المستعربون: فِرَق الموت الإسرائيلية المُتخفّية.. ريهام المقادمة..المصدر:الجمهورية نت
في كانون الثاني (يناير) الماضي اغتالت وحدةٌ من قوات المستعربين في جيش الاحتلال الإسرائيلي ثلاثة شبان فلسطينيين في مستشفى ابن سينا في مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، لتُعاود قوات المستعربين الكَرّة في شباط (فبراير) الجاري، وتختطف طالبَين فلسطينيَين من أمام مدخل جامعة بيرزيت شمال مدينة رام الله. جريمة الاغتيال الأولى وجريمة الاختطاف الثانية حدثتا في مناطق يُفترَض أنها تابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية.
اظهرت تسجيلاتُ كاميرا المراقبة في مستشفى ابن سينا أن عناصر المستعربين كانوا متنكرين في أزياء مدنية، ما بين ممرض وطبيب ورجل مسن وسيدة محجبة، وغير ذلك من أنواع اللباس المختلفة التي تُعطي هيئة تُخفي هوية صاحبها، الأمر الذي تكرَّرَ في جريمة اختطاف الشبان من أمام الجامعة. هذا الواقع ليس جديداً، ولا هو نِتاجُ الحرب على غزة، بل هو نهجٌ تعود جذوره لأكثر من سبعين عاماً، يتكثّف الآن كما كلُّ مظاهر الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية.
من هم المستعربون؟
يقول جوني منصور، المؤرخ الفلسطيني والباحث المتخصص في دراسات الصراع الإسرائيلي- العربي،: «يتمتع المستعربون بمكانة محترمة في المشهد الإسرائيلي، خاصة أن العمليات الإرهابية التي يقومون بتنفيذها ضد الفلسطينيين تَلقى وقعاً حسناً وتشجيعاً، وتعكس بطولات يجري الحديث عنها في الشارع العام داخل إسرائيل، بكون هؤلاء (أي المستعربين) يؤدون رسالة إنسانية أساسها توفير الحماية للمجتمع الإسرائيلي، الذي يتعرّض وفق الرواية والسياسة الإسرائيلية إلى الإرهاب من قبل الفلسطينيين».
بالعودة إلى جذر الكلمة، الذي يُحيلنا مباشرة إلى أصل القصة، فإن «المستعربين» وبالعبرية «المستعرفيم» كلمة مُشتقَّة من «استعراب»، أي تبنّي حياة العرب بكل تفاصيلها الشكلية والفكرية. يتم اختيار العنصر في قوات المستعربين «على الفرّازة» كما تقول الكلمة الدارجة، وفق مواصفات محددة أبرزها السحنة الشرقية، والمظهر الجسدي المماثل لهيئة الفلسطيني أو العربي، وإتقان اللغة العربية باللهجة المحلية، بحيث يبدو كأيّ مارٍّ في الشارع.
لا تقف الوصفة عند هذا الحد، فكل هذه المؤهلات لا تجعل من صاحبها مستعرباً، إنما عليه أن يخضع للتدربيات مكثفة مصحوبة بدروس حول العادات الاجتماعية والدينية للفلسطينيين، بالإضافة إلى تدريبات ميدانية وعملياتية. تتراوح مدة التدريب من 12 إلى 15 شهراً حتى يصبح المستعرب جاهزاً، بحيث لا يُثير شكوك الجماعات الفلسطينية التي عليه أن يختلط فيها، سواء بهدف استخباراتي فقط أو لتنفيذ عمليات خطف واغتيال.
