زار الرئيس الأرميني فاهاكن خاتشاتوريان إقليم كردستان العراق، حيث التقى كبار المسؤولين، على وقع ظروف جيوسياسية شبه متطابقة بين الطرفين، إذ تتعرض أرمينيا لضغوط عسكرية متتالية من جارتها أذربيجان، المتحالفة مع قوى إقليمية ودولية، قد تهدد بقاء كيانها بحسب مراقبين، فيما يشهد إقليم كردستان تهديدات أمنية شديدة، بسبب الهجمات الإيرانية المباشرة، أو من القوى والميليشيات العراقية المقربة منها.
وصول الرئيس الأرميني إلى إقليم كردستان يأتي ضمن زيارته الرئاسية المطولة للعراق، والتي امتدت لثلاثة أيام، اجتمع خلالها مع كبار المسؤولين العراقيين، وجال على عدد من المؤسسات الثقافية والاقتصادية. والتوجه السياسي والاقتصادي الأرميني تجاه العراق راهناً، بحسب مواكبين سياسيين لزيارة الرئيس خاتشاتوريان، إنما يهدف إلى تقوية العلاقات الإقليمية لأرمينيا، بعد النكسة العسكرية والسياسية التي تعرض لها في المواجهة الأخيرة مع أذربيجان، بالذات مع الدول والتجمعات السياسية القريبة من إيران أكثر من تركيا في المحاور الإقليمية، ومنها العراق. كما تملك أرمينيا رؤية لتطور حضورها الاقتصادي في العراق في مجالات الطاقة والصناعات المتوسطة والأغذية، وهي لا تتجاوز حالياً أكثر من 200 مليون دولار سنوياً، وأغلبها يتم تصديره عبر دولة ثالثة، هي إيران، ولا تشهد انتعاشاً في القطاعات الطبية والسياحية، وهو ما يحاول الجانب الأرميني التأسيس له، عبر مجلس رجال الأعمال العراقي – الأرميني، المتفق على تأسيسه حديثاً.
وضع جيوسياسي خاص
إلى جانب تلك الملفات الاعتيادية بين البلدين، وبما أن إقليم كردستان جزء من التوجه والعلاقات الخارجية الكلية للعراق، فإنه يمتاز بوضع جيوسياسي خاص مع أرمينيا، تفرضه الظروف الراهنة، كما يشرح المؤرخ والباحث السياسي فيكين شيتريان في حديث إلى “النهار العربي”، ويقول: “إلى جانب دول وكيانات سياسية أخرى، فإن إقليم كردستان ودولة أرمينيا يجمعهما التشكيل الكياني الصغير للغاية، في ظلال دول وإمبراطوريات كُبرى تحيط بهما، وتعتبرهما جزءاً من إرثها السياسي التقليدي، ولا تملك تطلعاً ودوداً وإيجابياً تجاههما، وتسعى جاهدة لتفكيك تجاربهما المعاصرة، لأنهما تقريباً جزء من الشعوب الرئيسية الكبيرة التي تعرضت لإبادة ثقافية وعرقية وجغرافية وسياسية طوال القرن المنصرم، لم يبقَ منها إلا هذا الإرث المتواضع، الذي ثمة تطلعات لتصفيته”.
يتابع شيتريان: “وفقاً لذلك، الطرفان مدفوعان بإرث الماضي ومصالح الحاضر إلى أن يطورا علاقتهما السياسية والاقتصادية والسياسية إلى أبعد مدى، فالحدود البرية لإقليم كردستان لا تبعد عن نظيرتها الأرمينية إلا عشرات الكيلومترات، وضمن إقليم كردستان ثمة آلاف المواطنين الأرمن، كان لهم مقعد برلماني حتى قبل أسابيع، وضمن أرمينيا ثمة عشرات الآلاف من الأيزيديين الأكراد، والملايين من الأكراد على حدودها مع تركيا، هذا غير التداخل الثقافي والوجداني التاريخي بين الشعبين بحكم الجوار منذ آلاف السنين. فأرمينيا التي تعاني اليوم حصاراً سياسياً وعسكرياً، لها مصلحة في إعادة تدوير منطق اللعبة السياسية في المنطقة، ولأن تُحدث روابط ووشائج وعلاقات تجمع القوى الأصغر حجماً ونفوذاً، والتي يمكن أن تضم بلداناً مثل أذربيجان حتى، بغية الحفاظ على هذه التجارب الاستثنائية في المنطقة، تؤازر واحدة منها الأخرى”.
الزيارة الحالية لرئيس أرمينيا تأتي عقب اللقاء المطول الذي جمع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان مع رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني على هامش قمة ميونيخ للأمن أواسط الشهر الماضي، إذ قال مكتب رئيس الوزراء الأرميني وقتها إن الطرفين أكدا “التطوير المستمر للتعاون التجاري والاقتصادي، وضرورة توسيع العلاقات التجارية وتعميقها، وتبادلا وجهات النظر حول مواضيع أخرى ذات أهمية إقليمية”. ولقاء الطرفين يأتي عقب الزيارة الخاصة التي قام بها بارزاني لأذربيجان، ولقائه الرئيس إلهام علييف. فإقليم كردستان يحاول على الدوام خلق توازن في علاقاته الإقليمية، بالذات بين تركيا وإيران، والقوى السياسية الإقليمية المقربة منهما.
أوجه شبه
يتشابه إقليم كردستان مع دولة أرمينيا بكونهما منطقة “حبيسة بحرياً”، لا تطل على أي من المنافذ البحرية، ولأجل ذلك تحتاج على الدوام إلى منافذ لتصدير منتجاتها الاقتصادية، النفطية والزراعية بالذات، والتي تتم عادة عن طريق دولة ثالثة، غالباً ما تكون إيران أو تركيا. لكن الصناعات الغذائية والتقنية الأرمينية متطورة نوعياً عما في إقليم كردستان، كما تُعتبر أرمينيا رائدة في مجال الصناعات الغذائية، فمئات الأصناف من المواد الغذائية الأرمينية تصل إلى إقليم كردستان عبر إيران، بالذات في مجال السكائر والمشروبات الكحولية واللحوم الباردة. ويتطلع رجال الأعمال في إقليم كردستان إلى الاستفادة من تجربة أرمينيا، لوجود تطابق في البيئة الزراعية بين البلدين. كذلك تستفيد أرمينيا بطرق مختلفة من الجالية الأرمينية الضخمة خارج البلاد، مثل إقليم كردستان، اقتصادياً وسياحياً وثقافياً. فالجاليتان الأرمينية والكردية في الدول الغربية تُعتبران الأكبر حجماً والأكثر حيوية، تساندان التجربتين السياسيتين في المنطقة بزخم استثنائي.
زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني والسياسي الكردي المخضرم مسعود بارزاني تطلع خلال اللقاء الذي جمعه مع الرئيس الأرميني، والذي وصفه بـ”الحار”، إلى العلاقات التاريخية التي تجمع الشعبين، معبراً عن “شكره للرئيس ودولة أرمينيا على احترام حقوق الأكراد الذين يعيشون في أرمينيا…”، ومؤكداً “أن السلام هو السبيل الوحيد لحل مشكلات شعوب المنطقة والأجيال القادمة”.