفحات هذه الرواية السياسات التمييزية، وإساءة استخدام السلطة من قبل القوى الإمبريالية. وبالمثل، تستكشف رواية «مزرعة الحيوانات» قضية مقاومة الشمولية من خلال سرده المجازي، حيث تتحد الحيوانات لمواجهة مضطهديها من بني البشر، وتسعى لبناء مجتمع اشتراكيه عادل.
واليوم بينما نحيي ذكرى وفاة جورج أورويل، نتذكر إنجازاته المميزة التي استطاعت أن تجتاز اختبار الزمن لما تحمله من أهمية أدبية ولغوية، فضلا عن آثارها الاجتماعية والسياسية. وليس من شك في أنَّ رواية «مزرعة الحيوانات» ستبقى في مقدمة أعماله، وهي اليوم من المؤلفات الرمزية البارزة التي تقدم رؤى عميقة حول طبيعة السلطة الفاسدة. لا يكمن إرث أورويل في قدرته على فضح الشمولية فحسب، بل أيضا في التزامه الثابت بالدفاع عن الحريات الفردية والجماعية، في عالم معقد ومضطرب. وما زال صدى أعماله يتردد في الأفق، معززا فهم الأجيالِ الأنظمةَ القمعية، مُشجعا الجماهير على تحديها. وما زال تأثيره يتردد من جيل إلى آخر، فمثلما لاحظ ريتشارد بلير، ابن جورج أورويل، فإن «مكانة (والده) في عالم الأدب رفعته ليكون واحدا من أكثر الكتاب تأثيراً في القرن العشرين. وفي الواقع، سوف يُقرأ لسنوات عديدة مقبلة في عالم ما انفك يزداد «أورويلية» (إيمانا بأفكار أورويل).
كاتب جزائري