هكذا يتم إنشاء وحدات أمنية سرّية وخاصة تابعة لجيش الاحتلال أو شرطته أو أجهزته الأمنية، أبرز ألقابها هو فِرَقُ الموت، وعادة ما يظهر عناصرها في المظاهرات الفلسطينية على نقاط التماس، حيث يكون الشبان الفلسطينيون على بعد أمتار قليلة من المواجهة مع جنود الاحتلال الإسرائيلي، ونظراً لقنابل الغاز المسيل للدموع وأنظمة المراقبة المكثّفة في هذه الأماكن، يرتدي الشبان الكوفية ويغطّون وجوههم بها، وهو ما يفعله المستعربون أسوة بالشبان الفلسطينيين، فيتسلّلون بينهم إلى حين توافر فرصة مناسبة للانقضاض على الشبان وضربهم وجرِّهم للاعتقال.
بعد سنوات طويلة من توثيق الصحفيين للَحظات المواجهة بين الشبان الفلسطينيين وجنود الاحتلال، استطاعوا أن يدركوا اللحظة التي يخترق فيها المستعربون المشهد من المواجهة، فحسب شهادات حية ، يقوم جنود الاحتلال بتهيئة الشارع لدخول المستعربين، تتوقف قنابل الغاز المسيلة للدموع ويتوقف إطلاق الرصاص أيضاً، وتسود حالة من الهدوء في منطقة كانت محتدمة منذ دقائق، وهذا الهدوء المؤقت الخاطف هو ما يحتاجه المستعربون للاندماج مع الفلسطينيين. بعد تحقيق الغاية المرجوة بالاقتراب إلى مسافة صفر من الشبان الفلسطينيين، يكشف المستعربون عن أنيابهم ويبدأون بضرب الشبّان وجرّهم إلى مكان يستطيع فيه جنود الاحتلال اعتقالهم. في بعض الصور التي يلتقطها الصحفيون للّحظات التي تعقب خطف الشبان من قبل قوات المستعربين، يظهر الأخيرون وهم يحملون مسدسات بحجم صغير ويرتدون قبعات عليها كلمة «شرطة» بالعبرية، وذلك لتمييزهم بالنسبة لجنود الاحتلال، حتى لا يختلط مظهرهم مع مظهر الشبان الفلسطينيين.
يقول محمود غانم، وهو اسم مستعار لشاب فضَّلَ إخفاء هويته: «أول مرة بحياتي شفت مستعرب ما كنت فاهم ولا عارف مين هدول. كان حواليي شباب كتير كلهم مغطيين وجوههم، فجأة لقيت شباب لابسين متلي بيضربوني وبسحبوا فيي عند الجنود. عرفت بعدين أنه هدول قوة خاصة من المستعربين، لو ما صار معي هيك كان مستحيل قدرت أميزهم».
كان المستعربون يلبسون بلوزات طويلة تخفي منطقة الخصر التي يضعون فيها أسلحتهم في السابق، وهو الأمر الذي جعل الشبّان الفلسطينيين بعد تجارب عديدة يميزون طريقة لباسهم، فراحوا يضعون ملابسهم داخل البناطيل التي يلبسونها ليميزوا أنفسهم عن المستعربين، الذين طوروا أساليبهم بالمقابل وراحو يخفون أسلحتهم بوسائل أخرى.
ولا يقتصر دور المستعربين على اعتقال الشبّان الفلسطينيين، بل قد تكون مهمتهم استخباراتية فقط، وبالمقابل قد تصل في أحيان أخرى حدَّ الاغتيال المباشر.
حسب المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار ، هناك 4 وحدات تنشط للمستعربين، أبرزها وحدة «دوفدفان» التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، التي برزت خلال فترة اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، وتهدُف لتنفيذ عمليات اعتقال. وأيضاً وحدة «ي.م.س» التابعة لقوات حرس الحدود، التي تنضمُّ للجيش في زمن الحروب، وهي من أكثر القوات نشاطاً في الضفة الغربية، وتنشط بشكل أساسي مع جهاز الأمن العام «الشاباك». كذلك وحدة «متسادا» التابعة لسلطة السجون، وتُستخدمُ بشكلٍ أساسي في قمع مظاهرات الضفة بالإضافة لإلقاء القبض على من يهرُبون من السجون. وأخيراً وحدة «غدعونيم» التابعة للشرطة، وهي تُنفِّذُ مهمات خاصة وتُركِّزُ في عملها على مدينة القدس.
