لا يُنصح بالبحث السياسي الذي يستشرف وضعاً معيّناً، حين تكون نيران الحرب مشتعلة وتخطف أنظار العالم، وتقسمهم ما بين طرفي الحرب غير المتناسبين على الإطلاق. وكذلك، لا يمكن لعربي أن يبحث في القضية الفلسطينية ببعض الحكمة أو ملازمة العقلانية، وهنالك حالة قاسية في غزة من قتل وتدمير وقصف مجنون، لا يستثني جسماً متحرّكاً أو ثابتاً على الأرض، مع فقدان للغذاء والماء والوقود والمواد الطبية الضرورية. هنا لا بدّ من إعلان الانحياز ضدّ الطغيان الإسرائيلي باستهداف المدنيين، رغم احتمائها بغطاء لا يستر، قدّمته حماس باستهدافها أيضاً للمدنيين، حين بدأت الهجوم وأفقدت فلسطين بعض أصدقائها ومؤيّديها في العالم. في حين لم يكن القول إنّ ذلك جاء ردّاً على هجمات المتطرّفين اليهود على الأقصى كافياً لتبرير ما حدث في الساعات الأولى من صباح السابع من أكتوبر، لم تعد تلك الهجمات موجودة إلا قليلاً على ردود الفعل الواسعة على الحدث!
غير واضح حتى الآن أيّ أفق لوقف إطلاق للنار، يعني إسرائيل خصوصاً، لأن نيرانها هي السائدة، وتغطّي مساحة الرؤية في المشهد الآن، وإلى زمن لا يمكن التنبّؤ بطوله حالياً، وهناك من يتنبأ باستمراره لسنوات مقبلات. يبدو صحيحاً أن التركيز على المساعدات الإنسانية ووقف استهداف المنشآت الصحية والحيوية هو المهمة الأولى، إضافة إلى ذلك وعلى هامشه، ينبغي تدارك الوضع مع احتمالات ابتداء الاجتياح البرّي، بحيث لا تنتهي البنية التحتية لقطاع غزة إلى الدمار الشامل، الذي ابتدأت ملامحه الأوليّة تظهر للعيان.
لا يُنصح بالبحث السياسي الذي يستشرف وضعاً معيّناً، حين تكون نيران الحرب مشتعلة وتخطف أنظار العالم، وتقسمهم ما بين طرفي الحرب غير المتناسبين على الإطلاق
رغم ذلك كلّه لا بدّ من تلمّس بعض ملامح الفترة المقبلة وانعكاساتها على المسألة الفلسطينية، في إطار الصراع في المنطقة، الذي يُحتمل أن يتطوّر أيضاً، مع إدراك الرغبات الإيرانية – مهما كانت مكبوتة الآن- لتطبيقات أوسع نطاقاً لسياسات إثارة القلاقل التي تحيا عليها وتستمر. هنا يبدو أن الأدوات الإيرانية ووحداتها الأمامية شبه المستقلة، كحزب الله والحوثيين، هي من يمكن أن تتقدّم أكثر في هذا الاتّجاه. لم يقل أي مراقب حتى الآن إن إيران كانت وراء حماس بالمعنى الكامل، لكنّ هنالك رأي غالب يقرّ بأنها متواطئة بالتحضير له، وبتأمين الموارد الضرورية، وربّما بتوقيته أيضاً. من دون ذلك لا يمكن فهم ردود الفعل العربية، المسكونة بالخطر الإيراني وتمظهراته، وميلها لإبداء سياسات أقرب بخطوتين معاً إلى الحيادية أمام الحرب، ولو أنها ليست كذلك تماماً. كلّ المواقف الرسمية وغير الرسمية تنضح بذلك، وكلمة الرئيس المصري في افتتاح «مؤتمر السلام» في القاهرة، حول عدم السماح بتصفية القضية الفلسطينية»، خصوصاً على حساب مصر، تثبت ذلك وتوحي به بوضوح. الملاحظة الأوليّة الأخرى، هي غياب مفهوم «حلّ الدولتين» من ساحة المشهد، وتراجعه إلى الوراء بقوة، إلّا من خلال بعض التصريحات الرسمية – أو الفائضة الرسمية – كالأمم المتحدة ومن في حكمها وتحت لحافها البلاغي. هذا ما سيحاول هذا المقال التوسّع قليلاً في معالجته، ما بين عنوانين أو خبرين عاجلين من أخبار الموت والدمار.
