EPA

فلسطينيون يتفقدون منطقة قصفها الطيران الاسرائيلي في غزة في 23 اكتوبر

بينما تثابر إسرائيل على تدمير غزة وانتهاك القانون الدولي الإنساني وقوانين الحرب، وتتحشد قواتها على أسوارها استعدادا للمعركة الكبرى، ويعجز المجتمع الدولي عن إلزام إسرائيل بوقف إطلاق النار، يبقى التساؤل حول ما ستؤول إليه هذه الحرب…

لا بد من التوقف عند مجريات قمة السلام التي عقدت في القاهرة يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وغاب عنها الرئيس الأميركي جو بايدن، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

لقد فشلت القمة في إصدار بيانها الختامي بسبب الخلاف بين المجموعة العربية والمسؤولين الأوروبيين، حول “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، و”الإدانة الصريحة لحركة حماس”. لقد شاءت مصر كما ورد في بيان الرئاسة أن “يطلق المشاركون نداء عالميا للسلام، يتوافقون فيه على أهمية إعادة تقييم نمط التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية على مدار العقود الماضية، بحيث يتم الخروج من رحم الأزمة الراهنة بروح وإرادة سياسية جديدة تمهد الطريق لإطلاق عملية سلام حقيقية وجادة، تُفضي خلال أمد قريب ومنظور إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية”.

لكن التباين الغربي مع الموقف المصري خلال القمة لم يلبث أن تُرجم أميركيا من خلال مشروع قرار اقترحته الولايات المتحدة على مجلس الأمن الدولي بعد انتهاء القمة بساعات. تفاصيل المشروع الأميركي التي لا تتضمن أي دعوة لوقف إطلاق النار أو لأي هدنة في القتال، تؤكد أن للولايات المتحدة مقاربة مختلفة، ليس في التعامل مع الأزمة المتفاقمة في غزة أو مع القضية الفلسطينية برمتها فحسب، بل مع ما يمكن تسميته قواعد الاشتباك الأميركية في الشرق الأوسط:
أ‌-    يؤكد المشروع الأميركي على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
ب‌-     يطالب إيران بالتوقف عن تصدير الأسلحة إلى “الميليشيات والجماعات الإرهابية التي تهدد السلام والأمن في أنحاء المنطقة” ومنها “حماس”
ت‌-     يدعو جميع الدول إلى الحيلولة دون “اتساع رقعة العنف في غزة أو الامتداد إلى مناطق أخرى في المنطقة وذلك من خلال مطالبة حزب الله والجماعات المسلحة الأخرى بالوقف الفوري لجميع الهجمات”.
ث-    يدعو إلى حماية المدنيين بمن فيهم أولئك الذين يحاولون النجاة بأنفسهم، ويشير إلى أن الدول يجب أن تلتزم بالقانون الدولي عند الرد على “الهجمات الإرهابية”.
ج-     يحث على دخول المساعدات إلى قطاع غزة بشكل “مستمر وكاف ودون أي عوائق”.
يتزامن مشروع القرار الأميركي مع إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، إرسال منظومة دفاع جوي من طراز “ثاد” والمزيد من أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية “باتريوت” إلى الشرق الأوسط، ردا على الهجمات الأخيرة على القوات الأميركية في المنطقة، بالإضافة إلى وحدات عسكرية دون ذكر أعدادها، لتنضم إلى حاملتي الطائرات “جيرالد فورد”، و”دوايت أيزنهاور”، اللتين تترقب المنطقة وصولهما خلال الأسبوعين المقبلين. وربما يأتي قصف مطاري دمشق وحلب صباح يوم الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول وإخراجهما من الخدمة من قبل الطيران الإسرائيلي للمرة الثانية خلال أسبوع في سياق التوجه الأميركي لوقف إرسال السلاح إلى الميليشيات في المنطقة.

