أكدت الحرب الدائرة في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول أن العالم العربي لم ينعم بالسلام والتنمية الحقيقية منذ أمد طويل. عانت الدول العربية منذ نكبة 1948 عندما أعلنت دولة إسرائيل وخسر الفلسطينيون وطنهم تحت أنظار العالم.
ربما مر العرب بحروب وأحداث أمنية كثيرة قبل ذلك، لكن اقامة دولة إسرائيل عززت المشاعر المعادية بسبب حرمان الفلسطينيين أراضيهم وتشريدهم. أدت النكبة إلى توترات في دول عربية عدة، خصوصاً تلك المجاورة لفلسطين مثل لبنان وسوريا والأردن ومصر وغيرها من الدول، وتبنت أحزاب وحركات سياسية القضية الفلسطينية وتعهدت بالثأر وإعادة فلسطين إلى أصحابها بعد الهزيمة من إسرائيل، التي انتصرت على العرب في حرب 1948، وعلى الرغم من مشاركة جيوش مصر والعراق وسوريا والأردن.
النكبة والعسكرة
أدت النكبة إلى قيام ضباط شباب بانقلابات عسكرية على الأنظمة الحاكمة في سوريا ومصر والعراق قبل أن تمتد إلى السودان واليمن وليبيا. هؤلاء الذين تولوا السلطة بعد الانقلابات العسكرية، اهتموا بالعسكرة وشراء الأسلحة وتخصيص الموارد المالية للدفاع والتحضير للمعركة الكبرى، كما زعموا، أما مسألة التنمية والتطوير والتعليم والرعاية الصحية وتسخير الموارد والامكانات لبناء اقتصادات عصرية، فلم تكن على أجندة الأنظمة التي جاءت إلى السلطة منذ عام 1952.
لا شك في أن غياب الرؤية في شأن الحلول الواقعية للقضية الفلسطينية، وتعنت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، وإصرارها على رفض قرارات الأمم المتحدة التي صدرت منذ عام 1947، أدت إلى تراجع فرص السلام واستتباب الأمن في فلسطين وفي عدد آخر من الدول العربية.
بدأ العالم العربي الذي ابتلي بكارثة فلسطين يعاني من ظاهرة النمو السكاني المتسارع. قدر عدد سكان الدول العربية بنحو 75 مليون نسمة في عام 1950. كانت مصر هي الكبرى من حيث عدد السكان آنذاك، حيث بلغ 21 مليوناً، ولم يتجاوز عدد سكان أي من الدول العربية الرئيسة في ذلك الحين، مثل الجزائر والسودان والعراق والمغرب والسعودية واليمن وسوريا، عشرة ملايين نسمة، بل إن العديد منها كان عدد السكان فيها أقل من خمسة ملايين نسمة، ودون المليون في عدد آخر من هذه الدول. كانت تلك الدول تعاني من الأمية والفقر وتوزيع غير عادل للدخل الذي كان يجنى من مصادر اقتصادية محدودة، أهمها الزراعة في دول مثل مصر وسوريا والسودان والمغرب والعراق. وكانت الدول الخليجية لا تزال بعيدة عن التمتع بالعصر النفطي، واعتمدت على موارد محدودة من التجارة مع الهند وشرق أفريقيا وما تجنيه من البحر من لؤلؤ.
على الرغم من تلك الأوضاع الاقتصادية المتواضعة، رصدت الدول العربية أموالاً طائلة، بمقاييس تلك السنوات، من أجل دعم القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين. منذ ذلك الحين، تحولت المسألة الفلسطينية إلى أبرز القضايا التي ترصد لها الأموال الهادفة لدعم المجهود الحربي وتوفير الحياة الكريمة للاجئين في دول عربية مثل لبنان والأردن وسوريا.
الصراع من منظار التنمية
طرح عدد من المفكرين العرب مسألة الصراع العربي الإسرائيلي من منظار آخر. أثار هؤلاء مسألة التطور الاقتصادي والاهتمام بالعلم والمعرفة وتعزيز القدرات التقنية الحديثة لمنافسة الاسرائيليين، الذين قدم معظمهم من دول أوروبية تتمتع بأوضاع تعليمية وصناعية أفضل من الدول العربية، وسخروا معرفتهم من أجل استصلاح الأراضي والارتقاء بالإنتاج الزراعي وإقامة صناعات جديدة ومراكز تعليمية ذات جودة عالية.
