في البدء كانت الغاية من ارتداء الملابس هي الحماية من عوامل الطقس وإخفاء الإنسان عورته وفق ما يرغب فيه، ومع تطور الحضارات الكبرى على كوكب الارض تطورت الأزياء، وبمرور الحقب التاريخية أصبحت الملابس علامة أولى على الطبقة التي ينتمي لها البشر سواء كان الشخص مترفاً أم بالكاد يرتدي نسيجاً يستره، كما أنها مؤشر قوي حتى على طبيعة المهنة والانتماء الديني والسياسي وحتى الجنسية وكذلك البيئة لو كانت ريفية أم شاطئية أو غيرها.
تغيرت الأمور مع وجود منافسة قوية في عالم المظاهر ومجال تجارة الثياب، لتتخذ مناح غريبة وأخرى متطرفة، وبات من العادي أن تخرج الملابس عن وظيفتها التي وجدت لأجلها، فبعدما كانت وسيلة للحماية والستر بات من العادي تجريدها من تلك الصفات تماماً والتسابق والتفنن في أن تغطي المساحة الأقل من الجسد.
وفي حين أن الملابس شأن إنساني يتعلق بجميع الناس، وفي بعض الأوقات بالحيوانات التي يحب أصحابها تدليلها باقتناء ملابس فاخرة لها، لكن لماذا النساء دوماً محط الاهتمام في ما يعلق بقطع القماش التي يضعنها على أجسادهن؟
فمن يسن لهن قوانين الملبس التي يخضعن لها، هل المرجعية عائلية أم دينية، أم متعلقة بمديري العمل، أم الحكومات والبلديات، أم بالمديرين الإبداعيين في كبرى بيوت الموضة ولماذا تتعدد الجهات التي ترغب في أن تضع بصمتها على ملابس النساء اللاتي من المفترض أنهن قطعن شوطاً لا يمكن التراجع عنه في ما يتعلق بحريتهن في الاختيار، بينها بالتأكيد حرية التأنق بالطريقة التي تلائم شخصياتهن؟
من يدفع الثمن؟
بالطبع “لكل مقام مقال” وما يرتدى على الشاطئ لا يلائم قاعات الدرس، كما أن هناك بعض الأقمشة بعينها ارتبطت بثياب النساء مثل الدانتيل والشيفون والساتان، إلا أن تقليعات الموضة جعلت هناك تماهياً بين عالمي الأزياء، فمثلاً من حين لآخر نجد هجوماً لاذعاً على بعض النجوم العرب الذين يبادرون بارتداء ملابس مزينة بنقوشات نسائية ومصنوعة من نسيج أقمشة وألوان كان يعتقد أنها خاصة بمجتمع النساء لاسيما في القطر العربي.
لعل أبرز المشاهير الذين أثاروا جدلاً في هذا الشأن أحمد سعد ومحمد رمضان وويجز وعمرو سعد وأحمد مجدي، إذ تعرضوا للسخرية واتهموا بمعاندة تقاليد المجتمع، لكن هذه أمور تبدو مهما كانت أقل بكثير من موجات الغضب ومطالبات توقيع أقصى العقوبة التي تصاحب أي ظهور لفنانة بملابس تبدو في نظر البعض جريئة، بينها على سبيل المثال واقعة فستان البطانة الذي ظهرت به الممثلة رانيا يوسف في حفلة ختام مهرجان القاهرة عام 2018، إذ اضطرت إلى الاعتذار مراراً وتكراراً وتعرضت إلى حملات من التجريح استمرت لسنوات.
التدخل في ماهية وتفاصيل ملابس النساء طريقة يحاول أن يثتبت بها المجتمع حقه غير الأصيل في الحكم على أخلاقيات المرأة، وبشكل عام فإن الثياب النسائية هي الشق الأكثر جدلاً في عالم الموضة، قد يكون لأنه الأكثر ربحاً نظراً إلى اهتمام الإناث بشكل عام بالتسوق وبمظهرن، وهو أمر تعرف دور الأزياء كيف تلعب عليه بمجموعات تعرضها كل موسم عبر أسابيع الموضة في عواصم العالم، وخطوط متنوعة تبدو جذابة وربما تبدو شديدة الغرابة والصدامية.