ماذا تحمل فِرَق الموت في جعبتها؟
لو سألنا أي شاب فلسطيني حول الهدف الأساسي من تواجد المستعربين خلال المظاهرات والمواجهات بين الشبّان الفلسطينيين وجنود الاحتلال، سيجيب بكل بساطة: تفريق التظاهرات وتحريض الشبّان على أفعال قد تؤدي إلى اعتقالهم، وذلك من خلال افتعال كثير من المظاهر التحريضية، ما يوفّر غطاءً لقمع قوات الاحتلال للشبّان الفلسطينيين باستخدام كل أشكال العنف الممكنة.
لا خطوط حمراء لدى المستعربين، من التنكّر وصولاً إلى التنفيذ، وقد يتنكرون بأي شكل كان للوصول إلى غايتهم، بما في ذلك استخدام أزياء المُسعِفين، وقد سبق وأشرنا أن هدف المستعربين قد يصل إلى حد الاغتيال كما حدث في عملية مستشفى ابن سينا، التي كانت عملية واضحة ومخططاً لها تهدف إلى قتل الشبان. وهذا ليس جديداً على أي حال؛ خلالالانتفاضة الاولى قُتل نحو 29 فلسطينياً على يد القوات السرية «المستعربون».
يقول إبراهيم سعيد، وهو اسم مستعار لشاب فضَّلَ إخفاء هويته: «كنا طالعين الصبح أنا وصاحبي على الشغل عادي، فجأة لقيت سيارة بتوقف في نص الشارع، وبينزل منها شباب لابسين مدني وحاملين سلاح، هجموا عَلَيّ في لحظة ووقعوا صاحبي على الأرض، بلشوا يضربوا فيي وحطوني في السيارة، ما كنت فاهم شي ولا عارف أنا وين رايح».
هذا المصير يتشاركه شبّان فلسطينيون في كل مدن الضفة الغربية؛ يقول سامر رأفت، وهو أيضاً اسم مستعار لشاب فلسطيني: «كل أسبوع إحنا في القرية بنعمل تظاهرات سلمية رفضاً منا لكل أشكال الاحتلال. بالعادة في المظاهرة هاي لأنها لأهالي البلد ما حدا فينا بكون ملثّم، الجيش بس شافنا صار يضرب علينا قنابل غاز، بعد شوي سكت، وصار في بالمظاهرة شباب ملثمين وبضربوا حجار، قربت جمبهم وصرت أرمي حجار، طَخّ عَلَيّ الجندي، صابتني رصاصة في رجلي، صاروا الشباب الملثمين يسحبوا فيي، فكرت قاعدين ببعدوني، طلعوا بجروني عشان ياخدوني لَجيب الاحتلال».
يخوض الفلسطينيون تجربة ميدانية تجعلهم أكثر خبرة في كشف المستعربين مع مرور الوقت، أو بشكل أدق كشف كل من لا ينتمي إليهم ولا يعرفونه، لكن في أوقات ازدياد القمع من قبل جنود الاحتلال قد يختلط الحابل في النابل، وتكون هذه فرصة لدخول وحدات من المستعربين لتنفيذ عمليات اعتقال أو اغتيال مباشر.