هذه الإجراءات الأميركية الميدانية المكثفة تتسق مع مشروع القرار الأميركي لا سيما بشقيه المتعلقين بدعوة الدول إلى الحيلولة دون “اتساع رقعة العنف ومطالبة حزب الله والجماعات المسلحة الأخرى بالوقف الفوري لجميع الهجمات وإيران بوقف تصدير الأسلحة”، وهي تلاقي في الوقت عينه المواقف التي صدرت عن الرئيس بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، خلال زيارتهما للمنطقة، والتي تؤكد أن هناك إعادة تعريف للأمن في المنطقة وللشركاء، وأن نقطة الاختلاف الوحيدة بين الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة هي طريقة إخراج مقاتلي غزة من القطاع دون تعريض السكان لمزيد من القتل والتدمير.

في ظل كل ذلك يطرح السؤال: غزة إلى أين؟ وما السيناريوهات المحتملة؟
لا شك أن التعايش غير المستقر الذي عززته إسرائيل وحماس على مدى 17 عاما- دورات من التصعيد الدموي تليها فترات من “السلام الاقتصادي”، حيث يمكن لسكان غزة العمل وتصدير البضائع إلى إسرائيل- لن ينجو من الحريق القادم. لقد أنهت عملية “طوفان غزة” الوضع الراهن، وإنه لمن المبكر توقع ما سيكون عليه الوضع الجديد، وبهذا المعنى يقول تشاك فريليتش، النائب السابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي: “لم نشهد هذا من قبل. هذه ليست مجرد جولة أخرى مع حماس”.
إن الصدمة التي أحدثتها عملية طوفان غزة وأسفرت عن مقتل 1400 إسرائيلي بينهم أكثر من 300 عسكري قد أطاحت بالافتراضات القديمة، ما جعل السيناريوهات التي بدت مستحيلة من قبل تصبح قائمة، وهي: قيام إسرائيل بإعادة احتلال غزة، على الأقل مؤقتا، وعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع؛ وقوات حفظ سلام دولية؛ وحماس منزوعة السلاح تدير القطاع. لكن هذه السيناريوهات لا تزال خارج دائرة النقاش.
إن هدف إسرائيل المعلن في المعركة التي تلوح في الأفق هو القضاء على “حماس”- التي تصنفها الولايات المتحدة وآخرون على أنها جماعة إرهابية- مرة واحدة وإلى الأبد. وقد تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للإسرائيليين في خطاب متلفز: “سوف نسحقها وندمرها”.

 

صحيح أن الجمهور الإسرائيلي يقف أكثره وبقوة وراء الهدف الحالي (دمروا غزة). لكن الحروب السابقة تشير إلى أن المزاج العام قد يتغير– وقد يتضاءل الدعم الدولي– إذا طالت الحرب البرية المتوقعة وأسفرت عن سقوط كثير من القتلى

 

 

ولكن ماذا يعني سحق “حماس”؟ “حماس” آيديولوجيا، مثل “داعش”، ومن الصعب سحق فكرة. ثم إنه حتى لو قتلت إسرائيل كل قادة “حماس” في غزة ودمرت كل الأنفاق، فإن “تدمير” المنظمة قد لا يكون ممكنا، فلـ”حماس” قادة ونشطاء خارج غزة ويتنقلون بين كثير من دول المنطقة، وفي الضفة الغربية. ومن الممكن العثور على أنصار لـ”حماس” ليس فقط في غزة، بل وأيضا في أنحاء وأماكن أخرى.
من جهة أخرى، صحيح أن الجمهور الإسرائيلي يقف على نطاق واسع وبقوة وراء هذا الهدف في الوقت الحالي (دمروا غزة). لكن الحروب السابقة تشير إلى أن المزاج العام قد يتغير– وقد يتضاءل الدعم الدولي– إذا طالت الحرب البرية المتوقعة وأسفرت عن سقوط كثير من القتلى.