أكد عدد من هؤلاء المفكرين العرب أن تسخير الأموال في مجالات الإصلاح الاقتصادي والتنمية وبناء المعرفة وتحسين أداء المؤسسات التربوية، ربما يؤتي ثمارا أفضل ويمكن من مواجهة إسرائيل بقدرات أفضل في المستقبل.
لكن الأنظمة العسكرية التي تمكنت من السلطة في الدول العربية، والتي لم تحسن إدارة اقتصاداتها، بل دمرتها بقرارات متعسفة، وألغت دور القطاع الخاص، وصادرت إمكاناته المالية، لم تكن في وارد السيناريو التنموي بل خصصت الأموال لبناء ترسانات حربية، كان من المفترض توظيفها لمحاربة إسرائيل، إلا أنها خضعت لإدارات متخلفة وغير كفوءة وخسرت الحروب التي خاضتها منذ بداية الصراع مروراً بحرب 1956 وحرب 1967، ولم يتحقق النصر إلا في حرب 1973، التي خطط لها الرئيس الراحل أنور السادات ومساعدوه بعناية، وأنجز بعدها السلام مع إسرائيل وانسحابها من سيناء.
تكاليف باهظة
التكاليف التي تحملتها الدول العربية بعد هزيمة 1967 كانت باهظة بحسب مقاييس ذلك الوقت. فقد حمل مؤتمر الخرطوم الذي عقد بعد الهزيمة في أغسطس/آب 1967، السعودية والكويت وليبيا 147 مليون جنيه استرليني لدعم مصر والأردن. رصدت هذه الأموال من أجل دعم المجهود الحربي وتعزيز إمكانات إزالة آثار العدوان وتحرير الأراضي العربية التي احتلت في عام 1967.
المثير للاهتمام، أنه تقرر إضافة إلى ذلك، تأسيس الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لدعم جهود التنمية في الدول العربية. ربما كان ذلك القرار يعكس حكمة المؤتمرين واقتناعهم بأن التنمية تمثل جانباً أساسياً من المعركة مع إسرائيل.
كانت الحرب التي خاضتها الدول العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين مكلفة بشرياً ومادياً. تحملت مصر أعباء مهمة حيث خاضت حرب 1956 وبعدها حرب 1967. سبق ذلك التورط في الصراع بين الملكيين والجمهوريين في اليمن. من ثم، خاضت مصر حرب الاستنزاف حتى حرب العبور في أكتوبر/تشرين الأول، 1973. كلفت هذه الحروب الخزينة المصرية مبالغ مهمة، اضطرت مصر حينها للاستدانة لتمويلها أو الاعتماد على دعم الدول المصدرة للنفط، إضافة إلى دعم وتمويل الاتحاد السوفياتي قبل عام 1973.
تشير المعلومات المعتمدة على بيانات الموازنة المصرية، الى أن الإنفاق العسكري كان في حدود 510 ملايين دولار في عام 1967، أي ما يمثل 8,9 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي. وارتفع الإنفاق العسكري إلى 1,25 مليار دولار في عام 1973، ممثلا 13,5 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
لا شك في أن تلك المخصصات للمجهود الحربي كانت عبئاً كبيراً على الاقتصاد المصري. وكان الرئيس الراحل أنور السادات يؤكد أن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 هي آخر حروب مصر. كانت أهداف القيادة المصرية آنذاك هي التحرر من تبعات الحرب والتوجه نحو السلام والتنمية وتخصيص الموارد المالية لتعزيز النهوض الاقتصادي وتحسين الأوضاع المعيشية للسكان.
تشير بيانات الموازنة المصرية، الى أن الإنفاق العسكري كان يمثل 8,9 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في عام 1967، وارتفع الى نحو 13,5 في المئة من الناتج في عام 1973
لم تكن مصر الدولة العربية الوحيدة التي واجهت تبعات الحروب وهدر الأموال على متطلباتها، وإن كانت هي الدولة العربية الأهم والأكبر في التضحيات. سوريا أيضا، عانت من الحروب مع إسرائيل منذ عام 1948، كما أنها خاضت عمليات أمنية في لبنان منذ عام 1976 من خلال تدخلها بعد نشوب الحرب الأهلية هناك. وفقدت سوريا إمكانات تطوير اقتصادها وتنمية القطاعات الحيوية مثل السياحة، ومثلت مخصصات العسكرة والمجهود الحربي ما يعادل 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي منذ أواسط الثمانينات.
