بعد غزو روسيا اوكرانيا عام 2022، بدا من المؤكد أن اقتصاد روسيا سيكابد بعدما توافق حلفاء أوكرانيا، بقيادة الولايات المتحدة، على فرض برنامج غير مسبوق من العقوبات . وتوقعت عديد من الشخصيات، بما في ذلك وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين ومبعوث الاتحاد الأوروبي في شأن العقوبات ديفيد أوسوليفان، أن يجبر ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الاختيار بين الحرب والتعثر الاقتصادي. لكن الاقتصاد الروسي تحدى هذه التوقعات، بفضل إنفاق حكومي قياسي، سيسجل الاقتصاد الروسي نمواً أسرع مقارنة بالاقتصاد العالمي عن عام 2023، إذ في حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن يسجل نمو الاقتصاد العالمي ثلاثة في المئة، تتوقع الحكومة الروسية أن يبلغ نمو اقتصادها 3.5 في المئة. وعندما تظهر الأرقام الدقيقة، من المرجح أن يتبين أن النمو الاقتصادي الروسي في عام 2023 قد تجاوز ثلاثة في المئة، ولا شك في أن بوتين سيتباهى بذلك في خطاباته التي ستسبق الانتخابات الرئاسية في ربيع هذه السنة.
ولكن بدلاً من أن تشير هذه الأرقام إلى الصحة الاقتصادية، فهي تعتبر مؤشراً على فرط النشاط الاقتصادي. والواقع أن المشكلات التي يواجهها الاقتصاد الروسي بلغت حداً يجعل بوتين يواجه معضلة ثلاثية مستحيلة، ذلك أن التحديات البارزة أمامه لها جوانب ثلاثة: يتعين عليه أن يمول حربه المستمرة ضد أوكرانيا، ويحافظ على مستويات معيشة شعبه، ويحمي استقرار الاقتصاد الكلي. سيتطلب تحقيق الهدفين الأول والثاني زيادة في الإنفاق، مما سيزيد التضخم ومن ثم يمنع تحقيق الهدف الثالث. لقد لعبت عوائد النفط والغاز المرتفعة، والإدارة المالية البارعة التي تمارسها السلطات الروسية، والتراخي في تطبيق القيود الغربية، دورها في النمو الاقتصادي في روسيا، لكنها تخفي اختلالات متزايدة في الاقتصاد.
قبل الانتخابات الروسية، من غير المرجح أن يذكر بوتين أن أكثر من ثلث النمو في روسيا يعزى إلى الحرب، مع ازدهار الصناعات المرتبطة بالدفاع بمعدلات نمو تتجاوز 10 في المئة. أما الصناعات المدنية، التي تشارك أيضاً في إنتاج منتجات للجبهة – مثل الأحذية والملابس والأدوية – فمتخلفة قليلاً عن الركب. لقد أخفى المشهد الاقتصادي المشرق في روسيا عام 2023 مفاضلات خطرة اعتمدت سعياً إلى تحقيق مكاسب قريبة الأجل. وحتى لو نجحت القيادة المالية في موسكو في تهدئة الاقتصاد بحلول نهاية عام 2024، ستبقى المشكلات الرئيسة الناجمة عن الحرب أمراً لا مفر منه. وتشمل هذه المشكلات استياءً من نقص التمويل في مجال الصحة العامة، ونقصاً متزايداً في الأدوات والمعدات بسبب تشديد نظام العقوبات، والاختلالات الكبيرة الناجمة عن الاستثمار الضخم في قطاع الدفاع. وستدفع الأجيال المقبلة ثمناً باهظاً للوضع الحالي، على رغم أن هذا هو آخر ما يدور في ذهن الكرملين في الوقت الحالي.
تحويل المحاريث إلى سيوف
غيرت الحرب الاقتصاد الروسي في شكل ملحوظ. كان على موسكو تعديل سياستها لتمويل نزاعها المسلح ضد كييف، والحفاظ على جهازها العسكري وقوة الشرطة خاصتها، واستيعاب الأراضي التي ضمتها من أوكرانيا. واستلزمت هذه الأولويات التزامات إنفاق كبيرة تهدد مجتمعة الاستقرار الاقتصادي في روسيا. سينفق الكرملين ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (أكثر من ثمانية في المئة عند إضافة الإنفاق على الأمن القومي) على الحرب عام 2024. هذا أكثر من الـ3.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي التي أنفقتها الولايات المتحدة خلال حرب العراق، على رغم أنه أقل من المبالغ الهائلة التي خصصها الاتحاد السوفياتي خلال سنوات الركود وغزوه لأفغانستان (18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي).