ومع ذلك فالفتيات يرحبن كثيراً بالسير على أحدث خطوط دور الأزياء، ويقلقن إذا ما تخلفن عن الركب وبدت صيحات ملابسهن أقل حداثة وتنتمي لعصور سابقة وبألوان وأقمشة لم تعد رائجة مثلما كانت فيما قبل، لكنهن يمتعضن للغاية حينما تأتيهن تعلميات محددة بالتقيد بـ”يونيفورم” أو زي رسمي معين، أو حتى قطع بعينها يفرضها الأهل أو العرف أو النظام السياسي.
انتفاضات تاريخية
تدخل السلطات الدينية والسياسية على خط الملابس يحيل المسألة من كونها أمراً طبيعياً إلى أزمات عنف دموي، على نحو ما حدث في إيران على سبيل المثال، إذ تسببت قطعة قماش على الرأس وجدت الشرطة أن فتاة لم ترتديها كما ينبغي من وجهة نظرهم في انتفاضة لم تنطفئ منذ سبتمبر (أيلول) 2022.
كانت مهسا أميني بطلة الواقعة وقتلت بحسب التقارير المتداولة على يد شرطة الأخلاق الإيرانية بحجة عدم التزامها بقواعد الملبس التي تفرضها الجمهورية الإسلامية، وبعدها انخرطت النساء في شوارع البلد الذي تحكمه قواعد دينية وسياسية صارمة في خلع الحجاب بالشوارع وأخريات تضامن معهن من وراء المحيطات بحلق شعورهن.
حدثت تلك الانتفاضة بصور أو بأخرى على مر التاريخ في دول عدة من أجل الفوز بالحرية في اختيار الملبس، من بين أبرزها في القطر العربي خلع هدى شعراوي وسيزا نبراوي رائدتي الحركة النسوية في مصر للبرقع عام 1921 حينما كانت البلاد منتشية بحركة سعد زغلول الثورية الوطنية في مجابهة الاحتلال البريطاني.
الاستهجان الذي قوبل جراء هذا الفعل كان من النساء قبل الرجال واعتبر خروجاً على الأعراف، وشيئاً فشيئاً رحبت رفيقاتهن بهذه المكتسبات وما هو أكثر منها، مثل الحق في التعليم وفي التصرف بحرية في مجالات حياتية كثيرة، إذ إن حق تقرير طبيعة الملابس من أبسط الأمور التي تتمتع بها النساء خلال العصر الحالي، خصوصاً أن أي ضوابط مبالغ فيها ستأتي بنتيجة عكسية بطبيعة الحال.
حرية الثياب تثير الامتعاض أيضاً
وفي حين وصلت حرية الملبس إلى مداها في بعض الثقافات بسبب عدم وجود أي قواعد أو مرجعية مجتمعية للملابس إلا أن الحرج المجتمعي الضمني لا يزال له حضور كبير، حتى لو كان بلا سند قانوني، وإلا فما الذي يفسر التعليقات والمقالات المستهجنة لأسلوب ملابس مغني الراب كانييه ويست “ييه” وزوجته الجديدة بيانكا سينسورى، إذ يسيران في شوارع أميركا وأوروبا بأنماط غير معتادة من الأزياء. فأغلب الوقت يغطي كاني وجهه من دون داع مستعملاً قميصاً أو أية قطعة قماش، فيما بينكا تحصد التعليقات الأكثر غضباً كونها تتخفف من أكبر قدر من الملابس وتختار الشفافة والرقيقة منها لدرجة أن بعضهم كان يتصور أنها تسير من دونها.
على هذا النحو بعد أن كانت طبقات الملابس المتعددة والمزينة والثقيلة علامة أولية على الثراء في عصور قديمة، أصبح التقليل منها وسيلة المشاهير أصحاب الثروات في هذا العصر لجذب الأضواء والتعبير عن تفردهم في الأناقة، لكن تحضر الضوابط بصورة أكبر في ما يتعلق بالمسابقات الرياضية التي تشترط مواصفات محددة بدقة للملابس سواء للرجال أو النساء، إلا أن هناك اتهاماً متكرراً للمسؤولين عن وضع تلك الضوابط بأن الأمر ينطوي بشكل أو بآخر على نوع من أنواع الاستغلال الجنسي للفتيات المشاركات، وهي وجهة النظر التي عززها تصريح كان ألقى به الرئيس السابق للاتحاد الدولي لكرة القدم جوزيف بلاتر، حيما طالب بأن ترتدي اللاعبات سراويل ضيقة لتحقيق شعبية كبيرة في مجال كرة القدم النسائية والوصول إلى شرائح أكبر من الجمهور.
