لا تتعامل الولايات المتحدة، بإداراتها الجمهورية أو الديموقراطية، مع قضية فلسطين باعتبارها قضية سياسية، وكقضية تحرّر وطني، على قاعدة حق تقرير مصير لشعب، وإنما باعتبارها قضية تقنية يمكن تفكيكها وإيجاد حلول ما لها في الإطار التقني والفردي والخدماتي، ما يفترض إيجاد حكومة شكلية، من دون سيادة على الأرض والمعابر والموارد، مع رئيس وحكومة وعلم ونشيد وسفراء وتمثيل خارجي، وموازنة، وأجهزة أمنية، وإقليم معين تسيطر عليه.
تفسير ذلك لا يتعلق فقط بالعقلية البراغماتية التي تسم الطبقة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، تاريخياً، وافتقادها لتقاليد الدول المستعمرة، لا سيما بريطانيا، في المستعمرات الأوروبية السابقة، في آسيا وإفريقيا، إذ يعود ذلك، أيضاً، إلى اعتبارها أنّ إسرائيل هي الدولة ذات السيادة في ما بين النهر والبحر، في فلسطين التاريخية، وأنّ الفلسطينيين، وهم أصحاب الأرض الأصليين، مجرد سكان مقيمين، يمكن إيجاد حلول ما لهم، وحتى منحهم نوعاً من حكم ذاتي، أو أعلى قليلاً، أي شبه دولة، منزوعة السيادة، كما قدّمنا.
ولئن أدركنا طبيعة السياسة الأميركية إزاء قضية الفلسطينيين، يبدو طبيعياً، بالنسبة لإدارة بايدن أن تقترح، والأصحّ تضغط، على القيادة الفلسطينية لتشكيل حكومة تكنوقراط، أي حكومة إدارة وخدمات، من دون أن يكون لها أي معنى سياسي، أو وضع سيادي، بغرض تمرير مرحلة ما بعد حرب إسرائيل على قطاع غزة، المستمرة منذ خمسة أشهر، وللتنسيق مع الأطراف الدولية في المرحلة الانتقالية، خصوصاً لضبط الأوضاع، واستقبال المساعدات المقدّمة لفلسطينيي غزة، وترتيب ما يتعلق بإعادة الإعمار في القطاع.
بديهي فإنّ تلك الخطوة تنبني على تهرّب الولايات المتحدة من مسؤوليتها عن حرب الإبادة والتدمير التي شنّتها إسرائيل ضدّ غزة، وتجاهلها لواقع الاحتلال الإسرائيلي الواقع على الشعب الفلسطيني، بالضدّ من قرارات كل هيئات الأمم المتحدة.
في كل ذلك، فإنّ القيادة الفلسطينية تبدو في وضع صعب، إذ ضعفت مكانتها بشكل أكبر بسبب تلك الحرب، مع ضآلة أدائها فيها، فهي لم تكن مهيأة لأخذ زمام المبادرة في أي مجال، وهي ليست طرفاً في التفاوض على وقف الحرب، لا سيما لانعدام الثقة بينها وبين “حماس”، علماً أنّ ذلك يلبّي غرض إسرائيل في إضعاف سلطتي الضفة وغزة، ويقوّي الضغوط على القيادة الفلسطينية، أي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، ما يذكّر بالابتزاز الذي تعرّضت له تلك القيادة إبان التحضير لمؤتمر مدريد (1991)، إذ تمّ تجنبّها، لصالح وفد فلسطينيي الداخل، في الوفد الأردني – الفلسطيني المشترك، آنذاك، ما استدرجها للذهاب نحو مفاوضات سرّية، نجم عنها اتفاق أوسلو (1993)، المجحف والناقص، والذي بدا فيه أنّ القيادة الفلسطينية فاوضت على تعويم مكانتها كمفاوض باسم الفلسطينيين، وكممثل لهم، ثم كسلطة عليهم.
للأسف فهذا يحصل الآن، إذ أنّ القيادة الفلسطينية (برئاسة محمود عباس) في أكثر لحظاتها ضعفاً، فهي افتقدت للشرعية الدستورية، إذ لم تجر انتخابات رئاسية أو تشريعية منذ أكثر من عشرة أعوام، ثم إنّها لا تمتلك شرعية كفاحية، إذ تشتغل كسلطة على شعبها، فقط، ويفاقم من ذلك وصمها بالفساد، وتعمّدها إضعاف المجتمع المدني الفلسطيني (وهذا يشمل السلطة في غزة أيضاً)، إضافة إلى ارتهانها في مواردها للدعم الخارجي، وعلى عوائدها من أموال المقاصّة، التي تتحكّم بها إسرائيل.