بل إن الإنفاق العسكري طغى على الإنفاق الاجتماعي – الذي يقل حالياً عن خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي – للمرة الأولى في تاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. هذا التحول نحو اقتصاد عسكري يهدد الحاجات الاجتماعية والتنموية. لقد تلقت المناطق الأربع التي ضمت من أوكرانيا بالفعل ما يعادل 18 مليار دولار، وعام 2024 من المتوقع تحويل ما يقارب 5 مليارات دولار من الموازنة الفيدرالية إلى الموازنات الإقليمية. لا مناطق أخرى في روسيا تتلقى هذا المستوى من الاستثمار، مما يزيد فقط من عدم المساواة بين الأقاليم. وبدلاً من ترميم المساكن المتهالكة في روسيا، يفضل الكرملين إنفاق الأموال على بناء المنازل والطرق في الأراضي التي ضمت، لتحل محل المنازل والطرق التي دمرتها القوات الروسية خلال غزوها الوحشي.
بدلاً من الإشارة إلى صحة اقتصادية، يعد النمو في روسيا أحد أعراض فرط النشاط.
لقد تحولت الصناعة الروسية، إذ تطغى قطاعات الدفاع الآن على الصناعات المدنية. وتعمل شركات قطاع الدفاع الآن بحماسة شديدة، ونتيجة لذلك، من المرجح أن تدفع أي زيادة في الطلب الأسعار صعوداً بسبب عدم قدرة القطاع على زيادة العرض. ويتلقى القطاع العسكري قدراً من الإنفاق الحكومي كبيراً في شكل غير متناسب، كما يسحب عمالة من القوة العاملة المدنية، مما يؤدي إلى معدل بطالة منخفض في شكل غير طبيعي يبلغ 2.9 في المئة. قبل الحرب، كان معدل البطالة في روسيا يراوح عادة ما بين أربعة وخمسة في المئة. ويوظف القطاعان العسكري والعام الآن 850 ألف شخص إضافيين مقارنة به أواخر 2022-2023. كذلك دفع غزو أوكرانيا نحو 500 ألف روسي إلى الهجرة عام 2022، مما تسبب في نقص في المتخصصين المؤهلين والعاملين ذوي الياقات الزرقاء.
وفي الوقت نفسه ارتفعت مستويات المعيشة في أنحاء روسيا كلها، وانخفضت نسبة الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 9.8 في المئة، وهو أدنى مستوى منذ عام 1992. بطبيعة الحال، هناك اختلافات إقليمية، والمناطق التي أرسلت عدداً كبيراً من رجالها إلى القتال في أوكرانيا – بما في ذلك ألتاي كراي وجمهورية ألتاي وبورياتيا والشيشان وداغستان – تشهد أسرع نمو في الدخل في صفوف المجموعات ذات الدخل المنخفض. ومن المتوقع أن تستمر هذه الزيادة النسبية في الرخاء مع قيام موسكو بصرف الأموال لعائلات القتلى والجرحى.
في شكل عام، يرغب الكرملين في الحفاظ على وهم الحياة الطبيعية وحتى الرخاء المتزايد لمواطنيه. أدت التشوهات في سوق العمل إلى ارتفاع الرواتب في الصناعة العسكرية، وكذلك في التصنيع المدني، بسبب الحاجة إلى التنافس لجذب العاملين من المصانع العسكرية ذات الأجور الجيدة. وفي الوقت نفسه تقدم موسكو مدفوعات عالية إلى الجنود والأشخاص الذين يعبأون للقتال في أوكرانيا، مما يعزز الاستهلاك. وفي الوقت نفسه وبفضل المعروض من الائتمان الرخيص، توزع الحكومة قروضاً عقارية مدعومة، تعمل في الوقت الحالي على حماية الأسر من الواقع الاقتصادي.
نادراً ما تكون الأشياء كما تبدو
كان التفاعل بين الإنفاق العسكري، ونقص العمالة، وارتفاع الأجور سبباً في خلق وهم الرخاء الذي من غير المرجح أن يستمر، ذلك أن خيارات موسكو للتعامل مع النقص المتزايد في العمالة غير سارة. يمكنها أن تؤسس لإنتاج على مدى الساعة، أو تشجع توظيف النساء والمراهقين في المهن التي يهيمن عليها الرجال تقليدياً، أو تحاول العثور على مزيد من المهاجرين لملء العدد المتزايد من الوظائف الشاغرة. لكن هذه التغييرات المقترحة لن تؤدي إلا إلى تفاقم الوضع.