إسرائيل تحدد ثلاث مراحل للحرب… و”نظام أمني” جديد بعد هزيمة “حماس”

يقول وزير الدفاع يوآف غالانت إن إسرائيل تشارك حاليا في المرحلة الأولى من ثلاث مراحل متوقعة لإنهاء الصراع، وهي الغارات الجوية، تليها المناورات البرية لتدمير الحركة، ثم سيكون هناك “واقع أمني” جديد في القطاع في المرحلة الثالثة.
وقال غالانت لأعضاء اللجنة خلال اجتماع لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست: “نحن في المرحلة الأولى، حيث تجري حملة عسكرية تتضمن غارات جوية، ثم مناورة برية بهدف تدمير النشطاء وضرب البنية التحتية، وفي المرحلة الثانية سنستمر في القتال ولكن بكثافة أقل، حيث تعمل القوات على “القضاء على جيوب المقاومة”. أما الخطوة الثالثة فستكون بإنشاء نظام أمني جديد في قطاع غزة، دون أي مسؤولية لإسرائيل عن الحياة اليومية في القطاع وإنشاء واقع أمني جديد لمواطني إسرائيل وإسرائيل”، أي سكان المنطقة المحيطة بغزة.

إن السيناريو الذي يبقى فيه الجناح السياسي لحركة “حماس” ليحكم القطاع أمر مستبعد للغاية ولكنه ليس مستحيلا، وفقا ليوسي ميلمان، وهو كاتب عمود استخباراتي منذ فترة طويلة في صحيفة “هآرتس”. يفكر المسؤولون في هذا الاحتمال في الأساس لأنه سيدعم أولوية استراتيجية لنتنياهو: الاستمرار في انقسام الشعب الفلسطيني بين “حماس” والسلطة الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية. وأضاف ميلمان: “لقد كان هذا دائما السيناريو الحلم بالنسبة لإسرائيل: حماس منزوعة السلاح وتبقى في السلطة”.

هل تبدو خطة غالانت قابلة للتطبيق؟

تقول صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في عددها الصادر يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023: “لقد شهدت الأيام الأخيرة ضغوطا متزايدة على الحكومة لوضع استراتيجية واضحة لكيفية تجنب التورط في عملية إعادة احتلال طويلة للقطاع، وللخروج من غزة مع ضمان عدم إدارة القطاع من قبل حركة حماس”.
وتضيف الصحيفة: “إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تضغط بشكل خاص على إسرائيل لتوضيح استراتيجية خروجها. لقد أشار نتنياهو ودائرته الداخلية لنظرائهم الأميركيين إلى أن إسرائيل لم تتوصل بعد إلى مثل هذه الاستراتيجية وأنها تركز أكثر على الهدف المباشر المتمثل في إزالة حماس من السلطة في غزة”.
وخلال الأسبوع المنصرم (يوم 18 اكتوبر) حذر بايدن إسرائيل من التورط في غزة إلى أجل غير مسمى، مشيرا إلى ضرورة الاستفادة من تجارب الولايات المتحدة في أفغانستان بعد غزوها عام 2001 للإطاحة بحركة طالبان في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول. وفي تجسيد لعدم الارتياح إزاء احتمال خروج الحملة الإسرائيلية ضد حماس عن مسارها بسبب الخسائر المدنية، حذر بايدن من أن القيادة في زمن الحرب “تتطلب الوضوح بشأن الأهداف وتقييما صادقا حول ما إذا كان المسار الذي تسلكه سيحقق تلك الأهداف”.