معروف أن ذلك الحلّ قد تأسس بشكل غير مباشر على نصوص القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي إثر حرب يونيو 1967، الذي كان نتيجة للهزيمة العربية الفاضحة للأنظمة العربية يومذاك، وبسرعة مذهلة. وقد انعكس على الجزء الفلسطيني من اتفاقيات كامب ديفيد، وفي اتّفاق أوسلو لاحقاً، وعلى العديد من القرارات والمواقف الدولية والإقليمية. في المساحة الفلسطينية، انعكس ذلك منذ البرنامج المرحلي، وتقدّم إلى الأمام من توقيت إلى آخر. لم تعرقل إسرائيل وحدها حلّ الدولتين، بل قام العرب والفلسطينيون أحياناً بذلك، وقد شكّل الانقسام الفلسطيني واستبداد حماس بأمر غزة بعد عام 2006 عاملاً مهماً في تلك العرقلة والامتناع عن التقدّم، إضافة بالطبع إلى استمرار وتطوّر السياسات الإسرائيلية الاستيطانية، خصوصاً في منطقة القدس والضفة الغربية عموماً. كان للقرار الإسرائيلي كذلك بالانسحاب من غزة وترك زمام الأمور لحماس، دور في تهتّك ذلك الطريق نحو الحلّ السياسي للنزاع. فشلت ببساطة كلّ محاولات» توحيد» الفلسطينيين ما بين السلطة في الضفة وحماس، الأمر الذي تغذْت عليه ميول الإسرائيليين الأكثر امتناعاً على الحلّ والحلحلة. ظهر واشتدّ بالتدريج طرح يقترح استبدال الدولة ثنائية القومية بحلّ الدولتين، مستنداً إلى ما كان يرد قديماً من الطموح إلى قيام دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين، وإلى استعصاء مسار حلّ الدولتين لكن ذلك عاد وخفت صداه في العقدين الماضيين، رغم محاولات بعض النخب الفلسطينية ومعها بعض تلك العربية. اعتُبر ذلك الاقتراح تخلّياً عن الاستناد إلى الشرعية الدولية، التي تعود قضيّتنا إلى حالة الإملاق من دونها.
يرى بعض الباحثين الغربيين أن «نتيجة الحرب الحالية في غزّة قد أصبحت واضحة بالفعل. فإسرائيل قوية جداً بالنسبة إلى حماس، إلى الحد الذي يجعلها قادرة على هزيمتها وإنشاء هيكل أمني جديد في غزة كما تريده. إنها تواجه تهديدا محدودا من الهجمات التي يشنها الفلسطينيون في إسرائيل والضفة الغربية، لكن من غير المرجح أن تتجاوز حوادث العنف المتفرقة، ومن الناحية العملية، سوف تكون إسرائيل قادرة على إنشاء ذلك الهيكل، بحيث يقتصر العمل الفلسطيني في إسرائيل والضفة الغربية على المظاهرات وأعمال العنف أو الإرهاب الصغيرة».
وكذلك يبدو أن إسرائيل لا تواجه أي تهديد جدي مباشر من قبل جيرانها، واحتمال أن يزيد حزب الله من هجماته الصاروخية أو تسلله عبر الحدود، لكنّ التفوّق الإسرائيلي سوف يستطيع بغزارة النيران وتعميمها أن يمنعه أيضاً. وإذا كان هناك من خطر قد ينشأ عن زيادة مخاوف مصر والأردن من تعرّضهما لموجات مهمة من اللاجئين، لن يصل حتماً إلى مستوى يهدّد إسرائيل بشكل جديّ. في حين ستبقى منطقة الخليج مشلولة عن أيّ فعالية، بسبب هيمنة القلق الناجم عن الاحتمالات من الناحية الإيرانية، يشترك مباشرة مع المصلحة الإسرائيلية بدوره.
أمّا إيران فلن يتجاوز تدخّلها – لو حصل – استهداف إسرائيل بصواريخ تستطيع إسرائيل أيضاً مواجهتها والردّ عليها بما يناسبها، وسوف يكتفي نظام الوليّ الفقيه بتحريك وتمويل وإمداد حزب الله وبقية القوى المرتبطة به في المنطقة.
يطرح هؤلاء الباحثون أن البديل عن حلّ الدولتين سوف يكون في «اللا- دولة»، حين تُدمّر البنية الأساسية والتحتية لحماس والقطاع، وتتناهى القوى المضادّة لها إلى جيوب يمكن التعامل معها مهما طال الزمن، لكنّ غزة سوف تكون في ذلك اليوم لو جاء، منطقة من دون مقوّمات «دولتية» فعلية، سوف تتحقّق المصلحة الإسرائيلية من خلال دعم بنيتها المدنية، وإغواء سكانها بالأمان والاستقرار وتجنّب الأخطار التي أعيتهم ولن يضيرهم لو انتهت. ربّما تنتهي الأوضاع في الضفة الغربية ومنطقة القدس إلى شيء من هذا القبيل، وتكون عندها قد انتهت إلى قضية مناطقية «غير وطنية»، أي أنها ستكون آمنة على إسرائيل، خصوصاً بعد أن تتغيّر الإمكانيات السياسية بتقليص عدد السكان المنتظر، باتّجاه الجوار أو بامتصاص بطيء من قبل بقيّة المنطقة والعالم.
قد يكون هذا حلماً ناتجاً عن قسوة المشهد الواردة من غزة، لكنّه إنذار على الهامش مما أنتجته سياساتنا الفلسطينية والعربية من ضرر على المسألة الفلسطينية العادلة. وبعد كلّ ما مررنا به حتى الآن، وأنتج سياسات عربية حيادية بالمعنى السياسي والتاريخي، لها بعض الشعبية التي لا يمكن إنكار وجودها، لست متأكّداً أبداً مما يمكن أن تأتي به الأيام والسنوات المقبلة. لن تكون خيراً بالتأكيد، ما أتمناه أن تكون أكثر حكمة وقدرة على العطاء بالشكل والمضمون المناسبين والمعاصرين.
كاتب سوري