بسبب نقص العمالة، تضطر الشركات الروسية بالفعل إلى دفع رواتب أعلى إلى عامليها المتبقين أو اجتذاب عاملين من شركات منافسة أو قطاعات أخرى بمزيد من الأموال. ارتفعت الأجور عام 2023 أكثر من المتوسط الوطني في مناطق نيجني نوفغورود ونوفوسيبيرسك وسامارا وسفيردلوفسك وتولا، حيث يتركز عدد كبير من شركات الدفاع. ونتيجة لذلك، حل محل القوة العاملة في مناطق أخرى وفي التصنيع المدني عاملون يسعون إلى نيل أجور عالية، مما أدى إلى تفاقم نقص العمالة في الإنتاج غير العسكري ودفع الرواتب والكلف إلى الارتفاع.
كذلك أحدث اقتصاد الحرب في روسيا تغييرات في تكوين الطبقة الوسطى الروسية، التي تتألف تقليدياً من متخصصين متعلمين ورجال أعمال ومتخصصين في تكنولوجيا المعلومات. ومع ذلك، يلتحق الروس من الطبقة الوسطى بالجيش والشرطة على نحو متزايد – ويصبحون من ثم تابعين للدولة. ويرجع هذا التحول إلى التعبئة للحرب وتوسيع وكالات إنفاذ القانون، ولا سيما جهاز الأمن الفيدرالي. هذا التغيير ينطوي على أخطار اقتصادية، لأنه يلزم الحكومة بالاستمرار في دفع مدفوعات باهظة إلى هذه المجموعات حتى عندما تواجه تحديات على صعيد الموازنة. هذه المدفوعات هي قنبلة اقتصادية موقوتة: من الصعب للغاية تخفيض الأجور المرتفعة، والقيام بذلك في صفوف الركيزة الأساسية لحكم بوتين – الجيش وقوات الأمن – ليس خياراً وارداً.
حفزت الزيادات في الأجور ومدفوعات الدولة الاستهلاك الروسي. نمت مبيعات التجزئة، على وجه الخصوص، بنسبة 10.5 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 على رغم التضخم. وأدى توجيه بوتين بتأمين توافر البضائع الاستهلاكية إلى زيادة الواردات من هذه البضائع، مما أحبط الإنتاج المحلي. لا يستطيع بوتين زيادة الإنتاج المحلي من دون التسبب في ارتفاع في الأسعار أو نواقص في المعروض. وسيكون هذا أمراً خطراً: يشعر الروس بالفعل بالضيق، وتحتل الشكاوى في شأن ارتفاع الأسعار رأس قائمة المظالم المرفوعة إلى السلطات الإقليمية والفيدرالية.
مشكلة في الداخل
إن الاقتصاد المستقر الذي يعطي الأولوية للحفاظ على ظروف الاقتصاد الكلي التي يمكن التنبؤ بها هو وحده القادر على تمويل حرب روسيا بصورة موثوقة والحفاظ على المدفوعات للسكان عند المستويات الحالية، أما الإنفاق المتزايد على الحرب والقروض المدعومة للأفراد والشركات فيقوض هذا الاستقرار. كانت موسكو استباقية في شكل خاص في إصدار هذه القروض، واعتباراً من الأول من نوفمبر 2023، بلغت قيمة هذه القروض الإجمالية أكثر من 130 مليار دولار. وهذا الرقم قريب من 14 في المئة من محفظة القروض في النظام المصرفي الروسي وسبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويشكل قطاع الإقراض العقاري التزاماً خاصاً، إذ تقوده الآن برامج القروض الميسرة التي تمثل 70 في المئة من الرهون العقارية الجديدة. وتشهد هذه القروض الطلب الأكبر من قبل الطبقة الوسطى في موسكو وسانت بطرسبورغ، وكذلك في منطقة كراسنودار.
وبما أن الاقتصاد الروسي يصبح أكثر تركيزاً على الحرب، يصبح الروس أيضاً معتمدين في صورة غير مستدامة على المدفوعات المرتبطة بالحرب. ترفض الحكومة الحد من الرهون العقارية المدعومة بسبب مجموعة الضغط القوية التي تمثل المطورين العقاريين. وعلى رغم تشديد الشروط قليلاً، ورفع قيمة الدفعة الأولى بنسبة خمسة في المئة، يستمر البرنامج. ويتجاهل الكرملين حجج المصرف المركزي القائلة إن هذه القروض تخلق ضغوطاً تضخمية إضافية، وتعزز التفاوت، وتشوه أسعار العقارات. وتتحمل أعباء هذه القروض المدعومة فئات الدخل كلها، مما يعني أن دافعي الضرائب من الطبقة العاملة يدعمون الرهون العقارية المخصصة للطبقة المتوسطة. ويجري إصدار أكثر من 60 في المئة من القروض لصالح أشخاص سينفقون أكثر من نصف دخلهم لتسديدها. وعلى نحو متزايد، يتمكن من الوصول إلى برامج القروض مستفيدون من المدفوعات المتعلقة بالحرب. وإذا انتهت الحرب، سيصبح من الصعب للغاية عليهم خدمة قروضهم، ولا سيما في مواجهة الأسعار المتزايدة.