تساؤلات إسرائيلية

لا يبدو أن عملية اجتباح غزة قد استكملت العناصر اللازمة لاتخاذ القرار بشأنها بالرغم من تصريحات رئيس الحكومة نتنياهو وبالرغم من إعلان الجيش الاسرائيلي أنه استكمل استعداداته. هناك مخاوف وتحديات تتجاوز احتمالات النجاح الميداني وتطرح كثيرا من التساؤلات حول قدرة إسرائيل على البقاء في غزة ومدى تحمل تداعيات ما بعد احتلال غزة. وفي هذا لإطار تقول وزيرة المخابرات غيلا غملئيل: “نحن بحاجة إلى أن نعرف كم من الوقت سيستغرق تدمير حماس… بعد ذلك أعتقد أنه سيكون هناك تفاهم دولي مع إسرائيل في اليوم التالي… لكننا الآن بحاجة إلى وضع كل قوتنا للانتصار في هذه الحرب”.

 

يرى بعض المحللين أن إرسال قوة حفظ سلام دولية أو عربية قد يكون أحد الخيارات لعودة نهائية للسلطة الفلسطينية، التي كانت الهيئة الحاكمة لقطاع غزة بين عامي 1994 و2006. وتعتمد وجهة النظر هذه على قدرة المملكة العربية السعودية على لعب دور الوسيط في وصول السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة

 

 

وفي حين يقول محللون أمنيون إنه من السهل تصور أن هذه الحرب ستستمر لفترة أطول، وإن احتمال عودة إسرائيل إلى غزة يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أمر مستبعد، لكنهم يتساءلون حول الجهة التي ستملأ الفراغ الذي سيعقب خروج حماس ومدى قدرتها على إعادة بناء القطاع المدمر، وفي الوقت نفسه منع حماس من تجديد نفسها؟
وفي هذا الإطار يقول كوبي مايكل، الباحث البارز في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب: “إن إسرائيل ليست مستعدة للتضحية بأرواح جنودها أكثر مما هو ضروري، وبعد ما يمكن أن يكون غزوا وحشيا، فإن البقاء في غزة للحكم لن تكون له أي جاذبية. إن إسرائيل لن تحتل غزة وتدير حياة مليوني فلسطيني”.
ويرى بعض المحللين أن إرسال قوة حفظ سلام دولية أو عربية قد يكون أحد الخيارات لعودة نهائية للسلطة الفلسطينية، التي كانت الهيئة الحاكمة لقطاع غزة بين عامي 1994 و2006. وتعتمد وجهة النظر هذه على قدرة المملكة العربية السعودية على لعب دور الوسيط في وصول السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، لا سيما أن المملكة أشارت خلال محادثات التطبيع مع إسرائيل عبر الولايات المتحدة إلى أن أي اتفاق ثنائي مع إسرائيل يجب أن يتضمن أحكاما تتعلق بالفلسطينيين، ربما في ذلك تدابير لتعزيز السلطة الفلسطينية المتضائلة.

الخاتمة

يشكل الاجتياح البري بحد ذاته تحديا كبيرا لإسرائيل ليس فقط على صعيد المغامرة الميدانية وارتفاع نسبة المخاطرة بل في القدرة على إدارة مرحلة ما بعد العملية سواء في حال محدودية نجاحها أو فشلها. وبهذا المعنى يصبح البحث عن مسار دبلوماسي يضمن إقفال دائرة العنف بشكل نهائي ويضمن حقوق الفلسطينيين بإقامة حل الدولتين كخيار أمثل.
إن استعداد دول الخليج العربي ومصر، والحكومات العربية الأخرى، لمساعدة إسرائيل في صياغة نهاية اللعبة قد يعتمد على الكيفية التي ستنتهي بها حرب غزة. لقد صُدم العالم بوحشية حماس لكنهم عايشوا الوحشية الإسرائيلية منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، كما أن التجربة التدميرية اليومية والخسائر في صفوف المدنيين والمعاناة الإنسانية في غزة من شأنها أن تؤدي إلى تآكل الدعم الدولي وقابلية الدول العربية على تلقف النتائج.
وبهذا المعنى يقول فريليتش النائب السابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي: “الآن نرى دعما قويا من الولايات المتحدة والدول الغربية. لكن الدعم الشعبي سوف يتغير، ويضعف، عندما تصبح حملة غزة قبيحة”.