ولعل هذا التوجه يجعل الرياضيات بشكل عام يشعرن بعدم الراحة، وقبل عامين أثارت لاعبات فريق الكرة الشاطئية في النرويج الجدل بعد رفضهن ارتداء البكيني في بطولة أوروبا، واخترن ارتداء السراويل الطويلة بدلاً من هذا الزي القصير الضيق، إذ اعتبرن تقييدهن بهذه الثياب أمراً يدعو إلى الريبة ووصفوها بأنها تحمل سمات جندرية.
اللافت أن قرار المنتخب أثار التعاطف، إذ إن مطربة البوب الأميركية بينك غردت حينها بأنها لا تمانع دفع الغرامة المالية نيابة عن الفتيات إذا ما عوقبن على هذا التمرد، واللافت أنه في استطلاع للرأي نشر عبر موقع Golfsupport قبل أعوام فإن أكثر من 75 في المئة من المشاركات اتفقن مع هذا الطرح ووجدن أن الملابس الرياضية التي تباع في الأسواق تضفي طابعاً مثيراً على النساء ولا يكون الهدف منها فقط إشعارهن بالراحة أثناء ممارسة التمارين فحسب، وهو أمر يسبب لديهن الحنق على مصمميها.
ضوابط شرعية
ملابس الرياضة الخاصة بعالم النساء تأخذ حيزاً من النقاش على الدوام، وبالطبع تعددت الأسئلة التي وردت للأزهر بهذا الخصوص، إذ أقر مرصد الأزهر بعدم ممانعة ممارسة الرياضة بالنسبة إلى الفتيات من أجل الصحة البدنية، ولكن الضوابط التي وضعها تبدو معها فكرة المنافسة الاحترافية صعبة للغاية كأن تمارس في حدود المجتمع النسائي فقط من دون اختلاط، وأن تلتزم فيها المرأة بالضوابط الشرعية للملبس الذي لا يثير الغرائز، وهي عبارة فضفاضة فمن يحدد أن هذا الزي يثير الغرائز أم لا؟
يأتي هذا في الوقت الذي باتت فيه دور الأزياء العالمية تغازل المحجبات وأصحاب التوجه المحتشم في الثياب من خلال مجموعات ملابس عصرية تطرح في كل موسم تلائم طبيعة اختياراتهن، كما أن عارضات الأزياء المحجبات اللاتي يتعاون مع علامات شهيرة في عالم الموضة في ازدياد يوم بعد يوم، وبينهن حليمة آيدن.
لكن محلياً لا تزال العقوبات المجتمعية تنهال على الفتيات اللاتي يرتدين ملابس لا تعجب بعض المتشددين، على رغم أن القانون يكفل لهن حرية اختيار ما يلائمهن طالما لا يتعدين على قوانين المؤسسات التي ينتمين لها، إذ تجد الفتيات أنفسهن مطالبات بالخضوع للقوانين الشخصية تماماً التي يضعها بعضهم ويحاول تطبيقها بالقوة، أو بالسخرية مثلما حدث قبل عامين في جامعة طنطا جنوب مدينة الإسكندرية شمال مصر، حينما قامت المراقبة بالتهكم على فتاة بكلية الآداب إذ كانت الفتاة تهم بالخروج من اللجنة بعد أداء الامتحان إلا أن المراقبة أبدت امتعاضها لأن الفتاة كانت ترتدي فستاناً وجدته الموظفة قصيراً وأنه كان من الأفضل لها أن ترتدي بنطلوناً.
الموقف تصاعد وأحيلت الواقعة للنيابة، وتلقت الفتاة تهديداً بالرسوب إذا لم تغير أقوالها، وبالفعل رسبت في مادتين ثم تركت الجامعة بأكملها وقدمت أوراقها لأخرى، وبالطبع هذه الأفكار يتبناها أصحاب نظرية أن ملابس الفتيات هي السبب في تعرضهن للتحرش بالشوارع، وليس أخلاق الفتيان الذين لا يخضعون إلى معايير القوانين والأديان.
على جانب آخر هناك تمييز من نوع معاكس تتلقاه بعض المنتقبات والمحجبات في البلاد عن طريق منعهن من دخول شواطئ وفنادق ومطاعم بعينها وعلى رغم الاستغاثات المتكررة إلا أن تلك الوقائع تتكرر.