كان للعقوبات الدولية تأثير غير متوقع ومفيد في عزل روسيا عن الصدمات الخارجية من خلال استبعادها من الأسواق المالية الدولية. لكن بسبب الحرب وانهيار العلاقات مع الغرب، تجد موسكو نفسها معتمدة على النفط أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن الحكومة الروسية تعمل على افتراض أنها ستحصل على ما يقارب 119 مليار دولار (6.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) من عوائد النفط والغاز عام 2024، وهو ما سيفوق ثلث إجمالي إيرادات الخزانة. وتفترض موازنة موسكو لعام 2024 أيضاً أن متوسط سعر النفط الروسي يبلغ نحو 70 دولاراً للبرميل وأن البلدان الغربية ستفشل في الحد من عوائد الكرملين من النفط والغاز. هذه الافتراضات تجعل روسيا عرضة إلى تقلبات في أسعار النفط وكذلك إلى جهود البلدان الغربية لتقييد صادرات موسكو.
ولكن سرعان ما يتحول التضخم إلى مشكلة. تجاوز معدله في روسيا بالفعل سبعة في المئة، مما أجبر بنك روسيا على إبقاء معدلات الفائدة عند 16 في المئة. وعلى رغم معدلات الفائدة المرتفعة هذه، تواصل الشركات والأسر الاقتراض، مما يشير إلى توقعات بارتفاع معدل التضخم. وهذا يعني أن معدل الفائدة الرئيس لن يعود إلى خانة الآحاد في أي وقت قريب. ودفع هذا شركات صناعية عملاقة مثل “أفتو فاز” و”السكك الحديد الروسية” إلى محاولة الحصول على إعانات لخدمة ديونها المؤسسية. وذهب الرئيس التنفيذي لشركة الطاقة الروسية “روسنفت”، إيغور سيتشين، إلى أبعد من ذلك، إذ حض بوتين على التأثير في قرارات المصرف المركزي المستقل. ولم يفعل بوتين ذلك. وعلى رغم الهجمات التي شنها أوليغارشيون، والحكومة، بل وحتى مساعد بوتين الاقتصادي مكسيم أوريشكين، حافظت محافظة المصرف المركزي إلفيرا نابيولينا على استقلالها في اتخاذ القرارات في شأن السياسة النقدية. بالنسبة إلى الكرملين، تشكل معدلات الفائدة المرتفعة مشكلة على صعيد السمعة، إذ تقوض رواية بوتين بأن الاقتصاد الروسي مستقر، فالاقتصاد السليم لا يحتاج إلى معدل رئيس للفائدة من رقمين.
وتعد التقلبات في قيمة الروبل دليلاً آخر على عدم استقرار الاقتصاد الكلي. منذ عام 2022، تأرجح الروبل بين 50 و100 روبل للدولار. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تخلي موسكو عن قاعدة من قواعد الموازنة تشتري بموجبها العملات الأجنبية وتبيعها من صندوق الثروة الوطني وإليه لتعويض النواقص والفوائض في عوائد النفط والغاز. لقد منعت هذه القاعدة الإنفاق من التزايد لكن العمل بها انتهى في أعقاب غزو أوكرانيا. وترك التخلي عنها قيمة الروبل تحت رحمة التدفقات التجارية. لا يؤجج سعر صرف الدولار الواقع في خانة المئات التضخم فحسب، هو يثير أيضاً القلق العام.
لا تستطيع السلطات القضاء على السبب الرئيس لضعف الروبل، وهو الإنفاق على الواردات، على رغم أنها تستطيع فرض سيطرة على تدفقات رأس المال. ولمحاربة ارتفاع الأسعار، يمكنها أيضاً تقييد صادرات منتجات معينة، والتهديد بغرامات باهظة لإجبار تجار التجزئة على الحد من هوامش الربح. ومن المرجح أن تتخذ خطوات كهذه، خشية أن يؤدي تدمير سمعة الروبل إلى دولرة مدخرات كل من الشركات والأسر، وإلى مزيد من تدفقات رأس المال إلى الخارج، ذلك أن تقييد الأسعار سيؤدي إلى تسارع ارتفاعها في المستقبل.