كان من المفترض أن تكون عملية تحرير الجولان التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967 أهم الأهداف العسكرية لسوريا، إلا أن عقودا طويلة مرت دون التمكن من تحريرها، حتى بعد حرب 1973، ولم تتوصل سوريا وإسرائيل إلى تفاهمات لتحقيق السلام بينهما، كما فعلت مصر. لكن الإنفاق العسكري ظل مهماً بعد التدخل في لبنان، وبعدما أصبحت المؤسسة العسكرية أهم ركائز النظام السياسي، تحظى بأولوية الإنفاق قبل أي مؤسسة أو جهة أخرى في البلاد.
تحديات الصراع
لا يزال الإنفاق العالمي على التسلح كبيرا، فإحلال السلام في الدول المتقدمة والنامية لا بد أن يقابله خفض حاد في مبيعات السلاح وتوجيه الأموال إلى التنمية المدنية والتعليم والرعاية الصحية وحماية البيئة.
يذكر تقرير لمنظمة “أوكسفام” أن الإنفاق على التسلح والعسكرة بلغ 2,2 تريليون دولار في عام 2022، في حين يموت 9000 فرد يومياً بسبب المجاعات التي تولدها الصراعات والحروب. وقدرت هذه المنظمة أن العالم أنفق 112 مليار دولار، كمعدل سنوي، بين عامي 2018 و2022 على واردات السلاح.
لا يزال المجتمع الدولي غير مبال بالصراعات ويتعاطى معها بخفة، ولم يساند الدول العربية الرئيسة مثل مصر والسعودية لمعالجتها بشكل جدي لمنع تفاقمها، الأمر الذي يمكن أن يعزز خطر التطرف ووجود المنظمات الإرهابية في بيئات حاضنة
وكانت الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والصين وألمانيا أهم الدول المصدرة للسلاح. وبينت التقارير أنه خلال الفترة بين 2018 و2022، كانت الدول العربية من أهم البلدان المستوردة للسلاح من مصادره الرئيسة السابق ذكرها، بعد الهند. حصلت السعودية على 9,6 في المئة من قيمة الأسلحة المصدرة، تلتها قطر بنسبة 6,4 في المئة ومصر بنسبة 4,5 في المئة. لا شك أن استمرار الدول العربية في استيراد السلاح وتخصيص مبالغ مهمة لذلك بدلاً من توجيهها الى التنمية والمرافق الاقتصادية الحيوية، هو نتاج استمرار الأخطار الأمنية والاقليمية في هذه المنطقة من العالم، ومنها التهديدات الإيرانية والصراع في اليمن واستمرار المخاوف من الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
ولا يزال المجتمع الدولي غير مبال بهذه الصراعات ويتعاطى معها بخفة، ولم يساند الدول العربية الرئيسة مثل مصر والسعودية لمعالجتها بشكل جدي لمنع تفاقمها، الأمر الذي يمكن أن يعزز خطر التطرف ووجود المنظمات الإرهابية في بيئات حاضنة في عدد من المجتمعات العربية.
تعنت وآمال
راودت الآمال بتحقيق السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين الحكومات العربية، خصوصاً السعودية ومصر والأردن والإمارات، إلا أن التعنت الاسرائيلي مع استمرار هيمنة اليمين الديني والصهيوني في إسرائيل، بدد هذه الآمال وعزز التطرف وساهم في تأجيج الصراع كما يحدث الآن في غزة.
كيف يمكن انتشال الفلسطينيين واليمنيين وغيرهم من فقراء العرب من أوضاعهم المعيشية المزرية دون وقف الصراعات وتبني برامج تنموية متوافق عليها محلياً واقليمياً ومدعومة من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصناديق العربية والتنموية ذات الصلة؟
هذه تحديات حقيقية ستواجه العالم العربي خلال السنوات المقبلة في ظل تطورات غير مسبوقة في الصناعة والتكنولوجيا وتحولات محتملة في اقتصادات الطاقة، في حين تبقى المتغيرات الديموغرافية في الدول العربية صعبة وعصية على المعالجات الحكيمة.