الفكرة هنا أنّ القيادة الفلسطينية إذ تذهب نحو الانصياع للمطالب الخارجية، الأميركية أساساً، في شأن تشكيل حكومة تكنوقراط، تحاول تعويم ذاتها، وتعزيز مكانتها كسلطة، والحؤول ما أمكن دون سعي إسرائيل تكريس فصل الضفة عن غزة، عبر اتباعها لإدارة مدنية إسرائيلية، أو عبر تشكيلة فلسطينية تكون موالية لها.
رغم ذلك، فإنّ تلك المحاولة في التكيّف مع المطالب الخارجية، ستضعف من مكانة القيادة الفلسطينية إزاء الأطراف الدوليين، وإزاء شعبها، بل إنّها ربما تضطرها نحو مزيد من التنازلات للمطالبات الأميركية والإسرائيلية، لأنّها لم تقم بما عليها منذ زمن (محمود عباس له في الرئاسة منذ العام 2005)، في تعزيز كيانات السلطة، وتقوية المجتمع المدني، وتنشيط دور منظمة التحرير، بدليل إنّها تقدّم التنازلات للضغوط الخارجية، في حين لم تستجب لمطالب الإصلاح والتغيير الداخلية، ولحاجات التطور الذاتي، التي ظلت تقاومها وتجهضها بشدة.
الواقع إنّ القيادة الفلسطينية ضعيفة، بضعف كياني المنظمة والسلطة، وبحكم إضعافها المجتمع المدني، وأيضاً بسبب تآكل الفصائل، التي بالكاد يمكن ملاحظة دور لها، في المجتمع الفلسطيني، وفي الكفاح ضدّ إسرائيل، وما يزيد هذا الضعف الحال المأسوية في غزة.
وللتذكير، فإنّ حكومة التكنوقراط الآتية ستكون الحكومة الـ19 منذ إنشاء كيان السلطة الفلسطينية (1994)، منذ ثلاثة عقود، وقد شغلها سبعة رؤساء حكومات، هم: ياسر عرفات (1994 ـ 2003) الذي جمع رئاسة المنظمة والسلطة والحكومة و”فتح”، ومحمود عباس (عدة أشهر عام 2003)، أحمد قريع (2003-2006)، وإسماعيل هنية (2006-2007)، وسلام فياض (2007-2013)، ورامي الحمد الله (2013-2019)، ومحمد أشتية (2019-2024)، علماً أنّ ثمة رؤساء وزارات شكّلوا أكثر من حكومة (هنية، وفياض، والحمد الله).
عموماً، فإنّ تشكيل حكومة تقنية فلسطينية، مهما يكن نوعها، سيُبقي التحدّي السياسي قائماً، وسيتشكّل فراغ، لا أحد يعرف من سيملأه في ظل تهتّك جسم السلطة، وتهميش منظمة التحرير، وغياب فاعلية كل القوى السياسية الفلسطينية، وفي ظل واقع دولي وعربي غير مؤاتٍ، بخاصة بعد كل هذا الخراب الذي أحاط بقطاع غزة، ونكبة فلسطينيي غزة. وبالتأكيد فإنّ على رأس قائمة تلك التحدّيات بالنسبة للفلسطينيين تفويت استهدافات حكومة بنيامين نتنياهو، التي تحاول شطب القضية الفلسطينية من جدول الأعمال العربي والدولي، وشطب فكرة الدولة الفلسطينية، وترويع الفلسطينيين من النهر إلى البحر، لإخضاعهم، وتحويل قضيتهم إلى مجرد قضية تقنية وإنسانية وخدماتية، بالتساوق مع الرؤية الأميركية لحل القضية الفلسطينية.
بديهي أنّ هذا التحليل مرتبط بمآلات حرب إسرائيل على غزة، وبمدى قدرة “حماس” على إيجاد معادلات سياسية تسمح لها بالانخراط في الكيانات الفلسطينية الجامعة (المنظمة والسلطة)، إذا أمكن ذلك، كما إنّه مرتبط بالتطورات الإقليمية، سواءً وقف الحرب أو توسّعها.