العاصفة المتجمعة
يبدو أن بوتين صادق في اعتقاده أن الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي انهارا إلى حد كبير بسبب سوء الإدارة المالية. يدير الاقتصاد الروسي الحديث تكنوقراط محترفون، ويستمع بوتين إلى آرائهم. وحتى الآن، يبدو الوضع مستقراً في الأجل القريب: يعني توافر احتياطات اليوان والذهب ألا داعي إلى أن تقلق موسكو في شأن تمويل الديون الخارجية. لقد ارتفعت كلف الاقتراض المحلي، وضاق الحيز المالي العام، لكن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي المنخفضة في روسيا قبل الحرب تعني أن من غير المرجح أن يشكل الدين خطراً كبيراً في السنوات المقبلة. قد تلجأ الحكومة أيضاً إلى أسواق رأس المال المحلية لتوفير تمويل للإنفاق الحكومي في أثناء خصخصة ممتلكات للدولة، ولا سيما أجزاء من الصناعة العسكرية.
ومع ذلك، تهز الحرب أسس الاستقرار الاقتصادي في روسيا. لقد أثرت بالفعل في ركائز السياسة الاقتصادية التي تؤدي دوراً حاسماً في استقرار الاقتصاد الكلي، بما في ذلك قاعدة الموازنة، وحرية تدفقات رأس المال، وإلى حد ما، استقلال المصرف المركزي.
معظم الجراح التي ألحقها الاقتصاد الوطني بنفسه لا يمكن أن تلتئم من دون إنهاء الحرب ونظام العقوبات، ذلك أن المشكلات البنيوية – ولا سيما الاعتماد على عوائد النفط، وعدم القدرة على العيش من دون واردات أجنبية، صينية في الأغلب، والاتجاهات الديموغرافية السلبية التي تفاقمت بسبب الحرب – لن تختفي في أي وقت قريب. ويتطلب حل هذه المشكلات سنوات من الإصلاحات البنيوية التي تجتذب الاستثمار وتحسن رأس المال البشري. لكن الكرملين غير قادر وأحياناً غير راغب في اتخاذ هذه الخطوات بسبب هوس بوتين بالسيطرة السياسية.
إن الاقتصاد الروسي أكثر عرضة إلى الخطر مما تشير إليه إحصاءات النمو، وقد تحفز الانتخابات المقبلة مزيداً من القرارات المصيرية التي قد تؤدي إلى تفاقم التحديات البعيدة الأجل إذا قرر بوتين شراء ولاء الناخبين من خلال ضخ مزيد من الأموال قبل يوم الاقتراع. ويشكل فرط النشاط – الذي كثيراً ما يكون نذيراً بركود – تهديداً متزايداً، ولا سيما عندما تكون المؤسسات المصممة للتخفيف من الصدمات إما مختلة وظيفياً أو مشلولة بسبب مقتضيات الحرب. وبما أن من غير المرجح أن تنتهي الحرب قريباً، ستتصاعد الكلف المالية والاقتصادية ومن المرجح أن تضرب روسيا بعد سنوات عدة من الآن. ويمكن تسريع هذه العملية بسبب ركود عالمي كبير أو تباطؤ يصيب الاقتصاد الصيني، مما من شأنه أن يلحق ضرراً شديداً بروسيا بسبب اعتمادها الحاد على عوائد صادرات السلع. يلوح شبح التداعيات الاقتصادية المريرة في الأفق ما لم يظهر نموذج اقتصادي روسي جديد ومستدام. لكن هذا النموذج لا يزال مستبعداً إلى حد كبير. بالنسبة إلى بوتين، أصبحت الحرب الآن مبدأ منظماً لسياسته الداخلية والخارجية. وسيكون التخلي عن الحرب من دون شيء يمكن للكرملين أن يعرفه بأنه انتصار مستحيلاً، ذلك أن النزاع الطويل حول أوكرانيا لا يرضي طموحات بوتين الجيوسياسية ورؤيته فحسب، بل يتحول أيضاً إلى استراتيجية بقاء لنظامه. وتتلخص المشكلة في أن أهدافه السياسية لا تتوافق مع أهدافه الاقتصادية. في النهاية، يجب أن يكون الفشل من نصيب أهداف ما.
ألكسندرا بروكوبينكو باحثة غير مقيمة في مركز كارنيغي لروسيا أوراسيا ببرلين وباحثة في مركز دراسات أوروبا الشرقية والدراسات الدولية. عملت في المصرف المركزي الروسي حتى مطلع عام 2022.