الالتزام بالقواعد
من جهتها ترى المحامية دينا عدلي حسين أنه يجب على الجميع الالتزام بقواعد أية مؤسسة في ما يتعلق بمظهر الملابس طالما أنه معلن ومحدد سلفاً، لافتة إلى أنه من القانوني أن يطالب أي مكان بتطبيق البنود التي يجدها تلائم طبيعة نشاطه.
أضافت “أن المرأة ملزمة بارتداء الحجاب حينما تدخل إلى المسجد، فهذه قواعد معلنة ومعروفة، وبالتالي حينما تأتي أية مؤسسة وتضع شروطاً بعينها لمظهر الزوار فمن الطبيعي أنها تتوقع الالتزام بها، فإذا كان هناك مكان يقدم مشروبات روحية ورواده يرتدون الملابس الشاطئية بعيداً من البوركيني وغيره، فالقائمون عليه لا يريدون أن تتعرض المحجبات لمضايقات أو منقاشات مؤذية وبالتالي وضعوا تلك الضوابط”، واصفة الموقف بأنه احترام للمكان ومراعاة للضوابط واللوائح وكذلك مشاعر المحجبات.
تشير دينا إلى أنه على سبيل المثال تشترط مكاتب المحاماة أن يحضر العاملة بها إلى المكتب وإلى جلسات المحاكم بالزي الرسمي، وبالتالي ففي حال مخالفة تلك القاعدة من الطبيعي أن يترتب عليها قرار حاسم، فرد الفعل هنا ليس تحيزاً ضد المخالف وإنما محافظة على هيبة الوظيفة التي من المفترض أن الموظف وافق على شروط الالتحاق بها، إذ تؤكد القاعدة الشهيرة “العقد شريعة المتعاقدين” طالما أن تلك الشروط لا تخالف الآداب العامة.
تغطية الوجه بتصريح أمني
في المقابل من ضمن تلك الضوابط واللوائح ما أقرته وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني في مصر أخيراً، وهو متعلق بمظهر الفتيات في المدارس إذ حظر ارتداء النقاب، كما تضمن بيان الوزارة حديثاً مقتضباً عن ارتدء الحجاب كونه غير ملزم، وأنه لا ينبغي أبداً إجبار التلميذات على ارتدائه، ولكن استثني الأمر فقط واعتبرت الوزارة أن الأب من حقه أن يجبر ابنته بالفعل على تغطية شعرها.
في السياق أكدت رئيس الجمعية القانونية لحقوق الطفل والأسرة المحامية دعاء عباس أنه لا يوجد نص قانوني أو أساس دستوري يبيح لولي الأمر إجبار ابنته على ارتداء الحجاب أو النقاب حتى لو كانت تحت السن، فالمنوط بالآباء ألا يعرضوا أطفالهم للخطر وأن يقوموا بحمايتهم من العنف وأن يهتموا بصحتهم، لكن طالما أن الأمر لا يسبب له أذى راهناً أو مستقبلاً، إذ للطفل الحرية الكاملة في اختياراته وبينها الملبس بطبيعة الحال، ووصف المحامية في شؤون الأسرة والطفل أن مثل هذه البنود هي بمثابة عودة للعصور الوسطى وانتكاسة للمكتسبات التي حصلت عليها النساء وتلبية لنداءات الجماعات المتطرفة، لافتة إلى أن الإجبار على تلك النوعية من الثياب يأتي بنتيجة عكسية تماماً وتحدث بسببه مشكلات كبيرة من وراء الأهل.
وفي ما يتعلق بالجدل الدائر دوماً حول انتشار النقاب في الشوارع والمدارس تشير دعاء إلى أن الزي الذي يغطي الوجه يمثل خطورة أمنية كبيرة، نظراً إلى سهولة تضليل كاميرات المراقبة بمثل هذا النوع من الملابس مما يصعب الكشف عن ألغاز الجرائم.
وأشارت إلى أنها ترى أن الحل ليس في حظر النقاب، وإنما في ضرورة إخطار الجهات الأمنية بارتدائه، وأن تستحدث قرارات تلزم أية منقبة بإلإبلاغ عن بياناتها كاملة للجهات الأمنية في محيطها، كي يتسنى لها تغطية وجهها بعد الحصول على التصريح الأمني، ولفتت رئيسة الجمعية القانونية لحقوق الطفل والأسرة أن مثل هذا القرار من شأنه أن يقلل تلقائياً من أعداد مرتديات النقاب لأنه يختبر مدى جديتهن.