المستعربون الأوائل
لا يخلو واقع الاستعمار الحالي وممارساته من ميراث استعمار سابق عايشه الفلسطينيون، وهو الاستعمار البريطاني الذي تأسّست فكرة المستعربين على يده، حين اقترح البريطانيون عام 1941 على القيادة الصهيونية استغلال الإمكانيات والقدرات الموجودة لدى اليهود الشرقيين الذي يعيشون في فلسطين، واختيار مجموعة منهم وتحويلهم إلى وكلاء استخبارات يتم توزيعهم في المناطق العربية داخل وخارج فلسطين، تحديداً بعد وقوع فرنسا تحت الاحتلال الألماني، وبالتالي وقوع لبنان وسوريا تحت السيطرة الألمانية، ما شكَّلَ خطراً على القواعد الحربية والمواقع الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
نضجت هذه الفكرة ولم تقف عند هذا الحد. في العام 1943 أعلن قائد «البالماح» إسحق ساديه ونائبه يغال ألون عن ضرورة تبني الفكرة لخدمة المشروع الصهيوني وإقامة دولة يهودية في فلسطين، وأطلق حينها على المجموعة الأولى من المستعربين اسم «هشاحار» أي الفجر. هي سرايا تم إنشاؤها من أجل مواجهة احتمال قيام قوات ألمانية بغزو فلسطين بعد سقوط فرنسا. عملت وحدة «هشاحار» فترةً استمرّت حتى نهاية 1950، أي بعد النكبة الفلسطينية، وتركَّزَ عملُها على تجميع المعلومات داخل وخارج فلسطين، وزرع عملاء بهوية عربية كأدوات استخباراتية.
في تسجيل صوتي لصموئيل موريا الشهير بـ«سامي»، أحد مؤسسي وحدة المستعربين الأوائل، يقول إن هناك مستعربين يكونون خارج الحدود الفلسطينية ولديهم مهمات طويلة الأمد، أهمها أن يكونوا مزروعين في الدول العربية، ويقتصر دورهم على تنبيه إسرائيل في حال تنوي إحدى الدول العربية مهاجمتها. أشار صموئيل في التسجيل أنه هو بنفسه كان موجوداً في بيروت ودمشق سابقاً، وتنكَّرَ بهيئة مسلم شيعي.
عقبَ إنشاء إسرائيل، وفي العام 1952، قرَّرت القيادة الإسرائيلية تشكيل وحدة قادرة على التغلغُل في المجتمعات العربية وجمع معلومات وتنفيذ مهمات محددة، فأسَّست أولى تلك الوحدات في جهاز الأمن الداخلي «الشاباك». وفي العام 1986، أثناء تولّي رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك قيادة ما يسمى باللواء الأوسط في الضفة الغربية المحتلة، أسَّسَ وحدة خاصة قبل أشهر من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عُرفت باسم وحدة «دوفدفان» أو الوحدة رقم 2017، وهي وحدة خاصة بـ«مكافحة الإرهاب»، يُقدَّر عددها بالمئات وتضمّ عناصر الجيش وشرطة حرس الحدود. نشطت هذه الوحدة، التي تُعتبر إحدى فرق المستعربين، في جمع المعلومات الاستخباراتية، وتنفيذ عمليات دهم واعتقال، وتنفيذ عمليات اغتيال، وإحباط أي هجمات أو عمليات فلسطينية مُسلَّحة.
يقترب الفلسطينيون اليوم من خمسة أشهر من الإبادة الجماعية في غزة، يقابلها تصاعد يومي في جرائم الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، أسفر عن استشهاد نحو 411 فلسطينياً حسب وزارة الصحة الفلسطينية، ونحو 7270 معتقلاً حسب نادي الأسير الفلسطيني. كل هذه الجرائم اليومية، التي تمسّ كل مناحي حياة الفلسطينيين في مناطق الضفة الغربية من شمالها إلى وسطها وجنوبها، لم تُحرك ساكناً لدى قادة السلطة الفلسطينية. وبينما يسكن العجز في كل زاوية وشارع، يمرّ خبر استقالة حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية مرور الكرام، دون التفات شعبي إلى وضع السلطة التي أصبح جلياً أنها لا تملك من أمرها شيئاً، ليصبح الفلسطينيون في الضفة وغزة مُعلَّقين بين إبادة مستمرة ومستقبل سياسي مجهول.